إبراهيم اليوسف
لم أتخيل، أن أكون في مثل هذا المقام، وأكتب يوماً ما، عن عبدالكريم مجيد “فرمان” من موقع المرثي، وذلك نظراً لما يربطنا من علاقة توأمية، منذ أربعة عقود ونيف، إذ وجدت فيه خصال الصدق والتضحية والوفاء، فظللنا جد قريبين، وقبل ذلك: الشجاعة. الشهامة. الالتزام بالموقف الذي يؤمن به، بعيداً عن أية أحقاد على الآخرين. ثمة بوصلة لاتخطىء كانت لديه، وهي الابتعاد عن كل ذي سلطة. كل مستبد، والوقوف مع أي ضعيف، ناهيك عن فائض كرمه الذي دعا طبيبه الدمشقي الذي بات يعالجه من خمس سنوات يقول عنه:حاتم الكرد، وقال: دعوا أمورعلاجه علي، سأعامله كما أبي!
لطالما حدثني عبدالكريم عن نشأته الأولى. عن طفولته. دراسته. ظروف الحياة التي عاشها، من دون أن ينسى بين الفينة والأخرى أن يسرد على مسامعي مقاطع من قصائد قومية، أو غزلية،عن البارزاني الخالد وثورته، أو عن حلم الكردي في وطن، أو حتى عن حبيبته، وإن كانت قصائده تنوس بغنائيتها الطاغية وإصرارها على القافية بين- الشعر الكلاسيكي” المباشر” وبين – الشعر الشعبي- ومن بينها قصيدته التي ارتجلها في أول أيام عزاء الشاعرجكرخوين، وكتبها مع وفد من أصدقائه على لوحة كبيرة مؤطرة لتظل في حرم البيت، أو البيت إلى وقت طويل!
تشرب عبدالكريم، بالروح القومية، ورأى في الملا مصطفى بارزاني رمزاً، في فتوته وانتسب إلى -البارتي- ليظل في صفوفه إلى حوالي العام 1980، وكان من بين رفاقه: دحام يوسف حيدر- يونس حربي- وكان من بين المشرفين علي هيئته، كما سأعلم هنا: عبدالقادر خليل، وكان سكرتير الحزب الشهيد الراحل يزوره، بالرغم من نقده له، ذات مرة، كما روى لي، وقال: هذا النقد قربه علي أكثر، ولاأدري تفاصيل تركه للحزب، إلا أنه ناضل فيما بعد في صفوف الحزب الشيوعي السوري قبل أن يتركها لأسباب أعرفها، تتعلق بمواقفه من بعض سياسات هذا الحزب، ولطالما قال لي:
هذا أنا أحب قوميتي وأنا اشتراكي وسأظل أنقد نمطاً من- الإقطاع- و-الأغوات- كما توضح ذلك قصائده ذات النفس اليساري، وإن كانت له علاقات مع وجوه اجتماعية لها موقفها النضالي، ولم تؤذ الفقراء، وهذا ماحدثني عنه طويلاً. بعد هذه المحطة، وجد الحاج عبدالكريم، في عالم حقوق الإنسان والمجتمع المدني ما يقارب رؤيته، بعد أن اتخذ موقفاً من العمل الحزبي، ولكن، مع الحفاظ على احترامه لكل من يعمل- بإخلاص- في عمله الحزبي، لا يبخل بتقديم المساعدات المالية، ضمن ظروف إمكاناته لمن يطرق بابه، وكنت على علم ببعض ذلك، كما كنت على علم بماقدمه من مساعدات، ومن جيبه الخاص للاجئين في- تركيا- ومؤازرة من رآهم، بحاجة إلى المساعدة، خلال أشهررحلته في الطريق إلى-ألمانيا، إذ نال الإقامة، في زمن قياسي، من نوع الإقامة المائزة، لما قدمه من وثائق، في إطار نشاطه في لجان المصالحات الاجتماعية- إذ كان يتكبد مبالغ مالية كبيرة من أجل قطع دابرالفتنا، ولعلي على علم بأنه دفع من جيبه الخاص، على سبيل المثال نصف – دية- مقتل طفل عن طريق الخطأ، ليصالح بين عائلتين!
