هيثم حسين
كورستان، عنوان رواية جان بابير، الثانية له بعد الأوتاد، الأولى في الثلاثيّة التي نشر منها حتّى الآن اثنتين، عناوينهما الفرعيّة: “فوضى الفوضى” و “صرير الأحد.. غرفة الأربعاء”، وقد صدرت الأولى ، التي هي موضوع الكتابة، في إصدار خاصّ، في 306 صفحة من القطع الوسط..
كورستان، الاسم الذي يعني المقبرة في اللغة الكرديّة، كما أنّه قد يضلّل للوهلة الأولى بأنّه “كوردستان” بحسب كتابة بعض المدّعين احتكار الكرديّة بتلك الواو التي لا تمتّ إلى روح الكلمة، وتجريد من لا يكتبونها مثلهم منها، وقد يكون العنوان مثيراً للكرديّ نوعاً ما، دافعاً له على التنقيب في المقبرة التي شيّدها الكاتب، مثبّتاً على الشواهد حكايا أشخاص مِيتوا، وهم على قيد الحياة، ليُحيَوا في رحاب مقبرة أخرى، وبين دفّتي فوضى لاحقة، متنكّرين بأسماء أخرى، هي الوجوه نفسها متخفّاة خلف أسماء متغيّرة، كما أنّه الاسم المستخدم في الرواية تلقيباً لبطله الذي هو انعكاس لخالقه؛ المبني فصول فوضاه، دون أن يتبرّأ منه، أو لربّما الكاتب وقع في كتابته تحت سطوته، وفي نفس الفخّ الذي نصبه، فأصبح مخلوقه، التابع له، الضالّ معه، المتوّه كلّ محاولة للاهتداء بأيّ هديٍ، جاهداً لتسريب روح المشاعيّة إليه، تسكينه بالفوضى، زلزلة الأرض من تحت أقدامه أينما أحلّه، ونقل هذه التوتّرات إلى القارئ الذي يُجبَر على الدوران في المتاهة التي يوقَع فيها، بين طيّات صفحات تنسكن بالفوضى، ولا تحاول تهدئة الهذي، السابق واللاحق، الأحداث القريبة البعيدة، حيث يكون السرد فوضويّاً، منتقلاً من شاعريّة الروح إلى حيوانيّة الجسد، إلى عبادة الشهوانيّة الباثّة في كلّ ركن مفتاح شلوٍ مغاير عن الآخر، متعارك معه، في صراع إلى السرير، ومعه، ومسابقة إلى توسّد ما يشتَهى من الآخر، أو ما يُتوفَّر منه.. اللوذ في بعض جوانبه يكون بالأحلام والكوابيس، حتّى ليصحّ أن نقول في بعض الأحيان، أنّ الكاتب لا يستطيع فكاكاً من روضة أحلامه، وجحيم كوابيسه، وكلّها تدور في فلك الشخصيّة المحوريّة التي يسخَّر الكلّ لها، إمّا استلقاءً أو استفزازاً أو استغفاراً… إلخ، كون الموضوع، لا يبتعد عن السرير إلاّ ليقترب منه، ويغوص فيه، واعتبار التحرّر من العقدة هذه تحرّراً من كلّ استعمار يسيطر على كورستان الكبرى، التي هي مقبرة تنتظر الترميم، والترميم الذي عُمل به، الثورة التي وعدت بقلب تلك القبور على حافريها، تنقلب شرّاً على ثائرٍ، هو الكاتب الذي هو في الرواية كورستانـ:ـه، الشريد ضحيّة إيمانه الأعمى، وعدم اختياره لمنظار بعينه، وانجباره على النظر بمناظير أعدّت له سلفاً، فكانت ثورتُه على ثورتِه، محاولاً تحرير الجسد من عوالقه، حسب الادّعاء البادي في الكتابة، ممهّداً لتحرير المسكونين بهذا الوباء القاتل منه، وبالتالي تثوير المُستَشفين، ليتحرّروا من انبطاحهم، حيث الموت لأسرى الجسد، الحرّيّة لمشاعيّيه، إنّها دعوات قد تتّفق مع هلامٍ، لكنّها عند اقترابها من الواقع، يصيبها ما يصيب الفقاقيع التي تلامس مادّة ما، فإنّها لا تؤثّر إلاّ في من يرسلها، شاهقاً طول فترة إعداده لها، وبثّها لتكون الوعيد الحالّ محلّ البشرى والوعد..
