خالد إبراهيم
قَالَهَا أبي ذَاتَ مَرّةٍ بَعْدَ سِجال و خِلَاف عَمِيق دَام ثَلَاثَة أَعْوَامٍ بَيْنَنَا ، بقيتُ رَهَن الْخَوْفِ وَ التكهنات أَلْجَمَه آنذاك ، فكرتُ بِكَلَامِه كثيراً وَلَمْ أُصَل إلَى نَتِيجَةٍ تُقنعني .
تَرَى كَيْفَ لَن أَمُوت هَكَذَا ؟
و هَل لِلْمَوْت أَنْوَاعٌ وَأَشْكَالٌ ؟ وَهَل يَخْتَلِف الْمَوْتِ عَنْ آخَرَ ؟
وَهَل هُنَاكَ غَيْرُ الدَّفْن تَحْتَ التُّرَابِ مثلاً ؟
رُبَّمَا كَانَ يَقْصِدُ إنَّنِي لَن أَمُوت بِهُدُوء، وَهَلْ إنْ زاركَ ملكُ الْمَوْت ستنعم بِالرَّاحَة و الهُدوء ؟
أَسْئِلَة مُلحة تتقافز أَمَامَ بَابِ الدِّمَاغ و الْعَيْن .
سَمِعْتُ أَنَّ أَحَدَهُم مَات أَثْنَاء الصَّلَاةِ وَ آخَر أَثْنَاء تَأْدِيَة وَاجِب مَنَاسِك حَجّ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامِ ، وَآخرَ فِي حَادِثٍ سيرٍ مُؤْلِم ، وَآخَر بِسَبَب غَلَطِه طَبِيب مَا ، وَآخَر علمتُ أَن قَلْبه تَوَقَّف وَمَات ، وَآخَر شَنَق نَفْسِه بسببٍ أَوْ بِدُونِهِ ، وَآخَر تَنَاوَلَ جُرْعَةً مِنْ السُّمِّ وَانْتَهَى .
أَنَا شخصياً مَرَرْت بِكُلِّ هَذِهِ الْحَالَاتِ يَا أبي إلَّا الصَّلَاةُ وَ الصَّوْم و الْحَجّ ، و السَّبَب لستُ لِأَنَّنِي غَيْرُ مُؤْمِنٍ بَلْ لِأَنِّي أَرَى نَفْسِي فَوْق هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَرْتَادُون الْجَوَامِع و بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ، حَيْث إنَّنِي أَسْتَطِيع الصَّلَاةِ فِي مَنْزِلِي و أَنْ أَصُومَ كُلَّ فَرَائِضِ و سُنَن الصِّيَام ، وَلَكِنَّنِي لَمْ وَلَن أَفْعَل ، أَمَّا الْحَالَات الْأُخْرَى فَحَدَّث بِلا حَرَج و لَكِنَّنِي لَم أَمِت يَا أبي ، خانتكَ فراستكَ أَيُّهَا الْعَجُوز التَّعَب ، هَكَذَا وَلِأَنّ أَغْلَب الَّذِين يَمُوتُون فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ هُم لَيْسُوا أَهْلًا بِالْحَيَاة و رُبَّمَا لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعَيْش ، حَيْث إنَّنِي إلَى هَذِهِ اللَّحْظَةِ مشبعٌ بالأخطاء ، وَقَدْ حَاوَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَأْدِيبِي و ثُنيي و مَنْعِي عَن كُل مَا اتسبب بِهِ لِنَفْسِي وَ لِلْغَيْر ، إلَّا أَنَّنِي رُبَّمَا الْأَقْوَى وَ رُبَّمَا صَبِره أَطْوَل مِن صَبْرِي ، وَأَنَا الْمَعْرُوف عَنْه بِضِيق الصَّدْر وَالنَّفْس و فَرَّط الْيَد و اللِّسَان ، لَا أَعْلَمُ هَلْ أَنَا نَبِيٌّ أَم هَذِهِ الْأَرْضَ بَاتَت تَخْلُو مِن الْإِنْسَانِيَّة؟
لَا أَتَذْكُر إنَّنِي غصبتُ أحداً عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ مقتنعاً بِه، و لَم أتحايل إلَّا عَلى الَّذِينَ يَسْتَحِقُّون
جبروتي و غَضَبِي و خديعتي الْأُولَى وَ الْأَخِيرَة، وَلَكِنَّنِي الْآن تركتُ كُلِّ شَيْءٍ خَلْفِي ، وَلَمْ أَعُدْ أُفَكِّر بِمَا يُعَكِّر مِزاجِي و صَفْوَة و حدتي و إحساسي بالنشوة وَالسَّعَادَة مَعَ مَنْ أَحَبَّ ، هَكَذَا هِيَ الْحَيَاةُ بَاتَت تَأْخُذ طَرِيقِهَا إِلَى دَيْجُور رُوحِي ، و لَم أُفَكِّر بِمَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ، إلَّا أَنَّنِي اِسْتَجْلَب لِنَفْسِي بَعْضِ الْأَسْئِلَةِ .
