أحمد اسماعيل اسماعيل
(ثمة تابوت يتوسط غرفة معتمة، ينبعث من داخله صوت رجل يتململ ويدمدم، لينهضَ بعدها من رقدته وهو متضايق. يُبعد البطانية التي كانت تغطيه ويهبُّ واقفاً، سرعان ما ينكمش ويلفُّ حول جسده الكفن الذي يكاد ينزلق عنه، إنه رجل عجوز في نهاية العقد السابع من العمر)
يا إلهي. هل أنا في حلم أم في يقظة؟!
(يقف ويلتفت حوله باستغراب. يسير في فِناء الغرفة كالمسرنم، يتحسس بعض محتوياتها. يلمس زر التيار الكهربائي فيضيء مصباح الغرفة ذات الجدران الباهتة، يلتفت حوله بذهول وهو يشاهد نفسه في غرفته التي تحوي خزانة ذات بابين ومرآة، وثمة كرسي قديم، صورة قديمة معلقة على الجدار، يظهر فيها هو وزوجته المتوفاة وهما أكثر حيوية وأصغر سناً) غريب، لم يحدث أنْ تعريت يوماً إلا عندما استحم، وهذا لا يحدث سوى في الحمام، أمَّا هنا، في غرفتي (يقع بصره على التابوت) ماهذا؟! إنّه يشبه التابوت، إنّه تابوت! ماذا يعني هذا؟
(يتحسس جسده وبعض أشياء الغرفة. يقف في حالة ذهول وتأمل، يتوجه إلى الباب، يهمُّ بالنداء)
ماذا تفعل يا رجل، هل جننت؟ إنك عار من الملابس تماماً! ماذا لو شاهدك أحدهم، زوجة ابنك مثلاً؟! ما أنا فيه ليس حقيقة، لا. لا. إنه حلم، وهذه ليست المرَّة الأولى التي أشاهد فيها نفسي في الحلم وأنا ميت. (بسرور مفاجئ) يقال أن الموت في الحلم عمر مديد، يعني ستعيش طويلاً يا مصطفى.(فجأة. بسخرية) أعيش طويلاً؟!
(ينظر إلى الصورة التي تجمعه مع زوجته) لابدَّ أنكِ تضحكين في سرِّك الآن وتقولين: (يقلدها) لقد أصبت بالخرف يا أبا عزيز، كان عليك اللّحاق بي فور رحيلي، لتوفرَ على نفسك هذا الشقاء.
صدقيني يا عزيزتي لقد متُ بعدكِ أكثر من مرَّة وعدت، نعم، مت ثم عدتُ من الموت، وفي مرَّة أُغميَّ عليّ فجأة وبقيت غائباً عن الوعي فترة غير قصيرة، حتى ظنوا أني متُّ، وعندما نهضت قالوا: لقد بكينا عليكَ كثيراً، قلنا أنتهى كلَّ شيء، لقد مات، حتى أن جارنا أبا يارا سارع إلى حفر قبر لك، وفجأة فتحتَ عينيك (يضحك بقهر) طبعاً كان ذلك مفاجأة غير سارة لهم، للكبير منهم وللصغير أيضاً، لقد تأكدت من ذلك عندما سألني حفيدك آرام بعد هذا الحادث (يقلده): جدي، متى ستلتحق بجدتي؟
فأجبته ممازحاً: إنني انتظر مكالمة هاتفية من جدتك ياولدي، وما أن تتصل بي وتطلب قدومي، حتى أذهب إليها على الفور. ومن يومها لم تنقطع كَنَّتك زوج ابنك عن سؤال ابنها هازئة: (يقلدها) هل اتصلت بجدتك يا بُنيّ؟ إذا اشتريت لك هاتفاً فهل ستتصل بجدتك يا روح ماما؟ هل تعرف رقم هاتف جدتك يا عيون أمَّه؟
(بحزن) أعرف ماذا تقصد، وابنك قليل الشرف يعرفُ أيضاً ماذا تقصد زوجته، ولكنَّه يضحك في سرِّه دائماً كقواد. إنَّها امرأة سفيهة، دائمة الشكوى والتبرم، أما السبب؛ فهو أنا، مرَّة من طريقة أكلي، ومرَّة من حديثي الذي لا طعم له ولا معنى مع الضيوف؛ تصوري أنها تشكو حتى من قضاء حاجتي في المرحاض، نعم، أقسم بالله، إنها تضيق بها لأنني أتردد عليه أكثر من المعتاد، وأقضي وقتاً طويلاً فيه. وأمر ذلك ليس بيدي، إنَّها أمراض الشيخوخة كما تعلمين. لم يحدث مرة أن سمحت لي بقضاء وقتي في المرحاض، ما أن أتاخر قليلاً حتى تبدأ سمفونيتها (يقلدها وهو يروح ويجيء بحماس) لا أعرف هل هذا مرحاض أم مقهى؟ الولد سيعملها تحته والسيد جالس مرتاح وكأنه في نزهة؟ يا ناس، يا عالم..ما الحل مع هذه المصيبة؟!