الرواية مقسَّمة إلى عشرين فصلاً، يبتدئ كلّ فصل بعنوان فرعيٍّ، لازمته كلمة الفوضى، منكّرة أو معرّفة، أمّا اللاحقة فيشتغل عليها لتكون شاعريّة، تقترب أو تبتعد من الضبابيّة والتغريب، تجمع ما لا يجمع من الكلمات لابتكار صور غير مألوفة، واستخراج تراكيب غريبة.. حيث تكون الكلمة هذه، ملقية بظلالها، وكلّ أعبائها على الفصول، مغلّفة بعباءتها الكارثيّة الأحداث، لينقلب القانون المنطقيّ هنا، إذ لا يؤدّي نفي النفي إلى الإثبات، لأنّ فوضى الفوضى تستولد الفوضى، لم تهتدِ إلى هندسة أو تنظيم بحسب القانون، بل أبقت على الفوضى مذرورة، ابتداءً وانتهاءً بها، ابتداء من الفوضى في التعريف بنفسه وأبطاله، شخصيّاته الروائيّة، وإيهام القرّاء بوصف للشخصيّات وسيرتها، هي ليست نفسها بحسب الأحداث، بعيدة عمّا صوِّرت عليه، وهذا فيه نوع من البحث عن غرابة وجديد في هذا الميدان.. حيث يكتشف القارئ أنّ الشخصيّة التي يقرؤها تختلف عن المعرَّف بها، وقد لا يغفَر للكاتب استغشامه لقرّائه، وتغييره في المصائر التي حدّدها، لينقلب على تعريفه، لتكون الفوضى فوضىً متراكمة، وخلخلة في المُشيَّد كتابيّاً، وانسياقاً في اللعبة إلى أقصى مدىً لها، بعدم رسم دليل الخروج من متاهة الفوضى؛ اللازمة الملازمة معنى ومبنى، بل يترك القارئ نهباً لفوضاه، دون أن يبشّره بأيّ خلاصٍ، وبخاصّة هو المتماهي في صورته، عن قصد أو من دونه، مع الصورة المشهورة للمسيح المخلّص الفادي، بشعره الطويل، في اللقطة التي التقطها، والزاوية التي التقطت له منها، ونظره غير المركّز في العدسة، وهذا ما يقرَأ في أكثر من مكان في الرواية، حيث محاولاته لتخليص سكّان المقابر من آلامهم، بحمله تلك الآلام عنهم، تنتهي إلى طريق لا تبدو له فيه نهاية واضحة، بل سراب يتلو السراب، كما الفوضى تتلو الفوضى..
هذا عن التماهي الشكليّ للكاتب، آتي إلى التماهي الكتابيّ، وهو لا يخفى على أيٍّ كان، وهو تماهٍ ثلاثيّ الأبعاد، يتفرّع في ثلاثة خطوط متناظرة قد يغلب أحدها على الآخر في صعوده أو نزوله، مع سليم بركات من ناحية التغريب في الكلمة، والشاعريّة المحاوَل إضفاؤها على النصّ، والتي نجحت في بعض المرّات، وفي الأخرى المرغم فيها الكلمات إرغاماً على الانصياع لجبروت البحث عن ابتكار غير مسبوق إليه، بعدم الاكتفاء بوضعها في غير مكانها، بل في العبث البادي في تصفيف الكلمات، وإدخال القارئ في دوّامة اللغة التي قد تنتهي به إلى إغراق الكتاب في نوع من اللامبالاة به، والتبرير جاهز للردّ على المشكّك، كائناً من كان، أنّه يكتب الشعر رواية والرواية شعراً، كما يقول الكاتب، وكما قدِّم في أمسية شعريّة.. حسب ما أعلمني هو نفسه.. وأمثلة ذلك كثرة منها، عناوين الفصول، الطويلة نسبيّاً، المراد لها الغرابة: “- فوضى المستنطق بسنجاب رنين الكلمات، فتح باب الجسد المنسوج بالغبار – فوضى المسكون بحمى الحكمة شروال جده، شرارة الإثم في الاسم – فوضى التيه المغسول بعناد السرمد – فوضى خداع الحرب الذهبيّة، حلم شبيه بلحم فاسد، دم مباغت للأنقاض – فوضى الاحتيال على المشيئة المنتصبة، نصفه تراب، اعتراف ضباب – والتماهي الآخر مع بركات، هو التعريف بشخصيّاته في بداية الرواية، كما عرّف بركات بشخصيّاته كاتباً في بداية روايته “فقهاء الظلام”، والمعتمدة على حكاية شعبيّة فلكلوريّة “حب نيسكو، Heb Nîsko” دون أن ينوّه إليها، واصفاً شخصيّاته بـ الحمقى الذين قبلوا الاشتراك في هذه الرواية.. وبابير بدوره دون أن يصفهم بالحمقى فإنّه يحمّقهم، إذ تخرج عن خطّ سيرها، دون الالتزام بقواعد أو إشارات.. (نوروز- بوزان- سردار- منير كسكو… معميه- شخصيات عابرة…).
البعد الثاني، التماهي الآخر، شكلاً ومضموناً، يأتي مع أحلام مستغانمي، فالعنوان “فوضى الفوضى”، الذي هو بداية ثلاثيّة جان، فإنّه قريب جدّاً من الرواية الثانية في ثلاثيّة مستغانمي “فوضى الحواس”، والصورة على الغلاف، من جهتي الأمام والخلف كليهما، قريبة من تصميم غلاف المذكورة، هذا إن لم يكن متطابقاً معها، حيث النرجسيّة طاغية غير خافية على الناظر قبل القارئ، هذه النرجسيّة التي تتضخّم في الجزء الثاني “صرير الأحد.. غرفة الأربعاء”، عندما يبدأ بتلاوة أسمائه “الحسنى”، صفاته المأمولة، إذ يطرح نفسه ندّاً وبديلاً للإله، بتعدّد أسمائه وصفاته، والحجم مماثل لحجم كتابها، ثمّ يختلط التماهي مع التناصّ في النصّ بجلاء، حيث أحياناً، فقرات كاملة من الشاعريّة، وبعدها انعطافة غير مدروسة إلى تقرير إخباريّ.. ومن المتناصّ معه، الحديث عن الثورة ومرتزقيها، عن المدينة المغيَّر فيها، عن الأب الميت، هنا الأمّ مقام الأب، باختلاف الكاتبين جنساً، تحلّ الأم محلّ الأب، ويأتي اختيار شخصيّة البطل، الرسّام، المشوّه جسديّاً، متماثلاً، يطغى الانكسار، تعمّ الهزيمة، يكون الخلاص في الأدب، في الرسم، في التخطيط لمشاريع لن تكتمل، بالتمرّد على الهلوسة والجنون بجنون مغاير، وما اللجوء المبالَغ فيه إلاّ محاولة لتعويض الانكسارات والهزائم بفتوحات على الأسرّة، واختراقات للمحرّمات، بتأميمها وهتك حجُبها..
