أمن تذكّرِ جيرانٍ بذي سلمِ

عبدالرحمن عفيف

عشق طه حسين صوت معلّمته أو راعيته الفرنسيّة سوزن في السّوربون ويوما بعد يوم غرق في حبّ الفرنسيّة وهيّأت له مخيّلته كونه أعمى شكلا ملائكيا وهو آمن بأذنهِ وسار إلى جهة عينيه وخيالهِ العميق في فرنسا وباريس. كان يأخذ الأغاني لأبي فرج الأصفهاني معه إلى باريس والكتاب مكتبة في مجلّدات ومعظم ثقافته كانت تعتمد على هذه المجلّداتِ.
يملك أبي أيضا كتاب الأغاني بطبعة غير مشكّلة صعبة القراءة ويغور في الأبيات الصّعبة ويصحّح له التكسيرات التفعيليّة بالطريقة السّماعيّة التي تعلمنا عن طريقها البحور العروضيّة دون الحاجةِ إلى التقطيع وتلك الخطوط المائلة والأصفارِ التي يتعامل بها عادة تلامذة المدرسةِ. أحيانا في الصّيف نحن في حوشنا فيأتي أبي بالأيّام ويقرأ فصلا ومقطعا معيّنا والكتابُ عليه صورة ذلك الصبيّ بجلاّبيته، صبيّ في الظلّ أعمى ربّما يركبُ القطار وهو مهملٌ لا يرى مطلقا أيّ شيءٍ فيحسّ بنفسه كمتاع ويصف نفسه لأبي في كتابهِ فيحبّ أبي طه حسين ويدفعنا إلى قراءته وبعدئذ نقرأ طه حسين وحديث الأربعاء والشّعر الجاهلي بتفسيره وسيرة الشّعراء مستخلصة من أشعارهم ونقرأ شكوك طه حسين حول نفسه والقرآن وأسلوبه الذي يلتفّ ويدورُ كأنّما يبيّن ويدلّ بصيرٌ أعمى في الطّريق في النّهار وفي اللّيل بمصباح ما. أنظرُ إلى طبعة دار مجلّة الهلال الصّفراءِ، الغلاف الأصفرِ، الأوراقِ الصّفراء كلّها في المجلّدين الأوّل والثّاني وأمّا الثّالث فهو أقلّ حجما وورقه أقلّ صفرةً وبادله أخي مع عمّي الشّيخ توفيق؛ ألسنا نعرف كلّ محتوى وقصص الكتاب وألم يقصص لنا أبي كلّ ما يتعلّق بتفاصيل أيّام طه حسين في الأزهرِ وكيف أصيب بالعمى وكيف شعرَ في القطارِ وكيف كان صوت سوزن الفرنسيّة كرنين أجراس نوتردام والشانزليزيه وليس هذا فحسب، فلقد عرفنا هوى طه حسين لأبي فرج الأصفهاني ولكتاب الأغاني وأبي يملك كتاب الأغاني، فلماذا لا يبادل أخي إذن الكتاب مع عمّي توفيق بقلم حبرٍ باركر. ترجمتُ لأمّي أحيانا بعض المسلسلات السوريّة وفرحت بي ثمّ انقطعت الكهرباء لأيّام فجئنا بمصباح الكاز واجتمعنا إلى بعضنا البعضِ ويقصّ أبي بعض المقاطع من أيّام طه حسين. بخاصّة الفصول التي يتحدّث فيها عن الشّيطان الذي جاءه في النّوم في الأزهرِ وضحك منه داخلا إلى هيئة فتاةٍ عاريةٍ شقراء واحتلم ولم يكن سوى ماء بارد للاغتسال في الفجرِ، تقشعّر له الأبدان. ويضعه عبداللّطيف في جيب قميصه أو يعلّقه في جيب قميصه ويقول: ” أنا أحبّ أقلام باركر وطه حسين وكتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني وأعرف الاعراب وأكتب الشّعر وأدخّن أيضا وأشرب الشّاي الدّاكن وأنا شيخ.” بحثَ أبي عن الأيّام ولم يجد الأيّام، جاء إلى غرفتي بعد أن بحثَ في غرفة عبداللّطيف وذهبَ إلى غرفته ثمّ إلى حجرتهِ المطلّة على الشّارع وشربَ الحليب وأكل بسكويت معدته وكانت معدته قد أصبحت أفضل فأكل