نظرٌ شمسيّ إلى فيرالا

عبدالرحمن عفيف

قلتُ لنفسي:” سأبقى في حلب إلى ما لا نهاية وأترك هذا الهواء على شعري وصدري بلا بداية ولا نهاية وسأحصل يوما ما على جائزة أخرى” . صديقي سمير أُعجب بفكرة وضع نظّارة شمسيّة في اللّيل وفهم أنّها تخفي العيون وبذلك الخجل وكنّا كلانا خجولين في سنوات الدّراسة الأولى، فأخفت النظّارة عيونه وبدأ يسأل الحلبيّين أسئلة لا غاية منها إلاّ فحص جرأته الذّاتيّة أثناء التكلّم بالعربيّة تحت النظارات السّوداء
ووقعتُ حين وضعت النظّارات من جهتي في حبّ فيرالا. دخلتُ كليّة الآداب في اليوم التّالي من شرائي للنظّارة وبالقربِ من منصّة المحاضرِ نظرتُ إلى الطلاّب والطّالبات في قاعة المتنبّي قبل حضور الدّكتور المحاضرِ. رأيت أوّلا محمّد رفّي في آخر مقاعد القاعة هو وإلى جانبه دارا هوارا وشابّان آخران من القامشلي وهم رأوني بنظّارتي في الأسفل وعليّ البذلة الجامعيّة الزرقاء الفاضحة الكاشفة، بعدئذ قالت لي النظّارة:” انظر إلى حيث تجلسُ فيرالا الشّقراء وإلى جانبها فتاة اسمها جيجك من عفرين أومن كوباني!”. فنظرتُ إلى فيرالا ذات الشّعر الأشقر والأنف المتناسق وكانت بغير بذلة زرقاء إنّما ببلوزة ولم أعرف أنّها من القامشلي ولم تقل لي النظّارة أيضا. يلوّح لي محمّد رفّي من الصفّ الأخير المرتفع جدّا ودارا هوارا يهزّ يديه مناديا زميله وقريبه من عامودا وأنا، بدل النظر إليهما أنظرُ إلى النظّارة وخلالها إلى فيرالا وذهبت إلى فيرالا؛ بعد أنْ نظرتُ إليها طويلا وانشدّ انتباهها إلى نظّارتي وإلى شخصي الواقف لدى منصّة الدّكتور ناظرا إليها بدون وهلة وبتركيز على فنّ العشق. ” أريدُ التعرّف عليكِ يا فيرالا والوقوع في حبّك كي أستطيع أن أنسى أمينة وقلبها بين بين في القامشلي وعلى الطّريق وغير واعية بالحبّ وغير منتبهة بالشّعر والنثر؛ هناك لها ابنة لا تشبهها وولد في بطنها وهي تنظّف المرآة” هكذا كان قلبي يرغب أن يقول وكلمات القلبِ كانت على شفتي حين تكلّمت إلى فيرالا وأردتُ معرفتها ولم أدرِ أنّها من القامشلي ثمّ قالت إنّها من القامشلي ولم أحكِ أيّ شيء لها عن أمينة ولا عن أخت أمينة التي كنتُ أعرفها أيضا ولم أخبرها بشيء عن قصّة النظّارة الشّمسيّة واستخدامي لها لأجل الجرأة في الوقوعِ في الحبّ ونسيان الحبّ بعكس سمير الذي كان يستخدمها لأغراض قصيرة الأمد ومرّة أو مرّتين وأنا أدمنت لبس النظّارة. أضعُ النظّارة الشمسيّة فأقترب من فيرالا وهي فرسٌ صهباء تجلس في قاعة المحاضرة ولكنّ شعرها يرفرف في طرق القامشلي كالرايات تحت الشّمس ونظّارتي الشمسيّة سوداء مع ذلك يظلّ شعرها الأشقر أشقر وأنفها المتناسق هكذا بلونه وقامتها طويلة وأنثويّة. ” مَن الذي جلبني إلى حبّ فيرالا وهذه خيانة مع حبّ أمينة وربّما جاءت أمينة ذات يوم وأحبّتني بدل سنواتي جميعها في غرامها وذهبنا إلى ألمانيا” أقول في نفسي ورجلي اليمنى على حصير حبّ أمينة والرّجل اليسرى بين منصّة الدّكتورِ والاتّجاه وصعود الدّرجات للتكلّم مع فيرالا. عرفتُ بدون النظّارةِ فيرالا أو تعارفت معها ومع الفتاة جيجك الجالسة بقربها وهي صديقتها من عفرين أو كفر جنّة أو أيضا كوباني وتسمّى جيجك، حيث شرحت لي اسمها الذي يعني زهرة بقرب نبع بارد والنبع ينبغي أن يكون باردا وإلاّ فإنّ اسمها ينقلب إلى كولي أي الوردة الحمراء وهذا ليس اسمها، إنّما اسمها جيجك جيجكي أي زهرة متفتّحة بقرب فيرالا، صديقتها من مدينة القامشلي وودتُ أن أسأل فيرالا:” أتعرفين حبّي الذي قبلك بسنوات وإلى الآن ولو أنّ النظّارة تعطيني الجرأة لأتعرّف عليك وأقع في حبّك وأنسى حبّي العتيق مثل النّواعير؛ هل تعلمين أنّ هواء حلب في المساء يهبّ على نظّارتي فتحسّ النظّارة بالارتعاش والانتعاش وتبدّل لي الواقع فأنسى بالفعل حبّي الأوّل في عامودا وعلى الغبار وآتي إلى حلب لأعرف أنّ جيجك تعني زهرة مزركشة ترقص في أعراس العفرينيّين؛ يجري نهرُ عفرين بمائه الموحلِ والقشّ فيموت عدنان دلبرين بين زهرة وزهرة وفيرالا من القامشلي على نهر الجقجق؛ هل تعرفين نهر الجقجق يا جيجك ويا فيرالا هل تعرفين أحدا من مدينة عامودا؟” لا أسألُ فيرالا هذا المونولوج الطّويل وأكتفي فقط ببعض التّعارفِ الخفيفِ وأذهب إلى جماعة محمّد رفّي ودارا هوارا والشابين من القامشلي وقرية علي فرو. وضعت النظّارة في جيب جاكيتي بعناية وجلست بين صديقيّ محمّد رفّي ودارا هوارا في ذلك اليومِ سمّى دارا نفسه ب” دارا هَوارا”. حين أكون في بيتهم سائلا عن أوقات فحوصِ الجامعة أو عن تفاصيل بعض الموادّ، يغمغم ويوضّح أشياء وأخرى تبقى في مكان ما في الطّريق بين جامعة حلب وجسر اسمنتيّ مغبرّ في روحي أو في ظهيرة أحد أيّام عامودا. لكنّ دارا هوارا بدون أعرف لماذا يقلب الموضوع قلبا:” شيخ، سأنتحرُ ذات يوم برمي نفسي من على ظهر حجر البلوكِ ذاك”، أنظرُ إلى قطعة البلوك التي لا يتجاوز عرضها خمسة عشر سنتيمترا وأنظرُ إلى جلاّبيّته بقرب من البلوك وشجرة صنوبرٍ صغيرة مغروسة منذ شهر. ويتابع:” وإن لم أمت من الرّمي، فسأشنق نفسي بخيط إلى شجرة الصّنوبر تلك”. ظلّ اسم دارا دارا إلى أن كبر وأصبح ضخما فسمّى نفسه دارا هوارا وخطّط أن يدرس الأدب العربي معي في جامعة حلب، معي ومع صديقي محمّد رفّي، الشّاعر الذي نال الجائزة الأولى أو الثّانية في إحدى المسابقات الشّعرية وكانت الجائزة حقيبة لوضع أوراق المسودّة من الجلد الناعم القابل للذوبان وبعض أقلام الرّصاص من مصنوعات حلب. الأقلام لكتابة