أمّا البعد الثالث، يتركّز في محاكاة هنري ميللر، الذي يشبّه الكاتب نفسه به، في أكثر من مكان، يستشهد به أكثر من مرّة في كتابته.. قائلاً إنّ حياتيهما كثيرتا الشبه، رغم اختلاف واقعهما.. ومن ذلك: “.. ميلر استعمل لغة سليطة، رغم هذا ظلّ محبوباً. عندما أخبروا والديه أنّ هنري سيصبح كاتباً كان وقع هذا الخبر كالسياط، كأنّه سيصبح قوّاداً، كورستان هذا يشبه رامبو وميلر، نبح في وقت مبكّر”. “إن قال ميلر فلتمت الرحمة قال هو: فليمت كلّ شيء، ولتسقط الآلهة التي تسكن عروش رؤوسنا، كفر بكلّ الديانات، الأعراق، حتى بالوطن الذي لا يملك فيه شيئاً سوى أسماء سابقة…”.(ص80). أعتقد أنّ بعد هذين المقطعين المقتبسين من الصفحة نفسها، لا يحتاج القارئ إلى مقارنة أخرى، ليدرك مدى غمس الكاتب نفسه في اقتفاء خطا ميلر، حيث يطرح نفسه، بطله ندّاً له، عندما يقول: قال ميلر، وقال هو.. ليس معنى ذلك أنّه امتلك الندّيّة، إنّها الرغبة في بلوغ ذلك، والقول وفق التصوّر الذي يُبتغى تسييده عن الكتّاب، بأنّهم كافرون بكلّ شيء، لا مقدَّسات لديهم، وعندما يبشَّر أحدهم بأتعس الخبر، المفيد أنّ ابنه سيصبح كاتباً، يتبادر إلى رأسه المروق، الجنون، الشعر الطويل، اللحية المهملة، الخمر، النساء، الهيبيّة المرافقة له بهالة من الغرابة.. ثمّ يصوّر كلام راويه بنباح، وهذا أيضاً، إذا ما نظرنا من زاوية أخرى، غير الزاوية التي قد يقال عنها ذروة التمرّد، بقلب الكلمات معانيها، وتلبّسها معاني مناقضة لها، حيث قد يكون النباح تغريداً، وقد يكون الإله نصّاً، والنصّ جنّة، هذا يؤوّل كما يريد لا كما يحتمله النصّ، فإنّ ذلك وقوع في هاوية تكرير قول بعضهم عن الكتابات التي يودّون إفراغها من معانيها، لأنّها تعرّي الزيف والضلال، على أنّها نباح وهذر وثرثرة..
الكاتب في روايته، يقع في فخّ البحث عن العالميّة، أو يوقع هو نفسه فيه، رغبة في بلوغه، وذلك من خلال التكلّم في مواضيع كونيّة، والسعي لإدراج بعض المتغيّرات العالميّة في الرواية، دون أن يكون هناك أيّ داعٍ إليها، ولا تغيّر في أحداث الرواية التي لا تحتاج إليها، وهذه المتغيّرات تهمّنا جميعاً، ولا يستطيع أحد الادّعاء أنّه بمنجى عنها، لأنّ رياح التغيير التي تعصف بالعالم، تعصف بنا ضمناً، كوننا من هذا العالم؛ الجزء المتحرّك المنقاد.. كما أنّ كلّ كتابة هي كونيّة بمعنى ما، سواء أدخلت ضمنها أسماء عالميّة من مختلف الأصقاع أم لا.. لأنّا تعالج جانباً من حياة بشر يعيشون على هذه الأرض التي يفترض بها أن تكون للكلّ، ولا يعني أبداً إدراج أسماء من اليابان، وأخرى من الهند، ثمّ مروراً بالشرق الأوسط وأوروبا، إلى أميركا، أو إقحام اسم ابن لادن مع بوش في أكثر من مكان، أنّ الكتابة صارت عالميّة، لأنّها إيجاب من الكاتب لما لا يجب، كما أنّها أثقلت النصّ لعدم الحاجة إليها، حيث الزيادة كالنقصان تماماً في الإضرار، فعالميّة أيّ نصّ تأتي من خصوصيّته، وحتّى أحياناً من إيغاله في الخصوصيّة، التي هي جانب من هذا العالم، وكثير من الكتّاب العالميّين بلغوا ما بلغوه انطلاقاً من خصوصيّتهم.. حتّى لا نصل إلى مرحلة يقال لنا فيها: هذه بضاعتنا رُدَّت إلينا.. ويتبدّى هذا الهاجس الذي أَهجس الكاتب نفسه به جليّاً، عند وضعه أماكن كتابته الروائيّة في خمسة أماكن، دمشق، كوباني، عراق، إيران، تركيا، مدرجاً اسم كوباني بين العواصم والدول، قد يكون تعظيماً لها، وقد يكون تقزيماً، وقد لا يكون هذا ولا ذاك، ولكن يبقى لكلّ قارئ تأويل المكتوب وتحليله.. وما هذه الأماكن الجغرافيّة المتعدّدة إلاّ الأماكن التي تنقّل فيها الكاتب، منقّلاً راويه، صنيعه، قاتله وقتيله، معه، يجبره، يجبر نفسه، على كتابة سيرته الذاتيّة، بأحلامه وكوابيسه، باستجلاب