الدَّلَف

 إبراهيم محمود
طويلةٌ حكايتي مع الدلف dilop ، إذ لا أذكر تحديداً، منذ متى تعرفت إليه. سوى أن الذي أعلم به علم اليقين، هو أن الدلف رافق حياتي في سنواتها الطوال نسبياً، ومن خلال البيت الذي ولدتُ فيه، والبيت الذي ترعرعت فيه، والبيت الذي أصبح عائداً إليه في ملكيته رغم بساطته، والأنكى من ذلك، البيوت التي أقمتُ فيها في دهوك، منذ مطلع 2013، بيوت مجتمعة، أفصحت عن هذا الدلف الدال على ما يعلم به المعنيون.
من المؤكد أن الدلف له صلة مباشرة بطبيعة البيت وكيف يعمَّر ناحية مواد البناء، وللإمكانات المادية دورها في ذلك، ولهذا يكون الدلف شاهد واقع حال. إذ لا أذكر أن صيفاً ينقضي دون التفكير المباشر فيما سيكون التالي عليه، وفي الشتاء تحديداً، المشهود له، كما هو معلوم بمطره وثلجه وبرَدِه وعواصفه، وهو ما يخوَّف منه، حيث تبقى أعيننا معلقة في السقف، إذ ما أن تمطر، إلا وقد اتخذنا اللازم من احتياطات، جهة توفير الأوعية التي توضع في الأسفل، لاستقبال الدلف، وهو يصطدم بقاع هذا الوعاء أو ذاك، فنضيف إلى القاع قطعة قماشية، أو خرقة متوفرة، لئلا ينثر الدلف خارجاً. وفي بعض الحالات، حين يزداد ضغط المطر، نقدّم جل الأوعية الموجودة لدينا. عدا عن ذلك، أننا ما أن نحضّر أنفسنا للنوم، نختار الجهة الأكثر أماناً أو توقع أمان. إذ كثيراً ما نجفل في نومنا، فنفز على غفلة، لنفاجأ أن السبب هو سقوط دلف على رأسنا، أو جانب من وجه أحدنا، وفي بعض الحالات، أو نفيق على بكاء أطفال جرّاء مس دلَفي، ليدفع بنا هذا الغازي العنيد: الدلف، إلى الزوايا، أو التكوم في زاوية معينة تكون أكثر أماناً لنا، لنمضي في بعض الأحيان أياماً، حتى ينقطع الدلف.
رافقنا الدلف من القرية إلى المدينة، في بيت أهلي ولاحقاً في البيت المزعوم أنه بيتي، كونه يتطلب الكثير من الإجراءات ليصبح في ذمتي ” ملكيتي ؟ “
طبعاً، موضوع الدلف يرتبط بالحالة المعاشية قبل كل شيء، ومن المعلوم أن السقف المنصوب على بيت طيني، لا يؤمَن جانبه، حيث ماء المطر كثيراً ما يبحث عن صدع معين، أو عن ثغرة معينة، ليتسرب إلى داخل القش، ومن هنا ينحدر فيعلق بهذا الجسر الخشبي أو العمود الخشبي أو ذاك، وما أن يشتد عوده، حتى يبدأ بالإنسال لأمد معلوم.
وليس من باب الفكاهة، وإنما تسجيل واقعة تاريخية، وما له مباشرة مجدداً بالإمكانات المادية، أنني في انتقالي مهاجراً اضطرارياً إلى إقليم كردستان كغيري من الألوف المؤلفة، وفي دهوك كان استقراري اللامستقر، سكنت في ناحية تبعد عن دهوك، تبعد عنها قرابة عشرة كيلومترات، ولعدة أشهر، تسمى ” فايدة ” لم تدخر جهداً في إقلاقنا بدلفه عبر البيت الذي استأجرناه، بالتوازي مع وضعنا المادي، وكان اسمنتياً، حيث يرشح.
وهذا ما كابدنا بسببه لحظة انتقالنا إلى حي ” كري باصي Girê basê، وقد عانينا الأمر في ذلك البيت رغم وساعته، لكن سقفه الاسمنتي لم يكن مصبوباً كما يجب، وقد أفصح عن رداءته من خلال كثافة الدلف، فلم يستثن في البيت رأساً أو فراشاً أو مخدة، أو بساطاً، إلا وترك فيه بصمة نافذة له، ولكم كنا نضطر في حالات الشدة هذه أن نجلس ونتجاور ونتقابل، وأعيننا على السقف لنختار الرقعة الأكثر وقاية لنا من فظاظة الدلف.
وحين انتقلنا إلى بيت آخر قرب ” أسواق الربيع “، كان البيت قديماً “، حيث زاد في نوع دلفه، إذ إنه رغم جمال موقعه، لكن رداء الداخل تقول شيئاً آخر، ففي الصيف نفسه، حيث كان المبرّد ” الكونديشن ” يعمل، كثيراً ما يندلق ماؤه على السقف، وهو مركّب عليه، فيتسرب عبر ثقب أو ثغرة أو صدع ولو في نعومة شعرة، في السطح، إلى الداخل، حتى يجد مساراً له، ويبدأ بالتنقيط: دلف في الصيف ؟ ربما يستغرب البعض واقعة كهذه، سوى أن الذين يعرفون البيت أو زاروه في المنطقة، يشهدون على ذلك.
وحتى في البيت الأخير وهو في منطقة مجاورة للسوق المركزية ” بالقرب من شارع نوهدرا ” يبدو أن سقفه أبى إلا أن يكون كنظرائه في إزعاجنا، وفي كل ذلك يزداد رصيدنا من التوتر، والتفكير مجدداً في بيت آخر، ولا يتوفر بسهولة، وبالسعر الذي يتناسب وإمكاناتنا، خصوصاً وأن آجار البيوت غالية جداً تناسباً مع الدخل، بالنسبة للإنسان العادي، يضاف إلى ما تقدم، صعوبة إيجاد بيت يسعنا ” أربع غرف على الأقل ” تبعاً لأعضاء الأسرة وتفريعاتها. ومكتبتي التي ترافقني لضرورة مهنية طبعاً.
وما يترتب على بيت كهذا من رطوبة وتأثير في صحة الجسم وعلى الصعيد النفسي، وحتى على النشاط الذي نقوم به داخل البيت من تحرك، واستقبال الزوار أحياناً .
نحن الآن، ومنذ أشهر، نسأل عن بيت جديد، وعبر معارف وأصدقاء في المدينة، وكلّنا خوف من أن ينتظرنا الدلف فيه مجدداً، والمفارقة أننا في كل مرة، لحظة إيجاد بيت أجرة جديد، نسأل عما إذا كان السقف يرشّح أم لا، يأتي جوابه في الحال: لا يا رجل ! وبتعبيره المحلّي: na mala te!
أكتفي بهذا القدْر المقتطف من كتاب ” الدلف “!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أصدرت منشورات رامينا في لندن كتاب “كنتُ صغيرة… عندما كبرت” للكاتبة السورية الأوكرانية كاترين يحيى، وهو عمل سيريّ يتجاوز حدود الاعتراف الشخصي ليغدو شهادة إنسانية على تقاطعات الطفولة والمنفى والهوية والحروب.

