فدوى حسين
عيناها الزرقاوان كزرقة بحرٍ هادىءٍ رست أمواجه بعد رحلة تعبٍ طويلة ، كانتا تختلسان النظر أليّ بحذرٍ من بين خصلات شعرها الذهبي المنساب على وجهها، هاربة ًمن جديلةٍ غير محكمة. جلستُ قربها، أمام ذاك البراد المعطل والذي حوله والدها إلى صندوقٍ مملوءٍ بالماء وقطع الثلج الكبيرة، تبيع فيه علب الماء البلاستيكية والعصائر للمتسوقين في أحد الأسواق الشعبية المتنقلة في مدينة دهوك. حرارة شمس آب اللاهبة تلسع كل من يخطو تحت فضائها. اشتريت منها علبة ماء، وأخذت أحرك الماء البارد بيدي لأخفف من حرارة الجو ريثما تنتهي صديقتي من شراء بعض الحوائج من والدها، سألتها مبتسمةً عن اسمها ومن أين هي؟ أسمي نالين.. أنا نالين هربنا من شنكال!.. قالتها بعد أن تغرغرت الكلمة في حنجرتها ، تعمقتُ في قراءة تراسيم وجهها الطفولي، تلك الملامح الطفولية الجميلة هجرتها الطفولة باكراً.
حبات العرق المتدحرجه من جبينها تركت أثار ملوحته بين شعيرات وجهها الذهبية مختلطة ً بغبار المكان ودخان السيارات. راسمةً على صفحة وجهها الوردي الملسوع بحرقة الشمس خرائط محترقة مجهولة الدروب كالدروب التي سلكوها يوم هروبهم من الموت. تابعت سؤالها: نالينا من، كيف هربتم يومها؟ كيف استطعتم النجاة والوصول إلى هنا ؟
تلعثمت كلماتها كأن ناراً تصّعدت من جوفها بلغت حلقها منع دخانه كلماتها من العبور! أجابتني عيناها بلغةٍ لم تستطع شفاهها الرقيقة من التعبير عنه، مضى عام تقريباً على تلك الكارثة والوباء الذي غزا شنكالنا الآمنة الوادعة، قالوا عنا كفرة لا نعرف الله، هل من يقتل الاطفال هو المؤمن يا خالتي؟ هل من يغتصب النساء ويبيع الفتيات ويذبح الرجال هو من يعرف الله؟
لازالت أصوات البكاء والعويل ،…. لازالت صرخات النساء ترن كابوساً في أحلامي كل يوم، جاؤونا كموجٍ ارتفع كثيراً ينقض على كل ما يلقاه في طريقه ، هجموا علينا براياتهم السوداء يريدون إعلاء كلمة الله ! أين الله مما فعلوه يا خالة؟ رعبٌ، دمارُ، قتل وسبي ، موتٌ يحيط بنا من كل جانب ،أصوات الرصاص لازالت تخترق روحي ، تركنا كل شيء خلفنا ،هي الأرواح وحدها من سعى الجميع لإنقاذها. امواجٌ بشرية همنا على وجوهنا ، لا نعرف سبيلنا ولا مصيرنا ،المهم أن نبتعد عن شبح الموت الذي يلاحقنا، لامجال للتوقف ولا الإستدارة خلفاً، فالسير للأمام وللأمام فقط ، فأي توقف هو سقوط ،هو موت حتمي ، حملت أمي أخي الصغير ، وحمل أبي أختي الصغرى أما نحن الخمسة المتبقين فأمسكنا بأطراف ثوب أمي الذي مزقته الأشواك والحجارة في الطريق ،ذلك الثوب الذي منحنا بعض الأمان في جوف الظلمة المرعبة ،حفاة عراة ، جياع وعطشى ، وطيور الموت تحلق فوقنا تنتظر بلهفة من يسقط منا لتنقض عليه
نسير والدماء تسيل من جراحنا دون أن نشعر بها ،فقدنا كل أحساس إلا أحساس الرغبة في النجاة ،والوصول لبر الأمان، آثار دماء من سبقونا في المسير ملأت الدروب. جثث ملقاة. فهنا عجوز لم يحتمل ألم المتابعة، وذاك رضيع مات من العطش، وتلك أم جريحة نزفت حتى الموت جثث متفسخة تحت حرارة الشمس تغلق رائحتها أبواب السماء. سقطنا مرات عدة ،تحثنا أمي على الوقوف والمتابعة ،سرنا أيام وليالٍ يتربص بنا الموت كل لحظة ، شاهدين على موت الكثيرين، تابعنا رغم كل شيء الى أن وصلنا لطريق عام ثم تم أنقاذنا ونقلنا لمخيمات جهزت لنا. لن أنسى ما مررنا به يا خالة ،كانت الجراح في قدميّ بالغة متقيحة استغرق الشفاء منها وقتاً طويلاً، نحن الآن بأمان ،وأحمد الله أن لم أفقد مثل الكثيرين معنا أفراد عائلتي ،قالتها في أبتسامة تصرخ بكاءاً ،كانت الندوب في قدميها قد شفيت وأثار بعضها لا يزال ظاهراً ، تبتسمتُ لها وقلت ستختفي هذه الأثار كلما كبرتِ ،ستذهب مع الأيام ، وتابعتُ في نفسي وماذا عن الندوب والجراح في روحها وذاكرتها هل ستتكفل الايام بشفائها!…..