المعولم إلى المذوتن، لعولمة الذاتيّ وتعميمه تحت عنوان الرواية، لا المذكَّرات، أو أوراق من الذاكرة، كما يحلو للبعض تسميتها، لأنّ الرواية تستحمل ما تغوَّص فيه، ويُلقى في أحشائها، في أغوار بحورها ـ فصولها، لتحضن بين دفّتيها ما سيُحضنها كاتبها، ما سيرغمها على احتضانه، تلبيساً لها أدبيّاً، عدم مساءلة له، ككاتب، لها ككتابة روائيّة، عن المضمَّن فيها، كونها عملاً أدبيّاً حمّال أوجه متباينة وأبعاد متعدّدة، ويجوز في الأدب ما لا يجوز في الواقع.. ويتّسع المدى باشتغال ملموس عليه، ليكون الكونيّ هاجسه، في الجزء الثاني من روايته، فالمعشوقة يابانيّة، “أوهايو”، ويستمرّ الحديث كسابقه، تضيع شخصيّات، تظهر أخرى، ينفلت السرد من عقاله، كلّ ذلك مواكبة لكورستان في زمنه الذي ختمه الكاتب به، كي لا يفلت منه.. تختلف الأوضاع، تحلّ أسرّة أخرى محلّ الأولى.. وقد يقول قائل: الكاتب هو بطله، هو أبطاله كلّهم، وما دخلك أنت..؟! لا يحاكَم الكاتب على ذلك، لكنّه يحاكَم على التاريخ الذي يضمّنه روايته التي يريد لها أن تكون السفر المتحدّث باسم المرحلة، وينصّب الكاتب راويه كورستان ناطقاً رسميّاً باسم الشعوب المقهورة، المغلوبة على أمرها، باسم الثوّار الذين تخلّت عنهم ثوراتهم، ليعلن على الملأ أن تحرير الشعوب والأوطان يكون عن طريق الخروج عن مألوف النضال..
يضمّن روايته في الفصل السابع عشر، المعنون بـ: “فوضى للنفس المنقطع برائحة الغليون والانتماء”، (248-258)، الذي لا يختلف كثيراً عن غيره من ناحية الانقياد وراء فوضى الكلمة، لكنّ ما يقرّبها، تركيز الكاتب فيه على حوارٍ يجريه بين شخصيّته، وأحد العروبيّين، ممّن يقفون من الكرد موقفهم من الصهاينة، وإدارته هذا الحوار، بواقعيّة السياسيّ المثقّف الذي يعتمد الحوار، ويوسّع الأفق من حوله، مدافعاً عن قضيّة الإنسان أينما كان، رغم إقصاء الآخر له، ونفيه لوجوده، ليتغلّب بالحوار عليه، هذا الحوار الذي ينحى عادة منحى التخوين، والاتّهام بالتصهين والتأمرك، وتقسيم الوطن الواحد، ليكون الكرديّ خنجراً في خاصرة أمّة العرب، المدّعى عنها الواحديّة الإلهيّة، رغم بلوغها أكثر من 22 دولة، لكنّ باعتبار المشاعر واحدة، فالحدود مصطنعة، وسيزيلها الميامين الذين دحروا شعوبهم.. وتفوّقوا عليها بأحدث وسائل التعذيب والتجويع والقتل والنهب.. وممّا يورده في فصله هذا:
“وبّخني مدير أحد المراكز الثقافيّة قائلاً: أنتم الأكراد في كل مكان، في الاعتصام، المظاهرات، السينما، مجانين، مراوغون، أصوليّون، شيوعيون، زردشتيون، علويون، سنة، حتى يهود، أنت كالريح، مهربوا أشخاص.. ابستمت وجاوبته: نعم نحن مهربو أحلام أيضاً، نحن كالهواء أينما ذهبت ستجدنا، ألم تقل (مارغريت كان) عنا أن الأكراد أبناء الجن”. “- ماذا ينقصكم.. تتعلمون في جامعاتنا، مدارسنا.. قاطعته: الجامعات ليست لكم يجب أن تقولوا لنا أننا شركاء معكم في الوطن، يجب أن تقبلني كشريك، لا تزاود عليّ بالوطنية..”.
ونراه يقدّم بطاقة تعريفه، إلى كلّ منكر وكلّ مستلب، كأنّه يسرد قصيدة جكرخوين المشهورة، ( KîME EZ)، المغنّاة بصوت شفان برور بصيغة الجمع (KîNE EM)، حيث يكتب: “لست مؤرّخاً لكن إن كان فيه فائدة، أنا كوردي سوري آري، لي خصوصيّتي كما لك خصوصيّتك، وحقيقة جبلة طينة أسلافي من أماكن مختلفة، فيها سعف النخيل والغرانيق، رمال الصحراء، فواصل الثأر والإقامة في المكان، جرأة النقش على الألواح الآشوريّة تجعل الوقت نهباً للسطور، دوي الترانيم، رغبة النار الزردشتيّة حول معرفة مسالك السماء والخالق…”.( ص251) رغم خلطه الجغرافيا ببعضها، للإشارة إلى الانتماء إلى كلّ مكان، فقد ينعكس هذا إلى إشعار عدم الانتماء إلى أحدها، وعدم التجذّر فيه..
