وليد الحسيني و تعزيز كائناته المكانية ومكان بقائها

غريب ملا زلال 
لا يلهث خلف الحياة ، بل يصنعها و يعيشها ، لا يتحسر ، و لا يحسد كل البهارج الكاذبة ، له بهارجه الخاصة يجدها في محيطه و مفرداته ، و يكشف عنها كل ما يمكن أن يغسل الروح ليبقى طفلاً كبيراً ، يحمل ألوانه و أقلامه إلى باحة بيته ( الحوش ) و التي لا يمكن أن يبدلها بكل ساحات المدن الكبيرة و حدائقها الذابلة ، و يستمع إلى شفان و آرام ديكران و صفقان و سعيد كاباري و محمد شيخو ، فالشغف الذي يعيشه هنا لا يمكن أن يعيشه في مكان آخر ، فالأمكنة بأهلها و لأهلها ، و لهذا فهو عاشق لعامودا و لأهلها ، لأزقتها و بيوتها الطينية ، عاشق لكل أثر فيها ، و لهذا فهو ينبض بالحياة الحقيقية التي باتت في خبر كان منذ عقد من الزمن و أكثر ، فوليد الحسيني ( عامودا 1966 ) يجسد شخصية حقيقية في هذا الزمن المتورم بكل الأطياف الزائفة ، يعيدنا عقوداً إلى الوراء حين كانت البسمة النقية عنوان اللقاء بين الإنسان و أخيه الإنسان ، حين كان الواقع يغتني ببساطة أشكال الحياة ذاتها ، لا تركيبات معقدة و لا إختراعات تسقط الإنسان في العزلة المميتة ، 
فالحسيني يكاد يشكل الأنموذج الأحق لا المجاز لشهيق عامودا و زفيرها ، لحياة تتجنب النفاق و مشتقاته ، لحياة كل ما فيها صدى لحياتنا الشخصية و لحياة الناس الآخرين ، بل بانوراما لظروف الحياة الإنسانية العريضة جداً بدءاً من أمور الحياة اليومية و ليس إنتهاءاً بالأمور الشخصية ضمن أُطر العلاقات الإجتماعية ، لم يتلوث الحسيني بعد بموبقات الحياة ، بل حافظ على روحه التي ولد بها و ما زالت صرخته الممزوجة بفرح الأهل تنبض على محياه ، لا يستخف بأحد مهما كان هذا الأحد منتفخاً و متورماً في ذاته ، لا يبالي بالإستعراضات الكاذبة القادمة من وراء الحدود ، مقتنع برائحة حقوله الأزكى من كل حقول الأرض ، لم يفكر أن يقتات أرصفة الآخرين ، و لم يفكر بالهجرة و لا بالنساء الشقراوات ، كما لم يغريه الصهيل في حلبات لا تتقن لغته ، و لهذا يكتفي بحياته و بساطتها بكل حب ، فيسرع ليلعب مع طلابه محتفلاً معهم / بهم ، بكل لحظاتهم التي يفعل المستحيل لتبقى نابضة بهم ، أو يهز معهم شجرة توت ليتساقط عليهم كسقوط ضحكاتهم في القلوب ، أو يحمل فخاخه علّه يفوز بصيد فيها تتجلى المرامي الحياتية بكل نبضها ، أو يمتطي دراجته منطلقاً إلى حيث تطهير النفس و إنقاذه من كل ألم قد يتربص به .
علاقة وليد الحسيني مع الرسم كعلاقته مع الحياة في جوانبها الأخرى ، فكما يعزف و يضحك و يولد الفرح كذلك يحمل الريشة ليرسم ، فالرسم ليس هاجسه ، فالهاجس الأول هو الإنسان ، كل ما لديه تمضي في هذا الطريق ، و لهذا ليس غريباً أن تجد رسوماته أجزاء من محيطه و من مشاهداته لهذا المحيط ، لا يكبل نفسه بقيود ، بل يدافع عن حريته المفعمة بحماس إنساني و بتفاؤل يجعل من ميوله و أفكاره حركة مستديمة لا أقطاب لها ، بل منفتحة على الترددات كلها ، و هذا ما يزيد من حدة رؤيته ، فالطموح إلى الحرية و بحرية هو نتاج واقع بقي مفعماً بالأمل و الحب العميقين و إن كان الظلام فارشاً سجادته في كل الطرقات ، فالحسيني قادر أن يفسر و يعلل أهدافه و إن باللون فهو سليل مدينة تكتظ بالفن و الشعر ، بل الزحام فيها على أشده ، كل ذلك شكل أساس عالمه الخارجي و الداخلي المتطلع إلى التصوير الموضوعي الشامل و الملموس للحياة ، و كأنه يعلن عن ضرورة تصوير الحياة بكل حقيقتها و تمامها رغم إدراكه لكل التغييرات الطارئة على الوعي الفكري و الجمالي للمبدع ، فيلمس بداية الشروط المهيئة للتوكيد على دور الفن في حياة الإنسان و على نحو أكثر حين يكون المأزق الإجتماعي في أشد حالاته ، و هنا قد لا يكون للفن الرفيع حضوراً ، بل يتجلى في حياة الناس و في أشكالها الخاصة المميزة لها أيضاً ، و كأن الحسيني يهمس لنا بأن الفن مدعو لتمثيل حقيقة الحياة و كشف جوهر ظواهرها ، و بأنه أحد أشكال معرفة الحياة و التأثير عليها ، بل عليه أن يكون الأكثر قرباً و الأيسر تناولاً من قبل الجميع ، و يمكن القول أن تعاقب المشاهد البصرية للحسيني على حواسنا أشبه بتعاقب الحياة اليومية كدراما إجتماعية ، تقتضي البداية إستخدام رموز لأغراض واقعية تفضي إلى حالات فيها من الغنى الجمالي الكثير ، و قد أعطى هذا الإستخدام للحسيني فرصة السخرية من الرياء و النفاق الذين باتا يتسربان في الضلوع ، فعبر إستيائه من هذا التغلغل يحافظ على هيكلية حياته ، يبعدها من أي تغلغل لميول و أمزجة إنحطاطية ، محافظاً عليها في بساطتها .
من جهة أخرى يقتحم الحسيني الزحام مع مجموعة من رسوماته التي تضعه في مواجهة الآخرين ، فإذا كان الهدوء و السكينة من الأمور المهمة بالنسبة له ، إلا أن إجتياح الساحة تتطلب قدراً من الإحساس الشديد بذاتهم أولاً ، و بتفاصيل ما حولهم ثانياً ، و هذا ما يجعل الحسيني يقدم تفاصيل مناسبة خاصة بالمشهد الذي يراه ، و هذه إستجابة للحاجة إلى الشعور بالخفاء و تفضيل الكائنات التي أثبتت فاعليتها على الأمور الأخرى بحيث يتمكن من الوصول دون مخاطرة ، هذه الكائنات المكانية التي يعزز الحسيني مكان بقائها داخل البيئة و خارجها ، فهذا التصور الخاص الذي يقدمه الحسيني و الذي يشمل الجوانب المختلفة لإختياراته لم يعد مقصوراً على إستكشاف مدى معين ، بل رؤية تنظم الصور داخل محتوى مشترك تزيد من إحتمال أن تعطي إنطباعاً بأن المرء يمكنه أن يتحرك داخل المشهد بإكتشاف ما فيها من ثراء و تنوع ، و هذا نوع من الإستغراق المثمر الذي يأتي كنتيجة لتعزيز الأنا في الآخر و تدعيمه ، و كوسيلة للإقتراب من الذات من خلال الآخر .


شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…