طبعاً ليس هذا فقط، بل كلام يسمم النفس والبدن. آآخ يا عزيزتي، آآآخ لماذا رحلت باكراً؟
لقد تركتني في هذه الحياة كطفل يتيم يتسول الشفقة وكَسرة الخبز، ليس من الكَنَّة فقط، بل من الجميع، حتى من ابنتك الحنون التي لم تَعدْ تسأل عني إلا في المناسبات، أما ابنك الآخر: رشيد، فقد شدًّ الرحال بعد سنة من الأحداث التي عصفت بالبلد، وهاجر مع قوافل الهاربين من جحيم الحياة هنا، لم يعدْ لدي سندٌ في الحياة، لقد كنتِ سندي وقُرة عيني، لم تقصري يوماً في تقديم يَدَ العون لي، لقد بذلت ما في وُسْعك من تعب وجهد، عملت في خياطة ثياب نساء الحيَّ وأطفاله، ولم تَكفّي عن العمل حتى انحنى ظهرك وانطفأ نور عينيك، ولولا عملك وتعبك لبقينا بلا منزل، ما كنت أتقاضاه من عملي كموظف في مكتب الحبوب كان، وبالكاد، يلبي احتياجاتنا الأساسية.
ولهذا السبب نعتوني بالأهبل(يبتعد عن الصورة، ويقلد بعضهم) :
-أهبل.
-كائن منقرض!
-انظروا إلى هذا الكائن الذي يزعم أنه شريف، ألا يثير الشفقة؟
-هاهاها.. هذا الغزال تائه في وادي الذئاب!
معهم حق، ما من إنسان في هذا البلد عمل في مكتب الحبوب، صغيراً كان أم كبيراً، إلا وأصبح من أصحاب العقارات: بيوت وسيارات وأرصدة في البنوك، وكلّ هذا من فضل ربي! (يضحك) بل من فعل الشيطان. ويتساءلون لماذا حدث ما حدث؟!
كنت أشاهد كل ذلك وأقول لنفسي: لا يا مصطفى، ابق شريفاً وطاهر اليد، ثم أنت في النهاية ماذا تريد؟ المال؟ طبعاً لا. إنه زائل؛ وسخ اليدين، ولم يكن لي طمع في زينة الدنيا سوى بالأولاد: أولاد حلال، والحمد لله كان لي ذلك، وعندما كبر الأولاد، وبدأ عزيز يعمل، قالت المسكينة: (يقلدها) لقد ربينا أولادنا بالحلال يا أبا عزيز، ولابدّ أن يكونوا أولاد حلال، طبعاً لأنهم رضعوا حليباً حلالاً.(بحنق) حليب حلال! ( للصورة، بندم) يا إلهي ماذا أقول لك؟
لدي كلام كثير، ولكن سأدعه حين أقابلك في دار الحق؛ سأروي لك هناك كلَّ ما حدث لي في هذه الدنيا الفانية (يضحك) وحتى يحين ذلك الوقت، احذري أن تتصلي بي وتطلبي مني اللحاق بك، ستفرح كنتك بذلك كثيراً لو فعلت (بسخرية) لقد أُصبتَ بالخَرَف يا مصطفى. كيف ستتصل بك المسكينة من العالم الآخر؟! إنَّها في العالم الآخر وليست في ألمانيا (يبتعد عن الصورة ويلتفت حوله) آه لو كنتُ في ألمانيا، يُقال أن حتَّى من هم في عمري؛ يقودون الدراجات هناك، ويأكلون ما يحلو لهم دون مِنَّة من أحد، ويمارسون هوايات السباحة، وحتَّى أنهم يعشقون مثل الشباب!
(للصورة. بأسف) الله يرحمك يا أم عزيز، مرضتِ ومتِ وأنتِ تكتمين في داخلك آهات وآهات.
(يقف أمام المرآة، ينظر إلى نفسه، يـتأمل وجهه)
إنني أتحدث عن الحب والحياة؛ وأنا محشور في هذا الكفن!
(يفتح الخزانة، يُخرج بعض ثيابه، تسقط من الخزانة بعض لُعب الأطفال، يتأملها بحسرة، يتمتم بحنق، يضعها جانباً، يواصل التمتمة وهو يرتدي ثيابه)
والآن، يمكنني الخروج من الغرفة دون خوف أو حرج.
(يهم بفتح الباب فلا يفلح، يكرر المحاولة ويزداد تشنجاً) تباً لك! (ينادي) عزيز، ياولد. افتح الباب يا بني..عزيز.
(يطرق الباب. يكف عن ذلك بعد لحظات، يعود بانكسار إلى الداخل، يقع بصره على اللُعبات، يلتقط واحدة منها، يبتسم بحسرة، يلعب بها مع الطفل المتخيل. يتحدث مع دمية الدُّب) أسرع يا دبدوب، سيلحق بنا البطل آرام، إنَّه قوي وشجاع، لقد هزم وحوشاً كثيرة وانتصر عليها، حتى الأسد؛ هزمه هذا البطل. هيا بسرعة. هيا نركب السيارة (يقود السيارة بسرعة) إنه يطاردنا، لقد وصل إلينا، إنه يقبض عليّ، اهرب يا دبدوب، هيا اهرب يا صديقي. إنني أستسلم يا بطل، أرجو ألا تقتلني يا بطل الأبطال، تسليم.
(ينقلب على الأرض ضاحكاً وهو يحتضن الدمية) صدق من قال، ليس أعزَّ من الولد؛ سوى وَلدِ الوَلدِ (بحسرة) شريطة أن تكون أمُ الولد بنت حلال، وإلا لن تمنحك فرصة لقضاء وقت مع حفيدك.
لقد دخلت ذات يوم علينا ونحن نلعب ونضحك كعادتنا في كل يوم، ومن فورها صفعت الولد بقوة وانتشلته من الأرض وهو يبكي وخرجت تجرَّه خلّفها كشرطي قبض على نشال. ومن يومها لم يعدْ الطفل يدخل غرفتي، ولا حتى يقترب مني.
(بحسرة) لو كنا في زمن غير هذا الزمن المخنث، في الزمن السابق، أيام كان لكبير السن قيمته وهيبته، يأمر فيطاع، لما تجرأت هذه المرأة وفعلت ذلك أمامي. لقد أصبح الكبير في هذه الأيام عالة كبيرة.
(بأسى) من لا كبير له، فليشترِ له كبيراً، هذا ما كان يردده الجميع، أما اليوم؛ فقد أصبحت الألسن ذاتها تردد: محظوظ البيت الذي ليس فيه كبير. وكأن العجوز لعنة أو طاعون.
الله يرحمك يا أبي، لقد كان حكيماً بالفعل، كان يقول دائماً، عندما تصبح الحياة غابة؛ يرجع كلُّ إنسان إلى أصله: حيوان. وهذا ما حدث لنا في ظل هذه الحرب. أذكر مرّة رافقته فيها إلى دائرة حكومية، وكان أحد الموظفين هناك يُحدث زميله في موضوع غريب، قال: إنَّ أصل الإنسان قرد، وصاحب هذا الرأي عالم كبير، وذكر اسم العالم، كان الاسم اجنبياً، وفجأة وجدت أبي يعلق على حديث الموظف بالقول: (يقلده) لقد أصبت يا أستاذ، وأصاب هذا العالم، غير أن عالمك هذا قد أخطأ في جعل أصل كلّ الناس واحد، فرد الموظف بسخرية (يقلده): وما هو أصل الإنسان يا عالمنا الفاضل، إنْ لم يكن الإنسان قرداً؛ فهل هو أسدٌ مثلاً؟ ثم ضحك بسخرية وضحك الحاضرون. كم خشيت حينها أنْ يردَّ أبي بعصبية على هذه السخرية، فيعرقل الموظف سير معاملتنا، أو يطردنا من الدائرة، فهو قادر على فعل ذلك ببساطة، يكفي أن يقول إن هذا العجوز اعتدى علي، أو شتم الحكومة مثلاً، غير أنَّه لم يفعل. وأجاب والدي بهدوء (يقلده): لتعرف حقيقة ذلك يا أستاذ؛ يكفي أن تراقب الناس وتشاهد كيف يتصرفون، حينها سترى الكلب والقطة والحشرة والثعلب في اردية وهيئات بشرية وما هم ببشر. وستكتشف إنَّ ربطات أعناق بعضهم ليست سوى قلادة معلقة في رقبة كلب.