الكثير من شحم الدّجاجة وغضبت أمّي: ” ثانية، أفلت أبوكم وأتى على الشّحم وسيغلق على نفسه الباب ولا يخرج لشهورٍ، لا يستطيع على نفسه؛ أتألّم وأشفق عليه وكلّ واحد منكم في غرفة، في سباق الكتبِ وأنا لا أفهم من المسلسل وكلّ جيراننا يتابعونه؛ عليكم أن تعلّموني القراءة.” بعد قلق كبيرٍ وحركة كبيرة من أبي، بين الغرف وعلى درجِ البابِ والسؤالِ في الحجرة لضيوفه:” هل أعرتُ كتاب الأيّام لطه حسين لأحدكم، أنا لا أعير الكتب عادة؛ يا عبداللطيف، أين كتابُ طه حسين، هل أعطيتَ كتابي لأحد ما؛ ألم أقل، لا تعر ولا تعط كتبي لأيّ شخص كان؛ أحتاجها وأراجعها يوميا.” صنع عبداللّطيف لنفسه خزانة وأتى  بكتب أبي من خزانة ورفوف كتب أبي ووضعها على الرّفوفِ في خزانته ووقف أمام الكتبِ وخلف الخزانةِ وإلى جانبها وقال: ” كم كتبي كثيرة؛ أيضا مجلّدات وقواميس مهمّة وتراثٌ أصيلٌ وتصوّفٌ وعلم ذو باع وطه حسين إلى المتنبّي مرورا بمجلّدي الشّعر الكوردي لملايي جزيري.” وتابع عبداللّطيف لبعض تلامذته الشّعراء: ” اقرأوا كتاب الأيّام لطه حسين والمتنبّي هو أصلُ الشّعر والتّراث أوّلا ثمّ الحداثة والفتوحات المكيّة، ثمّ اكتبوا الشّعر أو النثر. انظروا إلى مكتبتي الغنيّة بأمّهات الكتبِ.” وأبي يوميا ينظرُ إلى رفوفه فلا يجد كتابا ما أو قاموسا ما، يأتي إلى غرفة عبداللطيف فيجده ويأخذه وتنتقل الكتبُ بين الغرفتين ولكن لم يكن كتاب الأيّام في غرفة عبداللّطيف هذه المرّة. ”  لقد بادلته مع عمّي الشّيخ توفيق بقلم الباركر الأسود ويزيّن القلم جيبي وخطّه سلسل لكتابة الشّعر، لقد قرأنا كلّنا الكتاب وهو كان في مكتبتي.” يردّ أبي: ” ما هذا الحمق؛ ثلاث مجلّدات بطبعة مجلّة الهلال، نادرة؛ صار لها عندي عشرات السّنين؛ تحفة، لم تقدّرها حقّ قدرها؛ تأخذ الكتب من رفوف مكتبتي وتضعها على رفوفك ولكن أريد كتاب الأيّام؛ كان كتابي، لا أقبل هذا عبداللّطيف، تذهب على الفورِ ترجع الكتاب وكيف يفعل توفيق هذا، ألا يعلم محبّتي للأيّام؛ الآن اذهب إلى عمّك وارجع معك بالأيّامِ!” لا يذهب عبداللّطيف في هذا اليوم، يخجل من قراره ومبادلته أمام عمّي الشّيخ توفيق؛ وسيحسبه عمّي ضعيف القرارِ تمام مثل ابن عمّي حسن ومبادلته للأشياء مع عمّي، مبادلته التي تدوم لعدّة ساعات وتأتي عليه بغضب زوجة عمّتي سعديّة؛ مرسلة حسن ليسترجع ساعته المبادلة بكتاب البخلاء للجاحظ الذي وضعه حسن ذات مرّة في اليانصيب المتنقّل في جيبه وكان هو الفائز بكتابِه بعد شقّ الورق الأسود فوق رقم الحظّ المخفيّ. طبعا يحبّ أبي أقلام الباركر الحبريّة النّاعمة ذات الخط الجدوليّ السيّال ويجرّب الأقلام فوق الأوراق البيضاءِ، هل تكتبُ بسهولة وليونة، لا يحبّ الأقلام النّاشفة، إنّما الحبريّة التي تعبّأ من قناني الحبرِ؛ تضغط معدتها البيضاء الطويلةُ فيخرجُ هواؤها إلى المحبرةِ وتبقبق الفقاقيع هناك وتأخذ دمها الغالي وقوام حياتها؛ إنّها لذّة جعل القلمِ يغرفُ من