إبراهيم محمود
اجتاح مرض غريب من نوعه مدينتنا، مرض غير مألوف، رغم أن مدينتنا شهدت أمراضاً كثيرة، مخيفة، مميتة، مقلقة كثيراً، سوى أن هذا المرض لم يسبق لأحد أن عهده أو تعرَّض له، ولم تفلح مدينتنا في التغلب عليه، إنما تبلبل عليه وعيها، وازدادت تخبطاً مع الأيام .
فأهلها الذين عرِفوا بيقظتهم النسبية، وقلة نومهم، لأسباب عائدة إلى ظروفهم الحياتية الصعبة، وجدوا أنفسهم فجأة في وضعية مغايرة، لقد باتوا يعيشون حياتهم وهم نيام، حل ليلهم المعهود بأنه وقت نومههم، محل نهارهم، بوصفهم نهاريين. أكثر من ذلك، أصبحوا ينتشون باستغراقهم في النوم، وإطالة أمد نومهم مع الأيام، وأصبحوا يطلقون على الصحو كابوساً، ليرتدوا سريعاً إلى وضعيّة النوَّم، وهم يشخرون، أو يتنفسون بعمق، أو كما لو أنهم موتى بنفَسِهم البطيء جداً .
كانوا يطيرون دون أجنحة، تكون لهم رؤوس بقر، أو تيوس مثلثة، أو زعانف سمك، أو أنوف فيلة، أو أنياب ضبع، أو أذناب ملفوفة على رقابهم، أو ثلثهم آدمي، والثلث الآخر حيواني، والثلث المتبقي نباتي كما في الأساطير. كانوا يختلطون مع بعضهم بعضاً. يمارسون المنكر، وهم سعداء، يرتكبون الجنايات وهم يهنّئون بعضهم بعضاً، يهلّلون لفجور بعضهم بعضاً .
كان صحوهم مقتلهم، محل خوف كبير لديهم، ولسان حالهم في من لا يعرف نفسه، بأنه كالغارق في صحوه، وهم يشمتون باللحظة هذه، ويقلقون كثيراً، وهم يحاولون النوم من جديد، وهم يراقبون بعضهم بعضاً، والأكثر قابلية وسرعة تماثلاً للنوم، كان محل حسد البقية، كان قدوتهم. وجرت محاولات كثيرة من قبل المعنيين بعلوم الصحو والنوم، أو النوم واليقظة، من قبل الأطباء الشعبيين، أو الظاهرين في حالات كهذه، ودعايات شغالة من هذا النوع، حول أكثر الوصفات سحرية، والأقل كلفة، بصدد دواء مركَّب، أو عشبة معينة، وكيفية استحضارهم: نقْعها مثلاً، وشرْب مائها، أو الوضعية التي يمدّد فيها جسمه لينام سريعاً.
ولم يدخر المعنيون بأمور الدين جهداً، في تبيان ما يجب أن تكون عليه العلاقة بين كل من الرجل والمرأة في وضع كهذا، ليتغير كل شيء، ليتمكن أناس مدينتنا من تسيير أمورهم اليومية.
كان أحدهم إذا أراد تهديد سواه، يقول له: انتبه، سأحرمك من النوم. تلك كانت أوجع عقوبة، وكان دعاء أحدهم على الآخر: رب يحرمك من النوم، ويجعلك من أهل الصحو، أرهب دعاء، ربما يثير نزاعاً، وصراعاً دامياً بينهما .
وقد وضعوا قوانين، شملت كل مناحي الحياة، تتكيف مع وضعهم الجديد، قوانين رئيسة، وأخرى فرعية، وقوانين خاصة، وأخرى عامة، لئلا يكون هناك من يخالف ما هم عليه .
لا أحد يعلم، كيف ظهر هذا المرض الذي سُمّي وباء فيما بعد، وأعطَيت حوله تفسيرات كثيرة، ذات مرجعية جغرافية، أو جينية، أو اثنية، سوى أن أناس مدينتنا، اعتبروا ما جرى لهم، رغم أنه صدمهم في البداية، وما أن أدمنوه حتى اعتبروه نعمة سماوية نالوها دون غيرهم ، ولم يكن هناك أي استعداد لدى أي منهم، لأن يعرف حقيقة الجاري، بالعكس، اُعتبِر أي تفسير مؤامرة عليهم، وأن من يسعى إلى ذلك، لا بد أن تكون صلات قوية بأعدائهم التاريخيين .
بالطريقة هذه عاشوا حياتهم، ونمت علاقاتهم مع بعضها بعضاً، ونسوا أنهم كغيرهم من البشر الذين ينتمون إليهم، وقد تلمسوا في الحالة الجديدة طرباً أثملهم، لم يشهدوا نظيراً له من قبل .
حياتهم هذه كانت مضرب المثل في الجوار القريب والبعيد، وكونهم يعيشون حياتهم حيث هم نيام، وهم ليسوا نياماً، طالما أن ذلك يتم بوعي وتخطيط منهم، فإنهم لطالما استخفوا بالمحيطين بهم، ورثوا أوضاعهم، وكيف يستطيعون الإقامة في الحياة بالطريقة الغريبة تلك.
كل ذلك ولَّد فروقاً كبيرة بينهم وبين هؤلاء أو أولئك، لهذا ما كانوا يبصرون أو يسمعون ما يجري حولهم، ولم يكن لديهم أي تأثر بالتغيرات التي تجتاح الجوار، ونوعيتها، وكيف أنهم كانت تؤثّر في أحوالهم في كل مرة، دون أن يكون لذلك أي صدى. طبعاً لأنهم سعداء نومهم.
ما كان يقلقهم، ويثير حنقهم، هو ظهور أعمى، كما لو أن وقبي عينيه ينطويان على حفرتين انهداميتين، ينطبق عليهما جفنان كالغطاء، وقد غار إلى الداخل، كما لو أنهما انخسفا. هذا الأعمى الذي لا أحد تمكن من تحديد عمره الدقيق، نظراً للوضعية المغايرة التي يعيشها، وأسلوب الحياة الذي يعتمده في تأمين رزقه، وكيفية الاتصال بالآخرين.
هذا الأعمى المتقدم في العمر، وقد تردد أنه جاوز المائة في عمره، تبعاُ لتقديرات معمري المدينة، ما كان يكف عن رفع صوته، مردد الصدى في الجوار، كأنه العويل: اصحوا يا نائمين.
لعله الوحيد الذي كان يُسمَع صوته، ولا أحد يعلم بكيفية التنقل، والانتقال من شارع إلى شارع، ومن حي إلى حي، ومن ساحة إلى ساحة، كأنه أكثر من واحد، شبيه الهدير.
كانوا يعتبرونه المنحوس، أو ذا بحظه العاثر، والجدير بالشفقة لأنه مصاب بمرض فقدان الاتصال بالحياة التي يعيشونها هم، وأعيتْهم الحيَل في مداواته، أو الدفع به إلى السكوت، سوى أن محاولاتهم لم تتوقف، من جهة الاتصال به، والضغط عليه، وحتى تهديده في حال الاستمرار.
في ليلة أحس أهل المدينة هذه أنهم للمرة الأولى يمضون نصف يومهم النهاري كما يشتهون، دون أن يعكر صفو نومهم صوت ذلك الأعمى وقولته المستفزة جداً لهم: اصحوا يا نائمين .
لا أحد يعلم حتى اللحظة، ماذا جرى، ماذا حل بأعماهم، ومن الذي أسكته. لكنهم سرعان ما توقفوا عن طرح أسئلة لم يكونوا يستسيغونها أساساً، طالما تحقَّق لهم ما كانوا ينشدونه.