تكتب المؤلفة بصدقٍ شفيف عن حياتها وهي تتنقّل بين سوريا وأوكرانيا ومصر والإمارات، مستحضرةً محطات وتجارب شكلت ملامحها النفسية والوجودية، وموثقةً لرحلة جيل عاش القلق…

غريب ملا زلال

رسم ستار علي ( 1957_2023 ) لوحة كوباني في ديار بكر /آمد عام 2015 ضمن مهرجان فني تشكيلي كردي كبير شارك فيه أكثر من مائتين فنانة و فنان ، و كان ستار علي من بينهم ، و كتبت هذه المادة حينها ، أنشرها الآن و نحن ندخل الذكرى الثانية على رحيله .

أهي حماسة…

عِصْمَتْ شَاهِينَ الدُّوسَكِي

أعْتَذِرُ

لِمَنْ وَضَعَ الطَّعَامَ أَمَامَ أَبِي

أَكَلَ وَابْتَسَمَ وَشَكَرَ رَبِّي

أَعْتَذِرُ

لِمَنْ قَدَّمَ الْخُبْزَ

لِأُمِّي وَطَرَقَ بَابِي

لِمَنْ سَأَلَ عَنِّي

كَيْفَ كَانَ يَوْمِي وَمَا…

ماهين شيخاني

هناك لحظات في حياة الإنسان يشعر فيها وكأنّه يسير على خيط رفيع مشدود بين الحياة واللاجدوى. في مثل هذه اللحظات، لا نبحث عن إجابات نهائية بقدر ما نبحث عن انعكاس صادق يعيد إلينا شيئاً من ملامحنا الداخلية. بالنسبة لي، وجدتُ ذلك الانعكاس في كتابات الفيلسوف والكاتب الفرنسي ألبير كامو (1913-1960).

ليس كامو مجرد فيلسوف عبثي…