صدرت عن دار أوراق للنشر والتوزيع في القاهرة رواية المسغبة للكاتب السوري ثائر الناشف المقيم في النمسا، وهي واحدة من بضع روايات كتبها عن الأحداث التي عصفت بسوريا منذ مطلع العام 2011 فتنوعت مواضيعها بين الاحتجاجات والمظاهرات والاعتقالات، لكن الرواية الأخيرة جاءت مكرسة بشكل كامل لرصد وقائع الحرب السورية، فبدت كما لو أنها الوثيقة التاريخية الخاصة بحاضر سوريا ومستقبل أجيالها.
تقع الرواية في ثلاثة مجلدات في واقع ألف وثمانمائة وست عشرة صفحة (1816) ضمن ثلاثمائة وخمسين ألف كلمة، وقد جاءت في ثلاثة أجزاء متصلة وغير منفصلة في جوهر الموضوع؛ سواء في سرد الأحداث اليومية أو في تعاقب ظهور الشخصيات التي فاق عددها أكثر من مائتي شخصية محورية وثانوية؛ والتي تمثل ألوان الطيف السوري كله.
احتل حصار مدينتي الزبداني ومضايا السوريتين المتاخمتين للحدود اللبنانية محور أحداث الرواية، حيث أنها تستعرض وقائع المعارك المحتدمة بين التنظيمات الإسلامية المسلحة وقوات الجيش السوري وحزب الله ثم تنتقل عبر فصولها المتعاقبة إلى عرض وقائع الحصار المؤلم الذي تسبب في دفع السكان المحاصرين إلى التهام أوراق الأشجار والحشائش والأعشاب الضارة، فضلا عن التهام القطط والكلاب، كآخر وسيلة لهم للبقاء على قيد الحياة، وكأن الكاتب إنما أراد أن يشد أنظار العالم في ملحمته السردية إلى وقائع حرب طروادة التي خلدتها ملحمة الألياذة، وغيرها من الحروب التي خلدتها الملاحم الأدبية مثلما تعامل معها الكتّاب الروس كنهج أدبي راسخ في وجدان الشعوب.
فالمجاعة التي لحقت بالمدينتين المحاصرتين كانت نقطة التحول الأساسية التي بنى الكاتب عليها روايته، حيث أنه كشف عن معظم التحولات الاجتماعية التي أصابت الناس، ودفعت بعضهم إلى اليأس والبعض الآخر إلى الانتقام والهروب، كما أن الرواية تضع هؤلاء الناس المحاصرين بين حجري رحى، باعتبار أنهم ضحايا الحرب، فلا هم كانوا يقفون أساسًا إلى صف قوات الجيش السوري، ولا مع المقاتلين الإسلاميين منذ بداية نشوب الحرب.
توثق الرواية عمليات تهريب الأسلحة عبر الأراضي اللبنانية بين رجالات حزب الله والتنظيمات الإسلامية المتشددة التي تشترك في حصار المدينتين من خلال بسط سيطرتها عليهما، وفي الوقت عينه ترصد الصراع المحتدم بين المقاتلين الإسلاميين وحزب الله، وتكشف عن مجمل التحضيرات العسكرية والاستعدادات الأمنية بين الجانبين السوري والإيراني قبل بدء حصار المدينتين، كما أنها تخوض في غمار المعارك الطاحنة بين الميليشيات الأجنبية والمحلية التي اشتركت جميعها في حصار المدينتين الجبليتين (الزبداني ومضايا) الكائنتين في ريف دمشق المحاذي للحدود السورية اللبنانية عند سفوح الجبل الشرقي.
احتوت الرواية كذلك على عشرات الشخصيات المحورية التي توالى ظهورها المتعاقب في متن الرواية في ظل شيوع المجاعة التي تسببت في تساقطهم جوعًا ومرضًا واحدًا تلو الآخر، وذلك بعدما نحلت أجسادهم الضعيفة، وبرزت عظامهم، وتغيّرت طباعهم وأهوائهم، ولعل تركيز الكاتب على شخصية حسان آغا يفي باستجلاء الوجع الإنساني الذي سارت من أجله مجمل الأحداث، ولذا فإن الآلام المضنية التي تعرض لها – حسان آغا- والخسائر الفادحة والأثمان الباهظة التي دفع فاتورتها من دمه ودم أطفاله عكست معنى الرواية من خلال اسمها، وحسان آغا هو بطل الرواية من أصل كوردي سرياني لطرف جده خليل آغا الذي يبرز دوره في أول فصول الرواية كأحد الأمراء الإقطاعيين الكورد في منطقة آمد.
ضمت الرواية ثلاث رسومات مختلفة على أغلفة مجلداتها الثلاثة من عمل الفنان الكوردي ديلاور عمر، وهي تعكس مختلف حالات البؤس والضياع والقهر الذي شاب حياة السوريين خلال سنوات الحرب الطاحنة، فيما استغرق إنجاز الرواية كنص سردي لامست أجزاؤه ومشاهده المكثفة فواجع الحرب المريرة في كل تحولاتها وتقلباتها- أكثر من ثلاث سنوات امتدت من صيف العام 2016 حتى مطلع العام 2020، وهي تعد بذلك أطول وأضخم رواية في الأدب العربي، كنص غير مجزّأ في عناوينه العامة، أو مقسّم في أحداثه وشخصياته القائمة في متن النص، بل إنها تعد واحدة من أطول خمس روايات حرب في سلسلة الأدب العالمي.
أخيرًا؛ فإن هذه الرواية الطويلة إنما جاءت لتذكّر القارئ، وتشد انتباهه في كل الأحداث التي سيمر بها، بأن الجوع هو أحد مخرجات الحرب التي تسببت في خلق البؤس واليأس اللذين أصابا الناس المحاصرين الذين جسدوا معاناة السوريين كلهم.
ثائر الناشف، وهو كاتب وإعلامي سوري؛ ولد في الثامن من مارس/ آذار عام 1982 في مدينة الرقة السورية.
دَرَسَ الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة دمشق، وتخرّج من كلية الإعلام والصحافة عام 2005؛ وكان قد غادر سوريا عام 2007 بسبب مواقفه السياسية آنذاك.
أقام في مصر لمدة ثماني سنوات، حيث عاش في ربوع القاهرة كصحفي منفي، وعَمِلَ كاتبًا في العديد من الصحف العربية، ومُقدِّمًا للبرامج التلفزيونية، فأصدر خلال تلك المدة العديد من المؤلفات المسرحية، والكتب الفكرية والنقدية، ثم غادر مصر إلى أوروبا في مطلع عام 2015 بعد أن أصبح بأمس الحاجة إلى جواز السفر؛ والذي حُرِمَ من الحصول عليه لأكثر من ست سنوات.
ورغم ارتحاله الأخير الذي قاده إلى الإقامة الدائمة في النمسا، إلا أنه آثر الخوض في أهوال الحرب السورية، وكرّسَ معظم وقته في الكتابة عنها، فقد استغرق أكثر من ثلاث سنوات في كتابة رواية “المسغبة” على سفح الجبل الشرقي.