«نسوة في المدينة»* بين أدب الاعتراف والسيرة الذاتيّة

  فاطمة نزّال**
كم سيعرّي هذا الكتاب من عورات؟
هل سيكشف ضعفنا الإنساني كبشر؟
كم منا سيواجه المرآة دون أن يكسرها؟
كم منا سيتصالح مع ذاته ويتقبلها؟
كم منا سيزيح هذا العبء من المثاليات عن كاهله؟
كم منا سيرجم كاتبها وسيجلده بسياط الستر والفضيلة؟
أي إشكالية سيثيرها هذا الأزرق القاتم بشفافية فراس حج محمد وتحت أي مسمى سيندرج هذا النتاج الأدبي؟
هل كان يهدف الأديب والناقد فراس حج محمد إلى الشهرة وإثارة الرأي العام كونه معروفا في جرأته غير المعهودة في طرح أفكاره وما يخالج نفسه في مجتمعنا المحلي والعربي وهو المتأصل القروي الناشئ في كنف حزب إسلامي متشدد والمنتسب مؤخرا الى حزب يساري،  أم له  غرض آخر؟
هذه الجرأة التي وردت بأكثر من مقال إشكالي كادت تخسره وظيفته في سلك التوجيه التربوي ، وجمدت تقدمه فيها وحجمت دوره.
هذا البوح الذي يعري كاتبه بالدرجة الأولى ويضعه في مقصلة الرقيب، الرقيب المجتمعي الذي يرفض بأي حال هذا الجهر “بالرذيلة” تحت مسمى الأدب، وحتى نكون منصفين علينا أن نقرأ ما بين سطوره من خيبات وما يفرغه من حمولة خطيرة تكاد تكون ظاهرة وإن تعامينا ووضعنا رؤوسنا في الرمال.
المتتبع لما ينشره الكاتب على جداره في الفضاء الأزرق من فيس بوك وتويتر إلى المقالات التي تنشر في الدوريات الإلكترونية  والورقية أو ما نشره من إصدارات، من كتابه “يوميات كاتب يدعى x” إلى كتاب” و”كأنها نصف الحقيقة” و”ما يشبه الرثاء” ومؤخرا “نسوة في المدينة” يستشف بوضوح أن لديه مشروعه الأدبيّ الذي يعكف على تكريسه، بتمرد  على نمطية الكتابة وثورة على تدجين الكاتب وتكبيله بالسائد المجتمعي المرضي عنه، وإطلاق مارد الكاتب المتجلي في ذاته الحقة المتصارعة مع ذاته الثقافية المكتسبة بفعل الاجتهاد. وهذا يقودنا إلى البحث عن رواد من الكُتّاب في مجال يسمى “أدب الاعتراف”، فما هو هذا المجال؟ وهل نجده في ظل مجتمع منغلق الثقافة محاصر ومتخم بالذاتي؟ وماذا يختلف عن أدب السيرة؟
يقول مايكل سبرنكر في كتاب “حياتي” ص82: “لا تتحقق السيرة الذاتية إلا في نطاق الكتابة التي تتضافر فيها مفاهيم الذات والأنا والمؤلف وتنمحي الحدود بينها في عملية إنتاج النص”. وهذا ما يؤكّده برنارد شو بقوله “أروع السير الذاتية هي الاعترافات، ولكن الكاتب لو كان عميقًا فإن كل مؤلفاته تصبح اعترافات”.
والاعترافات ترتبط عادةً بالأنا وعلو هذه النزعة، يقول جان جاك روسو في سلسة اعترافاته  ص9: “إنني مُقدم على مشروع لم يسبقهُ مثيل، ولن يكون له نظير؛ إذْ إنني أبغي أن أعرض على أقراني إنسانًا في أصدق صور طبيعته.. وهذا الإنسان هو: أنا”.
ويستطرد “فإذا ما انطلقت صيحات بُوق البعث، عندما يُقدّر له أن يدوّي، فلسوف أَمْثُلُ أمام الحاكم العادل، وهذا الكتاب بين يديّ، ولسوف أقول في رباطة جأشٍ هذا ما فعلت، وما فكّرت، وما كنتُ، لقد رويت في كتابي الطيب والخبيث على السواء، بصراحة، فلم أمحُ أي رديء، ولا انتحلت زورًا أي طيّب، لقد صوّرت نفسي على حقيقتها، في ضعتها وزِرايتها، وفي صلاحها، وحصافة عقلها وسمُوّها. لقد كشفت عن أعمق أغوار نفسي، كما كنتَ أنتَ تراها، أيها الخالد السرمدي”.
ومن هذا المنطلق كما يبدو لي انطلق فراس حج محمد في خوض غمار هذه التجربة التي تحمل ما تحمل من مخاطرة قد تودي بكل ما عكف على بنائه  أو قد تنقله إلى مصاف أعم وأشمل، له مؤيدوه ومناصروه وإن خفت صوتها اتقاءً للعاصفة التي سيثيرها. يقول  في كتابه “نسوة في المدينة” ص13: “ثمة أشياء ستحدث لي بعد نشر هذا الكتاب، سيشيع بين القراء شيوعا كبيراً وسيطبع  منه عدة طبعات عربية ومحلية وسيزوّره تجاز الكتب أما أكثر الأحداث توقعا فهي ترجمته لأكثر من ثلاثين لغة”، ويستطرد: “هذا الكتاب على ما فيه من سرد سيكون طاغيا ليس لأنه يتحدث عن كاتبه كما هو عار عن كل بلاغة وجمال لغوي، بل لأنه سيشكل علامة فارقة في مسيرة الكتب التي تتحدث عن شيء مجهول حتى لكاتبه غير المعروف حتى لحظة انشائه أول جملة فيه”.
واذا أسقطنا  ما أورده روسو في اعترافاته على ما صدّره  الكاتب حج محمد في “نسوة في المدينة” فإننا نجد أن الكاتب يريد أن يتطهر  بهذه الاعترافات ويتخلص من وزرها بمكاشفته ودلقها دون أن يحسب حسابا لما ستتركه من أثر سلبي على متلقيه فما يهمه قبل ذلك وفي الدرجة الأولى سلامه الداخلي وانعتاقه مما يجيش في صدره وما يحمله على ظهر حقيقته من تجارب قاسية أودت بكل ساكن، وقلبت كل ثابت حيث يقول”تجاربي في هذا الكتاب واقعية وحقيقية بالكامل، لم تكن على سبيل التخيل أو التعويض النفسي الذي لا أؤمن به، إنني هنا اتقيت شر نفسي بنفسي وأحسنت إليها فكتبتها عارية دون أي مواربة ودون التمترس خلف نظريات اجتماعية وفلسفية وفكرية وأخلاقية ودينية.  
كنت مقتنعا أنه من الجميل أن تكتب كل ما تستطيعه لتكون أنت كما أنت لا كما يريدك الآخرون . لا شيء أخجل منه وقد حدث كل ذلك بكامل إرادتي”.
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
                  وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
على رأي الشاعر العباسي المتنبي يتسائل حج محمد بمرارة ص78: “هل كنت سعيدا بعقلي؟ وهل هو مآل خراب النساء الراحلات وحسب؟
ثمة آخرون خربوا عقلي كذلك، الأحزاب والسياسة كانت أقل تخريبا، المؤلفون العرب والأجانب، كانوا كثيرين يربض كل واحد منهم في كتابه يتربعون على حصيرة عقلي فاتحين كتبهم فتتطاير منها الأفكار واحدة واحدة كمثل فراشة نار أو ربما كتنّين أسطورة تتسابق وتتصارع على التهام ما تبقى من خلايا عقلي الخرب. فكيف السبيل إلى طردهم خارج العقل لعلني أنظف من غوغائيتهم وجلبة أفكارهم الضاجة والصارخة؟ يا ليتهم لم يعرفوني ولم يدخلوا حيث هم الآن”.
ما افتتحت به مقالي هذا من تساؤلات يضعنا أمام إشكالية تتعدى الكتاب وفحواه، فالأدب العربي عدا الغربي  قديمه وحديثه زاخر بالكثير من الأدبيات الجريئة التي تسمي الأشياء بمسمياتها دون مواربة أو حتى رمزية، وفي ظل الانغلاق الذي نعيشه في عصرنا الحالي وعدم اطلاعنا وتبحرنا في القراءة وتبنينا نظرية المؤامرة لطمس ما نتباهى به من إرث أدبي معرفي. بعض المتلقين يقولون لا نريد معرفة هذا ولا يعنينا. وهذا صحيح؛ إن التعري يجعلنا نشعر بعدم الارتياح، كما لو أننا نتلصص متواطئين.
من المفترض بالأدب الاعترافي الإقرار أو ما يعادله، ولكن إذا شعرنا بالقرف، والاستحالة، فقد فشلت المهمة. المؤلف يمد يده مستنجدا مستصرخا، لكننا نرفضها. عندما يكاشفنا بأموره الخاصة ويتيحها هكذا  إلى العامة، سيواجه احتجاجات وسخط وسب ربما. ولكن أيضا بالمقابل سيكون هناك قراء يشعرون بالتصالح مع ذواتهم، ويمتنّون لما تمّ تدوينه.
يمكن  للسرد أن يحظى بالقبول. ولكن إذا كنا في  الأدب نرفض حرية الكلمة والارتجال، وإذا كانت قيمته تكمن في كسر القواعد عن طريق قول الحقيقة، وإن كانت موجعة إلا أنها بالاعتراف تعتبر أصدق أنواع الأدب، وبالتالي فإنّ أدب الاعتراف بما يتمتّع به من صدق ومكاشفة ذاتية يعدّ أحد صور السيرة الذاتيّة الأكثر دلالة على الذات وتجاربها في بعديها النفسي الذاتي والبعد الاجتماعي، كما هو واضح في كتاب “نسوة في المدينة”.
 