ثورة بابير محاولة لتأجيج اللغة وتثويرها على نفسها، ثورة الجنس والجسد، ثورة الشبق الذي لا يرتوي، تختلف أسماء حبيباته، لكنّهن جميعاً على السرير سواء، فتارا هي نازو، واللاحقات لا يختلفن كثيراً عن السابقات، كلّهن في الرواية سواء، كما في المثل الشعبيّ: كلّهنّ في العتمة سواء.. يسعى إلى تذكّر معبودته بخيانتها مع أخريات، متذرّعاً أنّ جسده وحده يخون لكنّ روحه وفيّة وفاءً غير محدود، وإنّ هذا ليس إلاّ مداواة لجرح الروح بالمبالغة في التأذية منه.. يريد أن يبرّر سلوك بطله، بأنّه مازوشيّ يتلذّذ بتعذيب روحه، في حين أنّه يشبع غرائزه فقط..
ما كلّ الثورات تنجح، وثورات الكاتب مخفقة هنا، لأنّها لم تعِ الحاجات الأخرى، ولم يحط إلاّ ببعدٍ واحدٍ، مهمّشاً الأبعاد، وما وعده المربك في ختامها إلاّ استطراداً خلف الاضطراب، رغم التهدئة، تهدئة المدخّن الذي يزفر دخّانه واعداً باللقاء حسب الإمكان:
(- ألا نلتقي ثانية؟! – سأخرج، أغلق الرواية بهدوء، لا أريد أن آخذ نظراتك معي في هذا الفجر- ألا نلتقي؟!.. – ربما في رواية قادمة أو ثورة مؤجلة.. انسحبت هي.. وأنا انكسرت).. (ص305-306).
تبقى الرواية مفتوحة على أكثر من قراءة، كون الكاتب أثار أموراً عدّة، محاكماً ومحاسباً، حالماً وواهماً، أراد لروايته أن تكون سفره المقدَّس، رغم نزعه القداسة عن كلّ شيء، في محاولة العودة إلى نفسه، وإرجاع ما حوله إليه، في تمركزه نقطةً مركزيّة، بعد انسلاخه عن المحيط الذي يبتعد عنه، دون إبداء الرغبة في التكيّف معه..
الرواية مقسَّمة إلى عشرين فصلاً، يبتدئ كلّ فصل بعنوان فرعيٍّ، لازمته كلمة الفوضى، منكّرة أو معرّفة، أمّا اللاحقة فيشتغل عليها لتكون شاعريّة، تقترب أو تبتعد من الضبابيّة والتغريب، تجمع ما لا يجمع من الكلمات لابتكار صور غير مألوفة، واستخراج تراكيب غريبة.. حيث تكون الكلمة هذه، ملقية بظلالها، وكلّ أعبائها على الفصول، مغلّفة بعباءتها الكارثيّة الأحداث، لينقلب القانون المنطقيّ هنا، إذ لا يؤدّي نفي النفي إلى الإثبات، لأنّ فوضى الفوضى تستولد الفوضى، لم تهتدِ إلى هندسة أو تنظيم بحسب القانون، بل أبقت على الفوضى مذرورة، ابتداءً وانتهاءً بها، ابتداء من الفوضى في التعريف بنفسه وأبطاله، شخصيّاته الروائيّة، وإيهام القرّاء بوصف للشخصيّات وسيرتها، هي ليست نفسها بحسب الأحداث، بعيدة عمّا صوِّرت عليه، وهذا فيه نوع من البحث عن غرابة وجديد في هذا الميدان.. حيث يكتشف القارئ أنّ الشخصيّة التي يقرؤها تختلف عن المعرَّف بها، وقد لا يغفَر للكاتب استغشامه لقرّائه، وتغييره في المصائر التي حدّدها، لينقلب على تعريفه، لتكون الفوضى فوضىً متراكمة، وخلخلة في المُشيَّد كتابيّاً، وانسياقاً في اللعبة إلى أقصى مدىً لها، بعدم رسم دليل الخروج من متاهة الفوضى؛ اللازمة الملازمة معنى ومبنى، بل يترك القارئ نهباً لفوضاه، دون أن يبشّره بأيّ خلاصٍ، وبخاصّة هو المتماهي في صورته، عن قصد أو من دونه، مع الصورة المشهورة للمسيح المخلّص الفادي، بشعره الطويل، في اللقطة التي التقطها، والزاوية التي التقطت له منها، ونظره غير المركّز في العدسة، وهذا ما يقرَأ في أكثر من مكان في الرواية، حيث محاولاته لتخليص سكّان المقابر من آلامهم، بحمله تلك الآلام عنهم، تنتهي إلى طريق لا تبدو له فيه نهاية واضحة، بل سراب يتلو السراب، كما الفوضى تتلو الفوضى..