كنتُ طفلاً حِينَ كَانَ مَنْزِلِنَا فِي قَرْيَةٍ ( توينة الْإِصْلَاح الزِّرَاعِيّ ) لَمْ أَكُنْ أتجاوز الْعَاشِرَة مِن الْعُمْر، حِين صادفني جَارُنَا ( مَحْمُود المعيش) الْبَالِغِ مِنْ الْعُمْرِ آنذاك الْأَرْبَعِين عَام ، قَالَ لِي لِمَاذَا تَقِفُ عَلَى هَذِهِ الْحُجْرَة الصَّغِيرَة ، لَم أَنْطَق بِكَلِمَة سِوَى أرسلتُ لَه اِبْتِسَامَة، هزني مِنْ كَتِفَيْ ثُمَّ أَرْدَفَ فِي الْقَوْلِ، إنَّهَا حِجْرة صَغِيرَة ، لَا تَجْلِسُ عَلَيْهَا فَهِيَ بَارِدَة كَالثَّلْج و أنتَ مَا زلتَ صغيراً يَا بُنَيَّ ، ثُمَّ تَرَكَنِي بِمِقْدَار أَرْبَع خطواتٍ وَتَوَقَّف ، نَظَرَ أليَّ ، قائلاً : أنتَ خَالِدِ ابْنِ عَبْداللَّه ؟
ابتسمتُ مجدداً و قُلْت : نَعَم
قَال : احْذَر مِن نفسكَ فَقَط ، نَظَرْت إلَيْهِ بتعجب، غادرني، راقبته بصمتٍ و مَا تحركتُ مَنْ عَلَى الْحُجْرَة إلَى أَنْ اِخْتَفَى ، وَحِين عودتي إلَى الْبَيْتِ كَانَ أَبِي مَا زَالَ بِنِيَّةِ السَّفَرِ إلَى حَلَبَ حَيْثُ كَانَ وَقْتُهَا سَائِقًا للتريلا الطَّوِيلَة بِحُكْم و ظيفته فِي مُؤَسِّسَة الْإِسْكَان الْعَسْكَرِيّ ، وَقَفْت أمَامِه ، مُسِّكَت يَدَيْه ، قَال : مَا بكَ ، قُلْت لَهُ وَ بِخَجَل : احْذَر مِن نفسكَ ، قُلْت لَهُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ و لَا أَدْرِي لِمَاذَا و كَيْف تَمَلَّصَت مِنْ الْغُرْفَةِ الطينية ؟
أحسستُ بِالْخَوْف و التَّوَتُّر ، و صَوْت ضحكته الْعَالِيَة لَم تُفَارِقُنِي إلَى أَنْ اِخْتَفَيْت في شارعٍ يَأْكُل شَارِعا ، نَعَم ، هَكَذَا وَبِكُلّ بِسَاطِه أحس الْآن أنَّنِي المُخرب الْأَوَّلِ وَ الْأَخِيرِ فِي هَذَا الْكَوْن ، أحسُ أنَّنِي مِن سَلِمَت و وشيتُ بحق ثوار سُورِيا ، و أنَّنِي أدليتُ للمُخَابَرَات عَنْ مَكَانِ حُسَيْن الهرموش ، وَأنَّنِي مِن قُمْت بِتَعْذِيب حَمْزَة الْخَطِيبِ وَ مَاتَ بَيْنَ يديَّ ، بَلْ أَنَا مِنْ جَلْبِ الدَّمَار إلَى عِفْرِين و كوباني ، و أَنَا الَّذِي أتفقتُ مَع الْخَوَنَة فِي كَرْكُوك ، بَل أحياناً أَخْرَج و أَرَى كَيْف تَمّ شَنَق الْقَاضِي مُحَمَّدُ وَ كنتُ مُبتسماً ، و أَنَا الَّذِي أُجْبِر أَرْدُوغان عَلَى احْتِلال جزءٌ مِن قَلْبِي نِكَايَة بحزب الْعُمَّال الكردستاني ، هَلْ أَنَا هُوَ الْمَوْتُ بِعَيْنِه ؟
مرةً أُخْرَى أقعُ فِي فَخ الشكِ و الْيَقِين ، مَاذَا كَانَ يَقْصِدُ ( لَنْ تَمُوتَ هَكَذَا ) وَكُلّ أَوْزَار هَذَا الْعَالِمُ تلتفُ حَوْل عُنُقِي مِثل حَبْل مِشْنَقَة ؟
أشتهيكَ أَيُّهَا القَنَّاص الخَفيُّ فَلَا تَجْعَلْنِي آراكَ ، كُن مِثل هَسِيس يَتَأَرْجَح بَيْن قوادين اثْنَيْن ، كُن مِثل الْأَشْبَاح الَّتِي تَعِشْ فِي دواخلنا ، كُن مِثل لهاثُ الْأَلَم .