ابراهيم محمود
5- شوارع وفظائع
” هذه الحلقة إلى ضحايا التفجير الإرهابي في شارع – طريق قامشلي- عامودا، في الحي الغربي، يوم 17 تموز 2016 “
وجِدت الشوارعُ لتخدم المكان الرحب الآهل بالأبنية السكنية، المؤسسات، المحلات التجارية، الساحات، والحدائق…الخ. الشوارع علامة دالة على خاصية المدينة، باعتبارها منتسِبة إليها.
والأبنية إلى جانب المحلات المختلفة المطلة على الشارع، وتبعاً لنوعه، تؤكد مكانتها الاستثنائية طبعاً. سوى أنه في حالات معينة، قد تخيف الشوارع ” الرئيسة منها ” أصحاب الأبنية، جملة المحلات، والمؤسسات وغيرها، لحظة التعرض للمخاطر، حيث لعبة التفجيرات قائمة .
لا أستطيع الآن التحرك، كما هي حركتي المعتادة، حيث استوقفني الطريق- الشارع الرئيس الذي يربط ما بين قامشلي- عامودا، وتحديداً، في المسافة الفاصلة بين مفرق طريق الحسكة- عامودا، ومفرق شارع منير حبيب.
ضمن هذا الشارع- الطريق، وفي الجهتين، ما أكثر ما تحرك داخلي، ما استهلكته من سنّي عمر، من لحظة كوني صبياً يافعاً إلى بلوغي ما يتعدى السنين سنة عمراً. تكاد خطاي،أنفاسي، خيالاتي، صور الذين كنت ألتقي بهم، وبمستويات، تعيدني إلى ما كان، في لحظة ساخنة.
لا بد أن للصور دورها الفاعل في تثبيت هذه اللحظة، حيث المكان نفسه ممتلىء روحاً ناطقة!
نعم، ثمة شوارع في قامشلي، أكثر من كونها سجل ذكريات مفتوحة، تمتد على مرأى النظر وأبعد، وهي تنطوي على وقائع دخلت التاريخ الفجائعي لها. كما لو أنها أطلال وهي ” تلوح كعالي الجرح في ظاهر اليد “، وأنا أستشعر نحيب نساء يدمن عويلاً داخلي، أستشعرني جمعاً مقهوراً في كلّيتي، معتل الرجولة ، حيث سِيدتْ معايير لرجولات أخرى، لم يكن حساب حتى الأمس القريب، وأنا أقلّب ناظري في الجهات الشارعية، أستنطق ما كان ولم يعد لها كيان، أسائل وجوها بوغت مكانها بما ليس في الحسبان الكردي، شبه مصعوق ومخنوق ..!
وأنا أقف أمام النقطة المرعبة والتي ترتد إلى 17 تموز 2016، والانفجار المروّع الذي ضرب المكان، وباغت من في المحلات، الأبنية السكنية، المارة، حتى النائمين في بيوتهم، ضمن مساحة يمكن لفيلم سينمائي ” هوليودي حصراً ” أن يظهِر فظاعة الحدث الإجرامي، حيث حرارة تموز القانصة، تزيد في بلبلة المقيمين في المكان، وتلهب مشاعرهم أكثر، كيف وأنا مثلهم، أعيش سخونة الحدث، ذكراه التي تتقدم إلى الأمام، وترفض المضي إلى الوراء؟!
أتذكر أحبة لي، معارف، وجوهاً مقربة، وجوهاً باتت مألوفة جرّاء الرؤية المتكررة لها. أرتج داخلي، تتبلد حواسي، جرّاء وقْع المشهد المريع، لأن المحصّلة أقوى من أن تحتمل كارثيتها.
أتخيل ” بقالية آمد ” وأحبة لي كنت ألتقيهم فيهم دورياً ” أبو شيار- أبو أحمد، وأصدقاءهم “، ليس من أثر للبقالية التي تناثرت أشلاؤها بمحتوياتها ” قبل فترة قصيرة، أعلمني الصديق أبو شيار، وهو لاجىء/ مهاجر، مغترب اضطراري مقيم قريباً من إزمير، أعلمني أنه لم يتعرف على ” بقاليته ” بمكانها المتناثر بعمق فظيع إلا من لون السيراميك المغطي لواجهتها.
صوب الشمال، حيث تلح علي ذاكرتها بكرم مثقَل من خيالها المعذب، تتراءى أمام ناظري البيوت المطلة على الشارع، وفي العمق، وبعد انحراف مكاني، يكون بيت الصديق الكاتب والصحفي المتلوع المكاني ابراهيم يوسف، ذي الإقامة الألمانية الآن، حيث تنفرد صفحات روايته ذات الصلة بالمكان المقهور- المهدور- المذرور: شارع الحرية، في الجوار، ولفترة، كان مكتب الصديق الكاتب الدكتور ولات محمد، في الطرف الآخر، أستعيد صورة حية لزميل دراسة، وصديق ما بعد الدراسة، المهندس الراحل خورشيد سليمان، الحفرة المستحدثة، بدت كعين أسطورية مفقوءة من جذرها، الحفرة ما تزال تشهد على الإجرام الذي كان، والإيلام الذي لا زال يحفر أثره الضاغط والرهيب في النفوس والرؤوس،والبيوت التي سويت بالأرض ” عفواً: تطايرت غالبيتها ” والتي هدّمت، أو تداعت أقسام منها، أو تقصفت أسقفها، لا زالت هي الأخرى شاهدة مضعضعة على المكان المرصود بأهله، والسؤال المتكرر على ” القتلة “.
شارع في حِداد، وبقية الشوارع في حداد هي الأخرى، والضحايا في انتظار تسمية القتلة ومن وراء القتلة، والأحياء المنكوبون مأهولون بالصراغ البرقي والمكتوم لأهاليهم وأحبتهم، والذين يهمهم سؤال المكان، وقتلة المكان، وأعداء المكان، حيثما كانوا، لا زالوا آخذين بجمر السؤال، ولسانهم: إلى متى سيعلَن عن القتلة وكيف أشهَروا حقدهم القاتل والسافل في المكان وأهليه ؟
كان وقوفي لبعض الوقت قريباً من المكان، لأعيش رعب ما كان، وأمتلىء أكثر بتصورات من هم في المكان، ومن باتوا قرابين قتلة المكان، وبعيدين ومبعَدين عن المكان، ولم يطل وقوفي في المكان، وبي خوف من متربص بي، وتقديره أنني من أهل السؤال ذاك، أو خوفاً من الشارع- الطريق نفسه لاشعورياً، حيث لا يعود يؤتمن، وأظن أن كل متبقّ في المكان يعيش هذه الحالة.
…… يتبع
6- وصلة تاريخية مع Camiya Qasimo