زجاجات الحبرِ ودائما فوق أصابع أبي البيضاء، أصابع الشيوخ والعلمِ والنّحو والصّرف الصّعب بقيّة حبرٍ أزرق أو أسود ودائما على مناشف ما في ركن سجلاّت نفوس أهلِ عامودا بقايا ولطخ أحيانا كبيرة من الحبرِ، يشرب القلمُ كفايته حبرا وتمتلىء المعدة الطّويلةُ ولكن هناك حبرٌ غالبا على ريشة القلم أو على فمِ القلم كمثل العطشان فيمسحه أبي بالمنشفةِ وتتلّطخ هي في الرّكن أكثرَ. بادل أخي عبداللطيف مع عمّي الشّيخ توفيق كتاب الأيّام لطه حسين ذات يوم. أعطاه عمّي قلم حبر من تلك الأقلام ماركة باركر التي يحبّها أبي. خطّها ليّن ويمكن الكتابة بها واستخلاص خطّ جميل وممتدٍّ ومستريح وغامق يناسب الهوى وشدّته والشّوق ودمه الأسود. يحبّ أبي هذه الأقلام وعنده محابر ويستعملُ الأقلام في درج طاولة دكّانه أو حجرته التي يجتمع إليه فيها الأساتذة والكبار والمجانين والنحويّون وطلاّبه وأنا الذي كنت ابنه والآن أو قبل ثلاث سنوات حين كتبتُ عن حبّه الأوّل لابنةِ عمّه عديلة التي أخذني ابن عمّي الشّاعر عبدالمقصد إلى بيتها في القامشلي؛ قلتُ: ” سآتي معك يا محشو إلى القامشلي وخذني إلى بيتِ أقاربنا الذين لا أعرفهم.” وهو أخذني إلى بيت عديلة ابنةِ عمّ أبي التي كتبتُ بعد أكثر من عشرة أعوام عن حبّ أبي لجرّة مائها وهي قادمة من قريتها من جهة هرم رش أو من ناحية كرسور أو من أعماق آبارِ بريفا وموسيسانا باتّجاه تلال موزا. تحمل الماء الذي أخذته من بئر؛ أخطأتُ طبعا، حيثُ أنّها كانت قد تزوّجت واستقرّت في القامشلي وأبي لم يغادر عامودا طيلة أربعين سنة منشغلا بقراءة الفتوحات المكيّة وبمعدته. يأكل لشهورٍ طويلة فقط حليب النيدو وعلب البسكويت المدوّر المحمّص ويمنعنا عن أكلِ المخلّل وأكل المقليّات وخاصّة الباذنجان المقليّ والبيوض المقليّة ويطلب من أمّي أن تسلق البرغل والرزّ والدّجاج أكثر من اللازم. أمّي غير راضية: ” كلّ واحدٍ منكم يفرّ إلى غرفته وتتركونني وحيدة وأبوكم أخذ زجاجة يملؤها بسائل أصفر في غرفته ولا يدعني أنظّف دخان ورماد المدفأة وكتابٌ كبيرٌ أمامه على الدّوامِ وأنا لا أفهم المسلسلات ولا تترجمون لي شيئا. ألا تأخذون درسا من بيت جارنا عمر، أسمع اجتماعهم على سفرِة الطّعامِ وجيهاني تسرد النكت وخالصة تضحك وأمّهم نورا تنبسط وعمر ينظر إليهم بعينين. إلى ماذا يؤدّي تركيز العيونِ على القراءة وإلى ماذا القراءة سوى للاختلاط في العقلِ وبيتُ عمر أسعد منّا.” يجرّب القلمُ ويكتب أبي دائما: ” أمِن تذكّر جيرانٍ بذي سلمِ، مزجتَ دمعا جرى من مقلةٍ بدم؟” على الكثير من الأوراقِ نفس هذا البيتِ الشّعري، قرأته مرارا فحفظته وفكّرتُ كثيرا بجيرانٍ وسلّمٍ ومقلةٍ يجري منها الحبرُ هي على الأغلبِ مقلةُ قلم حبر الباركر والدّمعة هي دمعة عاشقةٌ بالتأكيد. حين يكتب القلم الجديد هذا البيتَ بسيولةٍ ونعومةٍ فإنّ أبي يكتب بيتا آخر:” أمْ هبّتِ الرّيح من تلقاءِ كاظمةٍ، أم أومضَ البرقُ في العلياءِ من