هذا عن التماهي الشكليّ للكاتب، آتي إلى التماهي الكتابيّ، وهو لا يخفى على أيٍّ كان، وهو تماهٍ ثلاثيّ الأبعاد، يتفرّع في ثلاثة خطوط متناظرة قد يغلب أحدها على الآخر في صعوده أو نزوله، مع سليم بركات من ناحية التغريب في الكلمة، والشاعريّة المحاوَل إضفاؤها على النصّ، والتي نجحت في بعض المرّات، وفي الأخرى المرغم فيها الكلمات إرغاماً على الانصياع لجبروت البحث عن ابتكار غير مسبوق إليه، بعدم الاكتفاء بوضعها في غير مكانها، بل في العبث البادي في تصفيف الكلمات، وإدخال القارئ في دوّامة اللغة التي قد تنتهي به إلى إغراق الكتاب في نوع من اللامبالاة به، والتبرير جاهز للردّ على المشكّك، كائناً من كان، أنّه يكتب الشعر رواية والرواية شعراً، كما يقول الكاتب، وكما قدِّم في أمسية شعريّة.. حسب ما أعلمني هو نفسه.. وأمثلة ذلك كثرة منها، عناوين الفصول، الطويلة نسبيّاً، المراد لها الغرابة: “- فوضى المستنطق بسنجاب رنين الكلمات، فتح باب الجسد المنسوج بالغبار – فوضى المسكون بحمى الحكمة شروال جده، شرارة الإثم في الاسم – فوضى التيه المغسول بعناد السرمد – فوضى خداع الحرب الذهبيّة، حلم شبيه بلحم فاسد، دم مباغت للأنقاض – فوضى الاحتيال على المشيئة المنتصبة، نصفه تراب، اعتراف ضباب – والتماهي الآخر مع بركات، هو التعريف بشخصيّاته في بداية الرواية، كما عرّف بركات بشخصيّاته كاتباً في بداية روايته “فقهاء الظلام”، والمعتمدة على حكاية شعبيّة فلكلوريّة “حب نيسكو، Heb Nîsko” دون أن ينوّه إليها، واصفاً شخصيّاته بـ الحمقى الذين قبلوا الاشتراك في هذه الرواية.. وبابير بدوره دون أن يصفهم بالحمقى فإنّه يحمّقهم، إذ تخرج عن خطّ سيرها، دون الالتزام بقواعد أو إشارات.. (نوروز- بوزان- سردار- منير كسكو… معميه- شخصيات عابرة…).
البعد الثاني، التماهي الآخر، شكلاً ومضموناً، يأتي مع أحلام مستغانمي، فالعنوان “فوضى الفوضى”، الذي هو بداية ثلاثيّة جان، فإنّه قريب جدّاً من الرواية الثانية في ثلاثيّة مستغانمي “فوضى الحواس”، والصورة على الغلاف، من جهتي الأمام والخلف كليهما، قريبة من تصميم غلاف المذكورة، هذا إن لم يكن متطابقاً معها، حيث النرجسيّة طاغية غير خافية على الناظر قبل القارئ، هذه النرجسيّة التي تتضخّم في الجزء الثاني “صرير الأحد.. غرفة الأربعاء”، عندما يبدأ بتلاوة أسمائه “الحسنى”، صفاته المأمولة، إذ يطرح نفسه ندّاً وبديلاً للإله، بتعدّد أسمائه وصفاته، والحجم مماثل لحجم كتابها، ثمّ يختلط التماهي مع التناصّ في النصّ بجلاء، حيث أحياناً، فقرات كاملة من الشاعريّة، وبعدها انعطافة غير مدروسة إلى تقرير إخباريّ.. ومن المتناصّ معه، الحديث عن الثورة ومرتزقيها، عن المدينة المغيَّر فيها، عن الأب الميت، هنا الأمّ مقام الأب، باختلاف الكاتبين جنساً، تحلّ الأم محلّ الأب، ويأتي اختيار شخصيّة البطل، الرسّام، المشوّه جسديّاً، متماثلاً، يطغى الانكسار، تعمّ الهزيمة، يكون الخلاص في الأدب، في الرسم، في التخطيط لمشاريع لن تكتمل، بالتمرّد على الهلوسة والجنون بجنون مغاير، وما اللجوء المبالَغ فيه إلاّ محاولة لتعويض الانكسارات والهزائم بفتوحات على الأسرّة، واختراقات للمحرّمات، بتأميمها وهتك حجُبها..
أمّا البعد الثالث، يتركّز في محاكاة هنري ميللر، الذي يشبّه الكاتب نفسه به، في أكثر من مكان، يستشهد به أكثر من مرّة في كتابته.. قائلاً إنّ حياتيهما كثيرتا الشبه، رغم اختلاف واقعهما.. ومن ذلك: “.. ميلر استعمل لغة سليطة، رغم هذا ظلّ محبوباً. عندما أخبروا والديه أنّ هنري سيصبح كاتباً كان وقع هذا الخبر كالسياط، كأنّه سيصبح قوّاداً، كورستان هذا يشبه رامبو وميلر، نبح في وقت مبكّر”. “إن قال ميلر فلتمت الرحمة قال هو: فليمت كلّ شيء، ولتسقط الآلهة التي تسكن عروش رؤوسنا، كفر بكلّ الديانات، الأعراق، حتى بالوطن الذي لا يملك فيه شيئاً سوى أسماء سابقة…”.(ص80). أعتقد أنّ بعد هذين المقطعين المقتبسين من الصفحة نفسها، لا يحتاج القارئ إلى مقارنة أخرى، ليدرك مدى غمس الكاتب نفسه في اقتفاء خطا ميلر، حيث يطرح نفسه، بطله ندّاً له، عندما يقول: قال ميلر، وقال هو.. ليس معنى ذلك أنّه امتلك الندّيّة، إنّها الرغبة في بلوغ ذلك، والقول وفق التصوّر الذي يُبتغى تسييده عن الكتّاب، بأنّهم كافرون بكلّ شيء، لا مقدَّسات لديهم، وعندما يبشَّر أحدهم بأتعس الخبر، المفيد أنّ ابنه سيصبح كاتباً، يتبادر إلى رأسه المروق، الجنون، الشعر الطويل، اللحية المهملة، الخمر، النساء، الهيبيّة المرافقة له بهالة من الغرابة.. ثمّ يصوّر كلام راويه بنباح، وهذا أيضاً، إذا ما نظرنا من زاوية أخرى، غير الزاوية التي قد يقال عنها ذروة التمرّد، بقلب الكلمات معانيها، وتلبّسها معاني مناقضة لها، حيث قد يكون النباح تغريداً، وقد يكون الإله نصّاً، والنصّ جنّة، هذا يؤوّل كما يريد لا كما يحتمله النصّ، فإنّ ذلك وقوع في هاوية تكرير قول بعضهم عن الكتابات التي يودّون إفراغها من معانيها، لأنّها تعرّي الزيف والضلال، على أنّها نباح وهذر وثرثرة..