القصائد عن النّساء الكثيرات اللواتي كان سيقع في المستقبل في حبهنّ والجلد أو حقيبة الجلد ليغطّي قصائده بها أثناء المطر. جواب محمّد رفّي ظلّ غامضا وكنتُ متعبا من إمضاء خمس ساعات كاملة في الباص، فتركتُ البحث في جواب محمّد رفّي وتخيّلته يأخذ التمرة الخضراء وحين يصل إلى قريته، تصبح التّمرة ناضجة، فيلتهمها بلذّة ويبدأ بكتابة قصيدة ما على جلد كوخ الدّجاج. لم يقل لي أيضا دارا هوارا، مَن تكون فيرالا وأظنّ أنّه لم يكن يعرفها حين نظرتُ إليها بنظّارتي الشّمسيّة التي اشتريتها في حلب وكانت هذه هي المرّة الأولى التي أضع على عينيّ نظّارة شمسيّة؛ فعلت ذلك في اللّيل في حلب ونظرتُ إلى النّجوم ولم تكن النّجوم نجوما إنّما حنينا يلتوي في أحشاءٍ ونظرتُ إلى الحلبيّين والحلبيّون صاروا قوما في اللّيل وهبّت ريحٌ على أشجارِ حلب الواقعة بالقربِ من محطّة القطارات فوقعت في مكان شعريّ غامض وناءٍ ومتآمر مثل جائزتي التي أكلها شخص ما من الحسكة أو محمّد رفّي. قلت له بعد حصوله على الجائزة حيث كنت في عامودا أثناء تلقّيه لها وأيضا جائزتي التي أكلها وكنت غائبا عن قصيدة حول الأيدي التي تبيع نفسها في سوق الجمعة والفقر ومعاناتي في بيوت الرّطوبة أثناء شتاءات حلب وانقطاع الكهرباء الملازم لتلك الشقق نصف القبويّة وأيضا قصيدة الحبّ التي كتبتها عن حبّي لفيرالا الشّقراء من القامشلي. لم أكن أعلم بداية أنّها من القامشلي حيث لم أختر فيرالا لأقع في غرامها لمدّة شهر أو شهر ونصفٍ ولم يكن محمّد رفّي الذي أكلَ جائزتي عن القصيدة عنها يعرفها أيضا ولم يشر عليّ أو يؤلّبني لأقع في حبّها وأنسى أمينة ورجلٌ لأمينة كانت آنذاك في القامشلي وفمها ودماغها في القامشلي وبعض أوراق ذكرياتها كانت بين بين وتنام. حين أتيتُ إلى الجامعة، أخبرني محمّد رفي:” لقد حصلنا على الجائزة، أنا الأوّل وأنت الثاني وأنا حصلت على عشرين قلما من مصنوعات معمل للجلود وجلدا من نفس المصنوعات؛ استهلكت الأقلام تقريبا وأهديت بعضها لتلاميذ المدارس في قريتنا ليكتبوا وظائف الرياضيات والجلد رميته فوق كوخ الدّجاج ليحميها من الدّيك الفطحل”. ” وأين هي جائزتي عن حبّي لفيرالا؟”، ” لا أعرف، لم تكن موجودا؛ ربّما هي عند ذلك الشّاعر من الحسكة الذي قرأ بدلا عنك القصائد وأعطاه الشّاعر العراقي كريفونة الغياب بضعة مجموعات من أشعاره المناحيّة من جنوب العراق وربّما كانت جائزتك تمرة خضراء.” في الأيّام التّالية أغيّر اسم فيرالا بالمشورةِ مع سمير أو الشابّ من قرية علي فرو، صديقي عمر ويصير اسمها فريال وتبقى ملامحها جذّابة ودمها يقول لي” ضع النظّارة، نظّارة الشّمس والحبّ واقترب من هذه الفرس الجموح، أيّها الشّاعرُ الجموح وقبلك محمّد رفّي، الشّاعر الجموع الذي أكل التّمرة وربّما هو أيضا يقع في حبّ جيجك ونحتفل في قاعة المطالعة بكم بدل إقامة الأمسية التي كانت جائزتك فيها عدّة كتب وأيضا، وربّما لا تصدّق ذلك، نظّارة شمسّية زرقاء وليست سوداء كهذه التي على وجهك.”