وجوه قامشلي التي لم تكنْها «في زيارتي السنوية إليها صيف 2019 » – 4

ابراهيم محمود 
4- بين اقتصاد البطون ومدقّات الذقون 
في مناخ الحرب، كما هو الوضع السوري عموماً، رغم التفاوت بين جهة وأخرى طبعاً، أول ما يكون الدال على فظاعة الحرب، علامتها المريعة، يتمثل في: ضمور الأجسام، وتهدُّل الوجوه واستدقاق ذقونها، سوى أن الذي تبيَّن لي في زيارتي الأخيرة، لهذا العام بصيفه اللهاب، هو العكس: فما أكثر من تكرَّشوا، وانتفخت وجوههم، وعرضت ذقونهم. كيف يمكن الربط في الحالة هذه بين حرب تنحِف، وحرب تكرّش؟
لا ينبغي الاستغراب في مثال حي، يلخص حالات مدن عديدة امتداداً لها: قامشلي، فالحرب للبعض ربح، وللبعض الآخر ذبح، والذين طلبوها، ومازالوا ربحاً، لديهم أساليبهم التي يديرون بها الحرب لتسهم بطرق شتى في تكريش بطونهم، وتعريض ذقونهم!
ثمة ملاحظة تضيء ما تقدَّم، وما سأتقدم به، وهي أن ليس كل من تكرَّش تعرَّش، أو صاحب نعمة مفاجئة، أو ضربة حظ، وهي “ضربة شاطر طبعاً” وما أكثر ظهور الشطارين وانتشارهم في المدينة وأبعد، إذ يمكن أن يكون لدينا صاحب نعمة ما، في رفعة الشلمونة، سوى أن ذلك لا يعني بالمقابل، جرّاء ضرب أخماسه بأسداسه، يحاول شفط كل ما استطاع إليه سبيلاً وإيداعه أمكنة مختلفة، وأن يكون لقلقه دور في “شلمَنته ” إن جاز التعبير.
ما عاينته في ساح قامشلي العريضة، هو ما يتفوه المعنيون بحقيقة التكرش: اقتصاد البطون ومدقات الذقون، وهم يوردون قوائم أسمائية تغيّر في منطق المترتب على الحرب.
ما أكثر الذين رأيتهم، وقد تقدمتهم كروشهم، حيث تثاقلت خطواتهم، فلم في مقدورهم المشي كثيراً، لأن هناك سيارة “خلنج” في خدمة الواحد فيهم، أو يقودها هذا. ووجوه منتفخة أو غارت فيها دماؤها، جرّاء انشغالها بحساب الصادر والوارد.
ثمة ما يمكن قوله في وضع هؤلاء الذين رأيتهم، أو سمعت بهم، وهو أنهم فيما آل إليه أمرهم، يبقون سنوات جوعهم حتى الأمس القريب حيّة في ذاكرتهم، ويجعلون من الطعام هدفاً جلياً لهم، كي ينتقموا من ماضيهم ذاك، كي يميتوا داخلهم من كانوا وقتذاك، وهم كثيرو الظهور في أفخم المطاعم، وفي سهرات خاصة، ومزارع مستحدثة، وكل ما يدل على أنهم أصبحوا ” أولاد النهارده: اليوم ” وأن ما فات مات. أنهم من خلال إبراز كروشهم وثخن رقابهم، ينقلون رسائل حية: مباشرة، إلى الذين كانوا يعرفونهم بعيدين عن أي ” ضوء ” وبنوع من التحدي.
يعني ذلك أن ما فات لم يمت، وأنهم مازالوا يعيشون قلق ما كانوا عليه، إذ يستحيل عليهم استرجاع السنوات الطوال بأكثر من معنى، وقد عاشوها في ضنك العيش دون رصيد اجتماعي، ليضاعفوا من أنشطتهم الخاصة: أكثر سعياً إلى مصادر الثراء ذي الصلة بمناخ الحرب، أكثر حضوراً في أماكن الإضاءة المبهرة، أكثر ظهوراً في الأمكنة التي تعرّف بهم ” وجهاء اليوم “.
مشاهد يومية يسهل النظر فيها، وتبيّن نوعية الأخلاق المرافقة لها. خذ مثلاً: أن أحدهم، وهو مقتني سيارة حديثة، قبيل ركوبها، ينظر يميناً وشمالاً، واضعاً عينيه في أعين من في الجوار، ليعلمهم بمكانته الجديدة ” لعله يغيظهم “، وقبل التحرك بسيارته كذلك يلقي نظرة على المكان، كما لو أنه مستعد لأي مناوشة، وهذا ليس من ” أخلاقيات ” من ارتقى سلَّم الثراء درجة درجة.
خذ مثلاً، أن أحدهم، يرفع صوته، ويعتمد كلمات ضاغطاً على مخارجها، وهو يترجرج بكامل جسمه، سعياً منه، كذلك إلى لفْت الأنظار، بغية نزع الاعتراف به اسماً له شأنه طبعاً.
خذ مثلاً، أن أحدهم، لا يدَّخر جهداً في إيلام القريبين منه، أو حتى إهانته، وهم بنو جلدته الكرد، من موقع اعتبار، أوقوة، أو دعم معين، ودون التخلي عن منطق تهديد ما، شعوراً منه أنه بهذه الطريقة أو ما يشبهها، إلى فرض سلطة تسمّيه، وهي ليست له، أن نزقاً خاصاً يرافقه غالباً.
اقتصاد البطون هنا، وضمناً: مدقات الذقون، كعلامة مستحدثة على طفرة مادية مرئية، بات علم حتى من يفتقر إلى ألفباء الاقتصاد، جرّاء المعايشة اليومية، أي لا يخفى على أحد. تلك من خاصيات الحرب الدائرة، والتي تمارس تكويناً جديداً للناس، وهي تبعثرهم، أو تقابلهم ببعضهم بعضاً، تعتمد كل ما يمكن قوله من الكلام السفيه، وممارسته من فعل شائن، بما أن البطون التي تتكرش بالطريقة هذه، تلحق بها، إجمالاً، ما هو عقلي، ما هو وجداني، ليبقى هناك لسان واحد، موصول بالبطن، عين واحدة داخلة في البطن، يد واحدة تخدم البطن، قيمة واحدة: بطنية عميقاً.
……. يتبع
5- شوارع وفظائع 
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