صمت الموظف للحظات وهو يعدل ربطة عنقه وقد أحمر وجهه حتى أصبح مثل حبة البندورة، قلت لنفسي: الآن سينفجر الرجل في غضب، ويطردنا من الدائرة مثل الكلاب، غير أنه، ويا للمفاجأة، أطلق ضحكة صغيرة وقال (يقلده): صدقت يا عم، لقد غلبتني وغلبت داروين. نعم هذا هو اسم العالم. داروين، ثم قال: تفضل، قلْ ما حاجتك ؟(يضحك) ايه رحمك الله يا أبي وطيب ثراك، كانت أيام عزّ، كانت كلمته وكلمة أيّ رجل كبير لا تُرد، يأمر فيطاع، أقسم لو كان حيّاً؛ لنعت حفيده هذا بالجحش، ونعت زوجته بالذئبة والخنزيرة، وبقية أحفاده بالكلاب.. وكان سيصفني بالبغل، نعم بغل (يقلد والده) اسمع يا مصطفى، إنك بغل، لو لم تكن بغلاً لأحسنت تربية أولادك. ولكنَّك بغل؛ نعم بغل. لم تحسن تربية أولادك كما فعلت معك ومع أخواتك البنات.
(لوالده بأسف) أعلم يا أبي العزيز أن أولادي لم يكونوا كذلك، لقد كانوا جيدين، وكان كلُّ من في الحيّ يشهد لهم بحسن السيرة والسلوك، وما أن اشتعلت نيران هذه الحرب اللعينة؛ حتَّى انقلبوا إلى حيوانات، بل عادوا مثل الجميع إلى أصولهم: خنازير وثعالب وكلاب.
لماذا؟
كيف؟
ما هو السبب؟
هل أنا السبب؟ أنا الذي لم يُحسن تربية أولاده؛ فلم يصبحوا بشراً؟ أم أنَّ الحرب حولتهم إلى حيوانات؟
(يهدأ بعد انفعال. يقف أمام المرآة، يتأمل نفسه بإمعان. يحدث صورته المنعكسة في المرآة)
(يقلد أحدهم وهو يتصنع الأدب) : لا يجوز أن تبقى وحدك في البيت يا والدنا العزيز، إنك رجل كبير السن، ومن هو في مثل سنك يحتاج إلى من يغسل له ثيابه ويُعد طعامه، ولابدّ من أن تقيم معنا يا كبيرنا. (بحنق) وصدقتهم، أنا البغل، لقد صدقتهم أنا كبيرهم، كبير البغال، وعلى الفور سارعت إلى بيع البيت؛ البيت الذي دفعت أنا وزوجتي ثمنه بدموع العيون وعرق الجبين، وبعد سنة واحدة فقط، كنت خلالها كبير العائلة وبركتها، قالوا لي: بح، لم يعدْ لديك مالاً، ما أدَّخرت من مال نَفَدَ يا أبي.
كيف؟
لماذا؟
متى حدث ذلك يا جماعة؟
تساءلت بحيرة. فجنَّ جنون ابني وزوجته، وككلبة راحت زوجة ابني تنبح:(يقلدها) وهل كنت تأكل وتشرب وتغتسل من بيت الجيران؟ هل نسيت كم مرة استدعينا الطبيب حين أغمي عليك، ونسيت ما دفعناه لطبيب الأسنان؟ لقد كانت أسنانك كلها منخورة من كثرة التدخين وأكل السكاكر والحلويات.