. ” ما هذا الدّم الذكيّ الذي يجري في عروقِ قلبِ الشّعر الأشقر القامشلوكي!؟” أسأل وأقولُ لنفسي وألتقي بعد تعارفي مع فريال بدارا هوارا في الممرّ حيث هو ومحمدّ رفّي في نقاش حامي الوطيس ودارا هوارا يريد أن يثبت له معنى إحدى الكلمات ومحمّد رفّي لا يقتنع بالمعنى؛ فينهمرُ دارا هوارا ويحمرّ ببدنه وحين يلمحني يطرح الموضوع عليّ؛ وفيه معه الصّواب، فيقول لنا:” أنا جهبذ من جهابذة جامعة حلب، أليس كذلك يا شيخَ  فيرالا؟  ومهرُ فيرالا ينبغي عليك أن تبدأ بجمعه بالذّهاب وحصد العدسِ في مواسمه في القرى.” أذهبُ في الأوّل لجمع المهرِ إلى حصد عدس آل الخالدي القريبِ  إلى ألغامِ الحدود التركيّة؛ آكلُ حبّات العدس الطريّة تحت الشّمس المحرقةِ ناسيا النظّارة الشمسيّة في ركن ما وربّما في حلب وجاءت الامتحانات وبعدها امتحانات أخرى وفيرالا أصبحت فريال ثمّ عادت وأصبحت فيرالا ثانية ولم ألتقِ دارا هوارا أثناء عملي في حصادِ العدسِ لثلاث ساعات فقط في حقل آل الخالدي ونظرتُ إلى الشّمس بعينيّ إلى السّمت والشّمس التهبت فوق رأسي وجدلي؛ فبدأت بأكل البيض حين جعت وبيضة أخرى مغليّة ونظرتُ إلى زهرة ذات حويصلة ملتهبة ولم تكن تشبه جيجك ونسيت بدون النظّارات فريال التي كانت الآن في القامشلي وفي الحقيقة نسيتُ أنّ فتاة اسمها فريال موجودة أساسا، خاصّة بعد أن بدأ جلدي يحكّني وقمتُ بحكّه في كلّ أرجائه وتوقّفت عن حصدِ العدس بالمنجلِ ووضعت المنجل على كتفي وعلى الأرضِ وبدأت بجلدي بلا بداية وخفت حيث تورّم مكان الحكّ وصار مثل الدم، فتوقّفت وتوقّفت وغضبت من مشورة ورأي دارا هوارا وتشاجرت مع صاحبِ العدس، ذاهبا إلى الدكتور هرانت قرنفليان. ” لقد قمتَ بغشّي يا دارا هوارا وأنا حين أحصد العدس أنسى فيرالا وهي تذهب؛ ربّما هي خطيبة أحدهم، خطيبة ابن عمّ أو ابن خالٍ في حارة ما من حارات القامشلي العديدةِ وربّما تكون جارة لأمينة وتخبرها بحبّي لها وأمينة لا يهمّها الأمر.”. يكتب لي الدّكتور هرانت إبرا عديدة ضدّ التحسّس الذي أصابني من ثلاث ساعات في حصاد العدس ولم أتلقّ أيّ أجرٍ ليكون مساهما في طلب يد فيرالا التي نسيتها في عامودا وعدتُ إلى حبّي الأوّل الذي بدون نظّارة شمسيّة وأقتنع: الحبّ الحقيقي الذي يدوم والذي هو من طرفٍ واحد هو ذلك الحب الذي من طرف واحد وبدون نظّارات شمسيّة، زرقاء أو سوداء أو حمراء للجرأة وكيف يمكن جمع المهرِ من الذّهاب إلى حصاد العدس حسب إشارة