مصدق عاشور

مصلوبةً بخيوطِ شمسِ محبتك

يا من كشفتِ لي

سرَّ التجلّي

ووشمَ الحنين على جبينِ الانتظار

أنتِ ميناءُ روحي

قولي: متى؟

قولي: لِمَ البُعادُ

في حضرةِ ثالوثِكِ السرّي؟

رياحُكِ تعبرُني

كأنّي فرسُ الطقوس

وفي قلبي

تخفقُ فراشةُ المعنى

قولي لي متى؟

قولي إنكِ

فراشةُ رؤياي

وساعةُ الكشف

أرسِميني في معموديّتكِ

بقداسةِ روحكِ

يا من نفختِ الحياةَ في طينِ جسدي

حنينٌ

كمطرٍ أولِ الخلق

كموجِ الأزمنةِ الأولى

يتدلّى من ظلالِ أناملكِ

 

سيماڤ خالد محمد

مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟

لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول…

خالد بهلوي

بحضور جمهور غفير من الأخوات والإخوة الكتّاب والشعراء والسياسيين والمثقفين المهتمين بالأدب والشعر، أقام الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكُرد في سوريا واتحاد كردستان سوريا، بتاريخ 20 كانون الأول 2025، في مدينة إيسين الألمانية، ندوةً بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الشاعر سيدايي ملا أحمد نامي.

أدار الجلسة الأخ علوان شفان، ثم ألقى كلمة الاتحاد الأخ/ …

فراس حج محمد| فلسطين

لست أدري كم سيلزمني لأعبر شطّها الممتدّ إيغالاً إلى الصحراءْ
من سيمسك بي لأرى طريقي؟
من سيسقيني قطرة ماء في حرّ ذاك الصيف؟
من سيوصلني إلى شجرة الحور والطلع والنخلة السامقةْ؟
من سيطعمني رطباً على سغب طويلْ؟
من سيقرأ في ذاك الخراب ملامحي؟
من سيمحو آخر حرف من حروفي الأربعةْ؟
أو سيمحو أوّل حرفها لتصير مثل الزوبعة؟
من سيفتح آخر…