لم تترك شيئاً قدمته لي إلا وذكرته، مساحيق الغسيل التي وضعتها في الغسالة لغسل ثيابي، الصابون الذي صرفته في الحمام، والمحروقات التي استعملتها في مدفأة غرفتي، والتي اختفت بعد سنة من إقامتي في بيتهم؛ لقد ذكرت حتى الشاي؛ شرابي المفضل والوحيد، الذي أُكثر من شربه بعد تناول الطعام، ذكرت كلّ ذلك وابني يهزُّ رأسه مؤيداً وكأنه في مهرجان خطابي، ولم يكن ينقصه سوى التصفيق لها، وحين أتيت على ذكر راتبي التقاعدي؛ قالت لي (يقلدها): راتبك بعد الأزمة لم يعدْ يكفي لحفاضات طفل واحد. وليتك تكرمت يوماً وجلبت لحفيدك حفاضات؛ بدلاً من صرف راتبك في شراء الدخان. إنك تدخن في اليوم الواحد علبة دخان. وهذه جريمة.
جريمة؟!
وكم خشيت أن تقول لي: إنك داعشي، وإنك المتهم الوحيد في إشعال نيران الحرب الدائرة في البلد. غير أنَّها لم تفعل، بل أمرت زوجها بأن يطلب مني الإقلاع عن التدخين، طبعاً بحجة الحفاظ على صحتي وسلامة أولادها. فنفذ أمرها على الفور.
تفووو. خنزير، لو لم أكنْ أثق في إخلاص المرحومة زوجتي؛ لقلت عنه أنه ليس ابني، بل ابن .. استغفر الله.
(يمسح وجهه ) واقلعت عن التدخين. أو تم اجباري على فعل ذلك، هذا السمير الذي كنت أنفث فيه همومي؛ حرموني منه، وذلك بحجة الحرص على صحتي، وأنا أعلم أنهم يكذبون، صحيح أن أسعار الدُخان قد أصبحت في الأونة الأخيرة باهظة مثل كلّ شيء، ولكن راتبي التقاعدي كان يفي بالغرض.
طبعاً، لم يعدْ لي بعدها حيلة سوى أن أجلس بالقرب من المدخنين؛ لأعبَّ من الدخان الذي ينفثونه، وأحياناً كثيرة كنت ألتقط أعقاب السجائر المشتعلة التي يلقي بها بعض الشباب.
(يلتقط أعقاب السجائز من هنا وهناك، ينزوي في مكان ليدخن ويطلق الدخان في الهواء)
وحتى هذه المكرمة اختفت، طارت، لم يعدْ أحد بعدها يلقي سيجارته وفيها نفثة، بل أن هناك من كان لا يكتفي بإلقاء عقب سيجارته، بل يسارع إلى سحقه بقدمه! يسحقه ويسحقه بغل وكأنه يسحق رأس أفعى! أما السبب ، فضيق عين. وسفالة.
(يرن جرس هاتف نقال. يصمت، يلتفت حوله باندهاش. يتكرر الرنين، ثم يكفُّ عن الرنين للحظات، يلتقطه، يتأمله) هاتف؟! إنه يشبه هاتف ابني الجحش، ليته كان سيجارة!