دارا هوارا. شفيت من الحساسية بعد أيّام ومنعني الدّكتور من أكل البيض والقهوة وخاصّة في هذا الصّيف ولم يتحدّث عن النظّارات أو جمع المهورِ فذهبتُ بعد أيّام مع صديقي جمعة إلى القامشلي وربّما قبل ذلك مع جمعة نفسه إلى القامشلي، إلى حارةٍ بعيدة، فيها مساكن مرتفعة؛ مررنا بمعهد الصناعة الذي كان يدرس فيه صديقي غسّان، مشينا على جسر ما في السّوق ورأينا أشجارا تشبه أشجار زان رقيقة الجذوع والأغصان؛ كانت خضراء ونفس هواء حلب يهبّ على قاماتها فتميل على شبّاك مصيفٍ ليس في مركز القامشلي إنّما على نهر الجقجق، قريبا من حارة المسيحيّين. نذهب إلى كوربين الذي هو صديق جمعة في المساكن المرتفعة البيضاءِ. ” لماذا تأخذني جمعة إلى كوربين في تلك الحارةِ البعيدة بالمساكن البيضاء وأشمّ من بعيد أنّها مساكن أثرياء القامشلي؟” أسأل جمعة في قلبي، فيجاوبني جمعة:” كوربين يعرف أمينة وربّما يعرف فيرالا أو أحدا ما يعرف أمينة أو فيرالا” . ” لقد كسّرت النظّارات بعد إصابتي بالتحسّس أو نسيتها في الباصِ قصدا حين ذهبت في المرة الأخيرة إلى حلب وقبل هذه المرّة حين غادرت فريال كليّة الآداب تابع أثرها شابّان حلبيّان أو شابّ حلبيّ أصيل من مدينة حلب وشابّ آخر طويل القامةِ يضع نظّارات شمسيّة في اللّيل أظنّ أنّه كرديّ ربّما هو ابن عمّ فيرالا من القامشلي أيضا؛ يشبهها في طوله وهي ربّما خطيبته وأنا أيضا تتبعت خطوات فيرالا حين وقفت إحدى سيّارات الأجرةِ وتقدّمت منها، أريدُ حمايتها من هذين الشابين وهي قالت لي:” أيهمّك هذا، أو أهذا مهمٌّ؟” وأنا صمتُّ وركبتْ فيرالا السيّارة البيضاء وبعدها الشابّان والسّاحة أمام الجامعةِ كانت مضاءة بنورٍ ساطعٍ جدّا فأخرجت النظّارة ووضعتها في اللّيل وأحسستُ أنّني ربّما أحبّ فيرالا وأننّي جنيت عليها بتتبّع أثرها وأثر الشابّين وثمّ أحسست أنّني سأضيّع حبّي هذا أيضا كما ضيّعتُ حبّي لأمينة هناك حيث يعيش العدس ويُحصد لجمع المهورِ.” أقول لجمعة هذا، فيصمت جمعة الذي لا يعرف في الحقيقة أيّ شيء عن جمع المهر وينظر إلى جاره دارا هوارا كما ينظر المرء إلى معتوهٍ  وأعرف نظرته هذه فلا أقول له إنّ دارا هوارا دفعني إلى جمع المهرِ لأطلب يدَ فيرالا وذلك بالاستيقاظ في السّاعة الخامسةِ صباحا والإسراع للحاق بركب حصّادي العدس بركوب التريلاّ التي يجرّها تركتورٌ ما قويّ يأكل القرى. أيضا بمشورةِ دارا هوارا وضعت للذهابِ إلى حصد موسم عدسهم لفاحا أحمرَ على وجهي ولكنّني تأخّرت ربع ساعة في الوصول إلى بيتهم وكان التركتور قد غادر حاملا دارا هوارا وبقيّة شبّان حارتهم ومن بينهم عبّاس. أتعرّف على كوربين في القامشلي، في غرفته حديد رفع الأثقال وعليه جينز مقصوص إلى الركبة ولا علاقة