 وأيّا كان، فإنّ ما أورده حج محمد في كتابه من ما يجري في غرف الدردشات الزرقاء، وعلى قدر انخراطه في هذه اللعبة التي خرج منها بعقل خرب، كما وصف نفسه، إلا أنه يكشف الخراب الذي يداخلنا جميعا، وإن تفاوتت جرأتنا في مواجهة أنفسنا، ومواجهة مجتمع كامل يتظاهر بالفضيلة في العلن بينما يمارس في الخفاء كل رذائله. مجتمع استفحل فيه المرض، مكابرا يسير إلى الهاوية، بينما ببعض المكاشفة والشفافية والاعتراف يجد السبيل ليتعافى.
_______________________
* صدر  الكتاب عن دار الرعاة للدراسات والنشر، وجسور ثقافية للنشر والتوزيع، رام الله وعمّان، 2020.
** كاتبة وشاعرة من فلسطين، صدر لها ديوان شعر بعنوان “اصعد إلى عليائك فيّ”.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…

صدرت الترجمة الفرنسية لسيرة إبراهيم محمود الفكرية” بروق تتقاسم رأسي ” عن دار ” آزادي ” في باريس حديثاً ” 2025 “، بترجمة الباحث والمترجم صبحي دقوري، وتحت عنوان :

Les éclaires se partagent ma tête: La Biography Intellectuelle

جاء الكتاب بترجمة دقيقة وغلاف أنيق، وفي ” 2012 ”

وقد صدر كتاب” بروق تتقاسم رأسي: سيرة فكرية” عن…