الكاتب في روايته، يقع في فخّ البحث عن العالميّة، أو يوقع هو نفسه فيه، رغبة في بلوغه، وذلك من خلال التكلّم في مواضيع كونيّة، والسعي لإدراج بعض المتغيّرات العالميّة في الرواية، دون أن يكون هناك أيّ داعٍ إليها، ولا تغيّر في أحداث الرواية التي لا تحتاج إليها، وهذه المتغيّرات تهمّنا جميعاً، ولا يستطيع أحد الادّعاء أنّه بمنجى عنها، لأنّ رياح التغيير التي تعصف بالعالم، تعصف بنا ضمناً، كوننا من هذا العالم؛ الجزء المتحرّك المنقاد.. كما أنّ كلّ كتابة هي كونيّة بمعنى ما، سواء أدخلت ضمنها أسماء عالميّة من مختلف الأصقاع أم لا.. لأنّا تعالج جانباً من حياة بشر يعيشون على هذه الأرض التي يفترض بها أن تكون للكلّ، ولا يعني أبداً إدراج أسماء من اليابان، وأخرى من الهند، ثمّ مروراً بالشرق الأوسط وأوروبا، إلى أميركا، أو إقحام اسم ابن لادن مع بوش في أكثر من مكان، أنّ الكتابة صارت عالميّة، لأنّها إيجاب من الكاتب لما لا يجب، كما أنّها أثقلت النصّ لعدم الحاجة إليها، حيث الزيادة كالنقصان تماماً في الإضرار، فعالميّة أيّ نصّ تأتي من خصوصيّته، وحتّى أحياناً من إيغاله في الخصوصيّة، التي هي جانب من هذا العالم، وكثير من الكتّاب العالميّين بلغوا ما بلغوه انطلاقاً من خصوصيّتهم.. حتّى لا نصل إلى مرحلة يقال لنا فيها: هذه بضاعتنا رُدَّت إلينا.. ويتبدّى هذا الهاجس الذي أَهجس الكاتب نفسه به جليّاً، عند وضعه أماكن كتابته الروائيّة في خمسة أماكن، دمشق، كوباني، عراق، إيران، تركيا، مدرجاً اسم كوباني بين العواصم والدول، قد يكون تعظيماً لها، وقد يكون تقزيماً، وقد لا يكون هذا ولا ذاك، ولكن يبقى لكلّ قارئ تأويل المكتوب وتحليله.. وما هذه الأماكن الجغرافيّة المتعدّدة إلاّ الأماكن التي تنقّل فيها الكاتب، منقّلاً راويه، صنيعه، قاتله وقتيله، معه، يجبره، يجبر نفسه، على كتابة سيرته الذاتيّة، بأحلامه وكوابيسه، باستجلاب المعولم إلى المذوتن، لعولمة الذاتيّ وتعميمه تحت عنوان الرواية، لا المذكَّرات، أو أوراق من الذاكرة، كما يحلو للبعض تسميتها، لأنّ الرواية تستحمل ما تغوَّص فيه، ويُلقى في أحشائها، في أغوار بحورها ـ فصولها، لتحضن بين دفّتيها ما سيُحضنها كاتبها، ما سيرغمها على احتضانه، تلبيساً لها أدبيّاً، عدم مساءلة له، ككاتب، لها ككتابة روائيّة، عن المضمَّن فيها، كونها عملاً أدبيّاً حمّال أوجه متباينة وأبعاد متعدّدة، ويجوز في الأدب ما لا يجوز في الواقع.. ويتّسع المدى باشتغال ملموس عليه، ليكون الكونيّ هاجسه، في الجزء الثاني من روايته، فالمعشوقة يابانيّة، “أوهايو”، ويستمرّ الحديث كسابقه، تضيع شخصيّات، تظهر أخرى، ينفلت السرد من عقاله، كلّ ذلك مواكبة لكورستان في زمنه الذي ختمه الكاتب به، كي لا يفلت منه.. تختلف الأوضاع، تحلّ أسرّة أخرى محلّ الأولى.. وقد يقول قائل: الكاتب هو بطله، هو أبطاله كلّهم، وما دخلك أنت..؟! لا يحاكَم الكاتب على ذلك، لكنّه يحاكَم على التاريخ الذي يضمّنه روايته التي يريد لها أن تكون السفر المتحدّث باسم المرحلة، وينصّب الكاتب راويه كورستان ناطقاً رسميّاً باسم الشعوب المقهورة، المغلوبة على أمرها، باسم الثوّار الذين تخلّت عنهم ثوراتهم، ليعلن على الملأ أن تحرير الشعوب والأوطان يكون عن طريق الخروج عن مألوف النضال..