له بي ولا يفهم مطلقا الذّهاب لحصاد العدس وجمع المهورِ وأدرك أنّ مجيئي إليه والتعرّف عليه هي تماما كجمع المهرِ من حصادِ العدسِ؛ ولا يعرف فيرالا وطبعا لم أقل له إنّ اسمها فيرالا أو فريال بل أمينة وأيضا أمينة لم أقل اسمها له وصمتّ طوال بقائنا عنده وجمعة تحدّث معه وقال عنّي:” هذا هو من عامودا، يحصد مع دارا هوارا”. ثمّ بعد أن غادرنا كوربين بدأت بقع تتورّم ثانية على جلدي بعد حكّها، فعرفتُ أنّني أصبتُ ثانية بالالتهاب وتشاجرت مع جمعة وودت سريعا الرّجوع إلى عامودا والّذهاب إلى الدّكتور:” لماذا أتيت بي إلى هذا الحديد، لأصاب ثانية ببقع الحكّ، ماذا أفعل بالأثقال؟”؛ ثمّ بدأت بحكاية النظّارةِ في حلب وحبّي لفيرالا وخلطي بين عشق النظّارة وبدونها وبين أمينة ومهرها ومهر جيجك وتذكّرت نهر الجقجق بدل نهر عفرين وظننت أنّ جيجك كانت تتفتّح مع فريال وأمينة على ضفّته وربّما أشجار الزان لا توجد في القامشلي إنّما كانت تلك التي رأيتها هي أشجار القصبِ تلوّح بها الرّيح في ظهيرة القامشلي وبدأت أفرحُ حين شعرتُ أنّني كسّرت النظّارة وأنّني فقط بحبّ غير مزدوج لأمينة فقط وهو لا يحتاجُ منّي سوى أن أقعد في بيتي وأحبّ، دون أن تذهب أمينة إلى حلب أو تأتي من حلب وأنتظرها سنوات عديدة إلى أن تتفتّح بقرب نهر الجقجق أو نهر الخنزير الذي كان يسمّى نهر داري سابقا تحت تأثير التحسّس مرّة أخرى. لا أحتاج وقد تفتّحت في قلبي ثانية ويقولُ لي جاري عبدالمجيد كنعاني حين نمرّ بسياجات الأشجارِ والأزهارِ الصّفراء والبيضاء على الطّريق، بعد السبع بحرات:” أنت تصرّ على حبّ أمينة وهي ذهبت منذ عدّة سنوات لكي يقول عنك النّاس إنّه كان يحبّها، كان يحبّها.” نسيتُ فريال لشهورٍ بعد أن رأيتها وانتظرت مجيئها أمام باب ممرّ كليّة الآداب فقلتُ لها إنّني آسفٌ لإزعاجي لها البارحة وإنّني فقط وددت حمايتها ومرافقتها للدفاع عنها ضدّ الشابين. وهي وقفت قليلا ولم تتركني أعبّر عن أسفي لفعلتي التي لم تفهمها وأيضا أنا لم أفهمها في ذلك المساء إلى النّهاية ولم تقل سوى:” إف…إف”. وبعدها جاء دارا هوارا وطلب منّي ألاّ أزعج فريال وأن أخرج من وقوعي في حبّها ولم يبتلّ بنطلوني بعد من حصادِ العدسِ، قال أيضا إنّني لن أستطيع جمع أيّ مهر حيث هو بنفسه لاحظ تأخري في النّوم وعدم اللّحاق بتركتور الحصّادين، أخبرني أيضا أنّ الشابّ الحلبي القصير هو شابّ حلبيّ أصيل وأنّ الشابّ الذي معه هو ابن عمّ فريال وخطيبها وأنّهما سيتزوّجان في الصّيف القادمِ بعد حصاد العدس. كلّ هذه الأمورِ حدثت في غيابي عن حضورِ المحاضرات وأثناء وبعد فوزي وفوز محمّد رفّي بجائزة الشّعر من جامعة حلب.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…