وما إن حط الرحال في ألمانيا، وكان بيننا تواصل مستمر، حاول الحصول على رخصة – جمعية خيرية- لتقديم المساعدات للأهل، ومن حساب عمل- أبنائه- وراح يرسل بانتظام، مساعدات إلى مدن الوطن، إلا إن المرض عاجله، فمن إجراء عملية ديسك، إلى إجراء عملية قلب مفتوح، إلى سرطان البروستات، إلى مرض رفيقة دربه، مادفعه لإلغاء رخصة الجمعية التي أوصى بتفعيلها، لاحقاً، من دون أن يتخلى عن مؤازرة كل محتاج في الوطن، وذلك ضمن حدود المستطاع، وعلى نحو دوري، على حد علمي!
أتذكر، أن طبيبه المشرف، أجرى الترتيبات لأخذ – خزعة منه- وبينما، نحن. نحن المقربين الذين من حوله في اقصى درجات القلق على وضعه الصحي، فاجأنا بقرار إقامة وليمة كبيرة لحوالي 200 شخص، ما بين رجال ونساء وأطفال، أقامها في إحدى الحدائق، ودعا إليها: كرداً، وسوريين، وعرباً، وألمان، ومن جنسيات أخرى، فانبهر المدعوون للترتيبات التي قام بها، وكنت وأقرباء لنا في أقصى درجات الفرح لأنه تعافى، كي يهمس أحد بنيه في أذني” عمو، أتعلم، أنه أقام هذا الحفل الكبير، قبل أن تظهر نتائج تحاليل الخزعة، وليعرف النتيجة، ويتكتم عليها، ونلتقي، ونخرج معاً إلى المناسبات، من دون أن يعلمنا بما به، إلى أن هده المرض تدريجياً، منذ سنتين تقريباً، ليبتعد عن صفحته الفيسبوكية، ويقفل هاتفه إلى اللحظة، ويتواصل معنا عن طريق أبنائه، أنى أراد زيارتنا، أو اللقاء، ليطول ذلك شهراً، أو شهرين، أو حتى أكثر. كنت على علم ببعض وضعه الصحي، إلا أنه كان يوصي أسرته، ألا يعلموني بمعاناته، وأن يبقى التواصل بيننا، عبرالهاتف، كما اتصاله قبل أسبوعين، إذ تحدث إلي بصوت جهوري، وكأننا في أحد مطاعم قامشلي، أو وكأننا فوق سطح بيته، أو كة البيت، في حي الهلالية، وكأننا في بيتنا يتحدث إلى أصدقائي، يسألني عن أحوالي، والأسرة. الأهل. بعض الأصدقاء، واحداً واحداً. يحدثني عن آلامه:
آلامي، فوق التصور. أستخدم اللصقات. أستخدم الحبوب المسكنة. آخذ كذا حبة!
أحاول أن أشجعه، أنت بخير. المشاريع التي قررنا أن نقوم بها في قامشلي. في الوطن تنتظرنا، سنكون معاً هناك!
أشعر أن منسوب التفاؤل يرتفع لديه:
هوما أريده. إن شاء الله، ثم يحدثني وهو الكتوم، عن أثر ألم يهد الجبل. ألم صدع عظم كتفه، وتم تجبيره عن طريق الليزر، وانفتح بعض جسده.أتمنى أن تظل الآلام، في هذه الحدود. كنت أرحب بالآلام فيما قبل. الآن، ماعدت أتحمل. طبيبي لايقصر. المشفى. المشافي لاتقصر. إنهم يقدمون لي أغلى أنواع الأدوية. إنني خجل من رعايتهم الصحية. معالجتي تكبدهم سنوياً كذا ألف يورو!
لاتنس.الطبيب صارحني،وقال: السرطان انتشر. لقد وصل الرأس!
يخطر في بالي، بعيد رأس السنة، بأيام، أن أزوره، بعد أن عايدني ليلة رأس السنة، يرد علي:
أنا وأم درغام وإبراهيم مصابون بكورونا
بعد أيام، تظهر نتيجة التحاليل أنهم شفيوا من كورونا، وإبراهيم الذي أطلق عليه: اسمي، لم يشعر به. يضحك. أمهم. ادع لها، لأطمئن بعد أيام أنها بخير
ياإلهي: وكأن السرطان لم يكفه فابتليته بكورونا أيضاً
أزوره، في بيته. أضع الكماة. يواصل وضع الكمامة. أنت واحد من قلة زاروني. أولادي يضعوني الأدوية واللوازم، في الشرفة ولانستقبلهم!
يتبع….!
الموت في زمن “كورونا”