يضمّن روايته في الفصل السابع عشر، المعنون بـ: “فوضى للنفس المنقطع برائحة الغليون والانتماء”، (248-258)، الذي لا يختلف كثيراً عن غيره من ناحية الانقياد وراء فوضى الكلمة، لكنّ ما يقرّبها، تركيز الكاتب فيه على حوارٍ يجريه بين شخصيّته، وأحد العروبيّين، ممّن يقفون من الكرد موقفهم من الصهاينة، وإدارته هذا الحوار، بواقعيّة السياسيّ المثقّف الذي يعتمد الحوار، ويوسّع الأفق من حوله، مدافعاً عن قضيّة الإنسان أينما كان، رغم إقصاء الآخر له، ونفيه لوجوده، ليتغلّب بالحوار عليه، هذا الحوار الذي ينحى عادة منحى التخوين، والاتّهام بالتصهين والتأمرك، وتقسيم الوطن الواحد، ليكون الكرديّ خنجراً في خاصرة أمّة العرب، المدّعى عنها الواحديّة الإلهيّة، رغم بلوغها أكثر من 22 دولة، لكنّ باعتبار المشاعر واحدة، فالحدود مصطنعة، وسيزيلها الميامين الذين دحروا شعوبهم.. وتفوّقوا عليها بأحدث وسائل التعذيب والتجويع والقتل والنهب.. وممّا يورده في فصله هذا:
“وبّخني مدير أحد المراكز الثقافيّة قائلاً: أنتم الأكراد في كل مكان، في الاعتصام، المظاهرات، السينما، مجانين، مراوغون، أصوليّون، شيوعيون، زردشتيون، علويون، سنة، حتى يهود، أنت كالريح، مهربوا أشخاص.. ابستمت وجاوبته: نعم نحن مهربو أحلام أيضاً، نحن كالهواء أينما ذهبت ستجدنا، ألم تقل (مارغريت كان) عنا أن الأكراد أبناء الجن”. “- ماذا ينقصكم.. تتعلمون في جامعاتنا، مدارسنا.. قاطعته: الجامعات ليست لكم يجب أن تقولوا لنا أننا شركاء معكم في الوطن، يجب أن تقبلني كشريك، لا تزاود عليّ بالوطنية..”.
ونراه يقدّم بطاقة تعريفه، إلى كلّ منكر وكلّ مستلب، كأنّه يسرد قصيدة جكرخوين المشهورة، ( KîME EZ)، المغنّاة بصوت شفان برور بصيغة الجمع (KîNE EM)، حيث يكتب: “لست مؤرّخاً لكن إن كان فيه فائدة، أنا كوردي سوري آري، لي خصوصيّتي كما لك خصوصيّتك، وحقيقة جبلة طينة أسلافي من أماكن مختلفة، فيها سعف النخيل والغرانيق، رمال الصحراء، فواصل الثأر والإقامة في المكان، جرأة النقش على الألواح الآشوريّة تجعل الوقت نهباً للسطور، دوي الترانيم، رغبة النار الزردشتيّة حول معرفة مسالك السماء والخالق…”.( ص251) رغم خلطه الجغرافيا ببعضها، للإشارة إلى الانتماء إلى كلّ مكان، فقد ينعكس هذا إلى إشعار عدم الانتماء إلى أحدها، وعدم التجذّر فيه..
ثورة بابير محاولة لتأجيج اللغة وتثويرها على نفسها، ثورة الجنس والجسد، ثورة الشبق الذي لا يرتوي، تختلف أسماء حبيباته، لكنّهن جميعاً على السرير سواء، فتارا هي نازو، واللاحقات لا يختلفن كثيراً عن السابقات، كلّهن في الرواية سواء، كما في المثل الشعبيّ: كلّهنّ في العتمة سواء.. يسعى إلى تذكّر معبودته بخيانتها مع أخريات، متذرّعاً أنّ جسده وحده يخون لكنّ روحه وفيّة وفاءً غير محدود، وإنّ هذا ليس إلاّ مداواة لجرح الروح بالمبالغة في التأذية منه.. يريد أن يبرّر سلوك بطله، بأنّه مازوشيّ يتلذّذ بتعذيب روحه، في حين أنّه يشبع غرائزه فقط..
ما كلّ الثورات تنجح، وثورات الكاتب مخفقة هنا، لأنّها لم تعِ الحاجات الأخرى، ولم يحط إلاّ ببعدٍ واحدٍ، مهمّشاً الأبعاد، وما وعده المربك في ختامها إلاّ استطراداً خلف الاضطراب، رغم التهدئة، تهدئة المدخّن الذي يزفر دخّانه واعداً باللقاء حسب الإمكان:
(- ألا نلتقي ثانية؟! – سأخرج، أغلق الرواية بهدوء، لا أريد أن آخذ نظراتك معي في هذا الفجر- ألا نلتقي؟!.. – ربما في رواية قادمة أو ثورة مؤجلة.. انسحبت هي.. وأنا انكسرت).. (ص305-306).
تبقى الرواية مفتوحة على أكثر من قراءة، كون الكاتب أثار أموراً عدّة، محاكماً ومحاسباً، حالماً وواهماً، أراد لروايته أن تكون سفره المقدَّس، رغم نزعه القداسة عن كلّ شيء، في محاولة العودة إلى نفسه، وإرجاع ما حوله إليه، في تمركزه نقطةً مركزيّة، بعد انسلاخه عن المحيط الذي يبتعد عنه، دون إبداء الرغبة في التكيّف معه..
هكذا، عندما يكون الجنس للجنس، والسرير في صراع مع نفسه، يبقى شعورٌ باليُتم مخترقاً روح النصّ، وهذا الشعور نابع من أسى معاش، وتاريخ مأزوم مؤزَّم..