(يُلقي به بعيداً، فيعاود الهاتف الرنين. يصاب بالذهول، يلتقطه بعد تردد)
ألو، من. نعم، لا، لست عزيزاً. أنا، أنا والده، أبو عزيز، نعم، من؟ من أنت؟ رشيد؟ ولدي رشيد؟! (بسرور) كيف حالك يا رشيد، لقد اشتقت إليك كثيراً يا ولد، لم تكلمني منذ زمن، لماذا يا بني؟ ألست والدك، والدك الذي يحبك؟ والذي أفنى عمره في تربيتك وتربية أخيك وأختك. وأين سأكون، إنني في غرفتي. الهاتف ؟! لا، لا. لم يمنحني إياه، ولا أعرف كيف تركه هنا، ولكن مهلاً، هل أنت حقاً رشيد؛ ابني رشيد؟! أصدقك، كيف لا أصدقك يا ولدي، إنه صوتك يا ملعون. كيف لي أن أنساه! (لنفسه. بسرور) لابدّ أن أكون في حلم، إنني في حلم (لنفسه) لم يسبق أن اتصل هذا الولد بي، مُذ غادر البلد؛ لا خبر ولا علم، وها هو الآن يفعلها! ماذا يعني هذا سوى.. (يعود إلى الهاتف) إنني أسمعك يا بُني، أين أنت الآن؟ أما زلت في إسطنبول؟ أين؟ كيف تذهب إلى ألمانيا ولا تخبرني؟ أخبرت عزيزاً، لكنه لم يخبرني، لم يعدْ عزيز عزيزنا يا ولدي، لقد أصبح عزيز زوجته، وأصبح اسمه زوزو، لم يعد يهتم بي، بعد وفاة والدتك ورحيلك؛ لم يعد أحد يعتني بي، أنا وحيد يا ولدي، أعرف أنك بعيد، وتفصل بيننا بحور وجبال، ولكن لو أرسلت في طلبي فسيكون ذلك جيداً، قل لهم… ماذا؟ لا تستطيع، لن يقبلوا، لا بأس، سأهاجر مثل غيري، كثيرون مثلي ركبوا البحر، ومشوا في الغابات، أطفال وكبار السن وحتى نساء حوامل ووصلوا. نعم ووصلوا إلى ألمانيا والسويد..لا تخف يا ولدي، لأمت، فأنا هنا ميت، أموت في اليوم الواحد مائة مرة. (ينصت بانفعال) حسن، ما دمت تخاف عليّ من مشقة الطريق فلماذا لا تأتي بنفسك وتحملني إلى هناك. لا تستطيع؟! ماذا؟ سيعتقلونك؟! وماذا فعلت؟ هل سرقت، هل قتلت؟؟
ماذا؟! (يضحك بسخرية) منذ متى أصبحت معارضاً سياسياً يا ولد؟! لقد كنت قبل الحرب تقضي أيامك كلّها في المقاهي والشوارع، عدْ يا ولدي ولا تخش شيئاً، سأخبرهم من أنت ومن تكون، وسيسعدون كثيراً، هل تعلم بأنهم يعتمدون على أناس من أمثالك؟ لو جئت إلى البلد ستشاهد العجب، من كان بائع أوراق يانصيب في الشوارع أصبح اليوم من أصحاب العقارات، وأحد هؤلاء الباعة اشترى فندقاً، أي فندق. أقسم بالله أني أقول الصدق، ليس هذا فقط، بل لقد اصبح كثير من أولاد الشوارع، أصحاب ملايين، وحتى اللصوص والزعران أصبح الكثير منهم مسؤولاً. أي أصبحوا مسؤولين وذوات..(يضحك بسخرية. يصمت فجأة) أنا لا أسخر منك يا ولدي، بل.. ماذا؟ نحن عائلة بسيطة ولم يسبق أن اشتغل أحد منا في السياسة يا ولدي، دعْ هذا الكار لأهله، (لنفسه بسخرية) أكاد لا أصدق، ولدي رشيد معارض سياسي، يا للمهزلة؟!
(في الهاتف) ألو. ماذا ؟ لا، لا، اطمئن، لا أحد يسمعني. دعْ هذا التهريف يا ولدي وعدّ. والدك بحاجة إليك، لم يعدْ أحد هنا يهتم به، أخوك جحش، وزوجته خنزيرة، بدأت تضيق بي، ستلقي بي إلى الشارع يوماً ما.
ماذا تقول؟ أذهب إلى من.. أختك؟ لقد فعلت، لقد ذهبت إليها، نعم ذهبت، وماذا تظن أنها ستفعل، كانت حنون؟! كان ذلك أيام زمان، قبل الحرب، قبل أن تتحول هي الأخرى. تحولت إلى ماذا؟ لقد تحولت إلى دُبَّة، نعم دُبَّة، لا تضحك يا ولد، إني جاد، لو عدت اليوم إلى البلد فلن تعثر على بشر، لم تعدْ البلد بلداً، بل غابة، ولا البشر بشراً. بل حيوانات، لا أبالغ، لا أبالغ. حين بدأت أكثر من زياراتي إلى بيتها لأشكو لها سوء معاملة أخيها وزوجته؛ عسى أنْ أجد لديها بعض الراحة! أخذت تحثني على الصبر والتحمل، وراحت تتعاطف مع زوجة أخيها بحجة أن الظروف قاسية، ولم يعدْ أحد قادراً على رعاية أولاده. وكلام من هذا القبيل. طبعاً خشية أن أطلب البقاء عندها؛ فيقلق ذلك راحة زوجها.
في إحدى زياراتي لها قال لي زوجها الذي تحول بدوره إلى ثعلب، قلت لك لا تضحك، إني جاد، اسمع ما قاله لي هذا الثعلب (يقلده. بسخرية من يتصنع الحكمة): من واجب الولد يا عمي، لا البنت، التكفل برعاية الوالدين، لأنَّ الولد هو من يرث مال أبيه واسمه، أمَّا البنت فلا. هكذا تربينا، وهذا ما يقرَّه الشرع والعرف.
(بسخرية) تصور من يتحدث عن العرف والشرع؟! لقد فهم والدك قصده مباشرة. فلم أعدْ أتردد عليهم، لا أعرف ماذا أفعل يا ولدي. الحل الوحيد هو أن ترسل لي طلباً، إنهم يتعاطفون مع كبار السن، لا ليس هنا بل هناك، في المانيا، هذا ما يقوله الجميع عن الأوربيين، وإذ تعذر ذلك؛ أرسل لي نقوداً، نعم نقوداً، ارسلها لي فقط، ولا تخبر عزيزاً أنك تفعل ذلك.
ألو رشيد. رشيد. هل تسمعني؟ رشيدووو (بعصبية وهو يلقي الهاتف بعيداً) ابن الحرام، لقد أنهى المكالمة وفصل الخط، طبعاً سيفصل، لقد طلبت منه نقوداً، سيكذب الآن ويقول لقد انفصل الخط من تلقاء نفسه. حتى أنت يا ولدي! إنه الطاعون، لا أحد سَلِمَ منه. لا أحد.
(بقهر وعصبية تزداد) عققة، كلّهم عققة، حيوانات، إني على يقين من أنكم ستُمسخون إلى ما هو أسوأ شكلاً وعقلاً من الحيوان، ستتحولون إلى حشرات، إلى ديدان، إلى خنازير وعبيد.
(يصمت بشكل مفاجئ، يقترب من الباب، يلصق أذنه به. بذهول) أكاد أميز وقع أقدامها، لقد كانت تتنصت عليّ، حتى في الحلم أيتها النتنة؟! لم تعدْ المخابرات في هذا البلد البائس تفعل ذلك!
(يرنّ جرس الهاتف بعد لحظات. يتردد قليلاً، يلتقطه ويقفل الخط) حيوان. لا أريد اعتذاراً منك.
(يتكرر الرنين. يلتقطه ويضعه على أذنه. بضيق) لا أريد سماع صوتك، ولا سماع الأعذار، أنت لست ولدي، كلكم لستم أولادي. لا أنت ولا أختك ولا أخوك.
(يصمت بذهول) من؟ من يتحدث؟ لست رشيداً، من؟! (يلتفت ناحية صورة زوجته. بذهول ورعب) أنتِ؟!
غير معقول. (يجمد وهو ينصت مطولاً للصوت المنبعث من الهاتف) هذا الصوت لا يشبه صوتك يا أم عزيز، إنَّه يشبه صوتاً أكاد أعرفه.
(ينظر في شك وريبة نحو الباب) ماذا؟ عدت شابة؟ الصالحات يتحولن إلى حوريات وماذا؟! (يضحك) هل تسخرين مني يا امرأة؟
(يعود إلى جموده وذهوله وقد تقلصت قسمات وجهه) لقد كانت مجرد مزحة يا امرأة. قلت للولد سأرحل حين تتصل بي جدتك، يا لسذاجة النساء، إنهن لا يتغيرن حتى وهنّ موتى! (برعب يزداد) اسمعي يا امرأة، أقسم بالله أنها كانت مزحة.
(يصمت فجأة. بذهول) لا، لا أرفض الموت، معاذ الله، إني رجل مؤمن بقضاء الله وقدره. ولكن..
(يصمت للحظات بذهول، ثم يتوارى خلف الخزانة. ينزع ثيابه. يلفُّ الكفن حول جسده. يقترب بهدوء وحزن من التابوت، يجلس في داخله، يمسح المكان بنظرات الحسرة والقهر. يتمدد في التابوت ويغطي نفسه بالبطانية)
النهاية
بوخم. آذار 2018
للتواصل مع الكاتب
a.smail1961@gmail.gom