إضمِ؟” أقرأ هذا البيت أيضا ولو أنّه لا يتكرّر مثل سابقه الذي يتحدّث عن الجيرانِ، أقرأ البيتَ فأرى ظلاما في البعيدِ وبرقا يضربه وما هو هذا الظّلام” أهو ظلامُ الفراقِ أم ظلام برقع فتاة مكيّة، تكشفه فيومضُ البرقُ وتجري دموع الشّاعر مثل المطرِ المنهارِ بقوّة بعد البرقِ والرّيح وفانوس ما يتوقّد من زيتِ الزّيتونِ في قلبِ شاعر أبي هو فانوس حبّ أبي لابنةِ عمّه المتزوّجة في القامشلي التي ذهبتُ مع الشّاعر عبدالمقصدِ إلى بيتها؛ كانت امرأة صلبة، قويّة حتّى وإن كانت قد كبرت وزوجها طيّبا يمكن بسهولة معرفة أنّه أكبر منها بسنواتٍ عديدة؛ هذا هو كلّ ما لاحظته وهي أيضا سألت عبدالمقصد، مَن أكون، فقال عبدالمقصد:” هذا هو ابن عمّي الشّيخ عفيف، أتيت به إلى القامشلي،أعرّفه إلى أقربائنا الذين لا يعرفهم، لكي تتوطّد علاقته ويعرف روح عائلة المشايخ وأصلها في قرية بركو.” لا أتذكّر كلّ ما قاله عبدالمقصد والذي قاله فهمته فقط من ملامحه وأنا نظرتُ مليّا إلى ابنةِ عمّ أبي وكنتُ أحتاج إلى ذلك وبعدئذ لم يكمل عبدالمقصد مشروعه في القيام معي بتلك الرّحلة إلى الأقاربِ المجهولين لي وأيضا لم يفِ عمّي الشّيخ توفيق بأخذي إلى بركو، أصل العائلة والشّجرة ونحن الأغصان في الكتب. حين ذهبتُ أعيد الأيّام وأفكّ المبادلة، رأيت أمام باب الباحةِ الخيارَ المخلّل مبعثرا والفليفلة المخلّلة مبعثرة والعجّور الصّغير الطّازج المخلّل مبعثرا؛ فلم أفهم، كيف يبعثره عمّي وبهذه الكميّة على الشارع ويرميه ويكسر الجرّة وشظاياها خليطة مع لذّته مع البرغلِ وحين دخلت أعلمني عمّي أنّ زوجته تكره المخلّل وأحمدي دين الذي كان موجودا وطردته ورمت الجرّة والدنّ بعد أن طلبت منهما أن يأتيا على كلّ محتوى الدنّ والجرّة والوعاءِ الفخّاري من المخلّل مع وجبةٍ واحدةٍ من البرغل وطنجرة في الظّهرِ من لحمِ الدّجاج وأحمدي دين فرّ خائفا قبل ساعة من حضوري. مع ذلك قصّ لي عمّي الحادثة بأعصاب باردة فهو لن يستطيع جمع المخلّل ولن يريد من غبارِ وقذارة الشّارعِ . ” كيف أستطيع أكل جرّة المخلّل كاملة في وجبة واحدةٍ، في يوم واحد والنّاس تصنعه ليكون مؤونة لسنة طويلة وأكثر مع وجبات البرغلِ اللّذيذ؟” لا أعرفُ طبعا جوابا لسؤالِ عمّي وأفهم أنّ زوجة عمّتي صبّت غضبها مع الخيار والقطّي والترمزي نسبة إلى فصيلة الخيار وليس الإمام الترمذي من قرية ترمذ، مع الجرّة وشظاياها على الشّارع ولم تلجأ إلى سكيّن ضدّ عمّي والحمدُ للهِ. في ذلك اليومِ النّحس على عمّي؛ من جهةٍ المبادلة غير الموفّقة مع عبداللّطيف والخيار المهدورُ والفليفلةُ اللّذيذة والبرغل والجرّة المزخرفة وتمزّقها ولكن أظنّ أيضا فرحه بقراءة أمنِ تذكّر جيرانٍ بذي سلمِ، مزجت دمعا جرى من مقلةٍ بدمِ وثمّ يتعرّف ويسأل عمّي أبي عن قصّة هذه الأبياتِ ويقرأ بعد معرفةِ القصّة وصاحبِ الأبياتِ، فما لعينيكَ إن قلتَ اكففا همتا، وما لقلبك إن قلتَ استفقْ يهمِ. يخبره أبي، الأبياتُ هي لشاعرٍ من مصر، من قريةِ  بوصير لذلك يسمّى منسوباً إلى القريةِ التي هو منها فيقال له، الأمامُ البوصيري، وقصيدته طويلةٌ من أشهرِ القصائدِ في مدح الرّسولِ محمدّ صلّى الله عليه وسلّم؛ تبدأ القصيدةُ بداية غزليّة ملوّعة ثمّ تحكي سيرة النبيّ وصفاته الخلقية والخلقيّة؛ تسرد غزواته ومعجزاته وترتفع في المدحِ لتبلغ شأوا عاليا. الأمام البوصيريّ يصاب بداءِ الفالج ولا ينفع دواءٌ إلى أن يحلمَ ذات يومٍ بالرّسولِ في نومهِ؛ حيث يراه وهو يلقي عليه غطاء أو بردة وحين يفيق الأمام البوصيري فإنّه شاف من مرضه، معافى. يسيلُ دمع الشّاعر حين ينظرُ جهة قرية ذي سلم ويسيل دمه حين يرفع عينيه وأنفه يشمّ رائحة أعشابِ وهادِ مكّة؛ فينامُ الشّاعرُ ويبرأ من رؤيةِ الرّسول ومن يرَ الرّسول في النّوم يدخل الجنّة والشّاعر تسمّى قصيدته أيضا البرأة لأنّه برأ أيضا من فالجه الثقيلِ. يشرح أبي القصّة التي لازمت كلّ أقلام الحبرِ ويصغي عمّي ثمّ يقرّر أن يكتب شرحا للأبياتِ، شرحا موجزا في البدايةِ للمفرداتِ الصّعبة، ثمّ شرحا مفصّلاً لمعنى الأبياتِ ومقصدِ الشّاعرِ. يبرّر له أبي في المقدّمة التي كتبها للكتابِ القيام بهذا العملِ لكون الشّروح الموضوعة سابقا طويلة ومسهبة ومفلسفة في تعقيداتِ التصوّف وبواطنِ البلاغةِ، ” أمّا شرح توفيقنا فهو شرح موجز لعمومِ القرّاءِ، يستفيد منها الكبيرُ والصّغير وليطّلع المتعلّمون على هذه القصيدة بسهولة ويستفيدوا منها في دراستهم للغة والبلاغةِ.” ثمّ بعد ذلك يذكر أبي سيرة الإمام البوصيري من قرية بوصير القريبة من مدينة الاسكندريّة، يذكر المسجد الذي في فنائه قبرُ الشّاعر الإمامِ ذي القصيدة العصماءِ؛ يأتي أبي على ذكر أمير الشّعراء أحمد شوقي ومعارضته لهذه القصيدة بقصيدته التي تسمّى نهج البردة بخلاف قصيدة البوصيري التي تسمّى البردة أو البرأة. في الكتابِ همزة البرأة مكتوبةٌ على السّطر وأظنّ أنّ المسألة مسألة خطأ مطبعيّ؛ فعمّي وأبي آباء وأجدادٌ في هذا العلم وتلويناته وتعاريجه. يذكر أبي مطلع نهج البردة، ريمٌ على القاع بين البانِ والعلمِ، أحلّ سفك دمي في الأشهرِ الحرمِ. ثمّ يعقّب أن أمير الشّعراء شوقي لم يبلغ البوصيري ويذكرُ أيضا أنّ محمود سامي البارودي هو كذلك عارض القصيدة وهو أقلّ من أمير الشّعراءِ بالطّبع. في ختام تقديم أبي يتمنّى التوفيق لعمّنا توفيق. لم يُذكَر في هذا الكتابِ الذي طبعه عمّي طبعة ثانيةً في مطبعة اليازجي مع موافقة وزارة الإعلام ( الطبعة الأولى صفحاتها شديدة الصّفرةِ وتشبه الأوراق شبها بالغا أوراق كتابِ الأيّام وطبعت في مطبعة الرّافدين في القامشلي وبدون وزارة الإعلام وإذنها – حيث لم تكن آنذاك وزارة بهذا الإسم الفصيح) أيّ شيء عن جرّة الفليفلة المخلّلة والبرغل ولا عن المبادلة وكتاب الأيّام ولا عن أقلامِ الحبرِ التي حفظت مطلع القصيدة عن ظهر ريشةٍ وفمٍ ومعدة؛ لم يذكر شيء عن عمّتي تركيّا بعنفها وغضبها على أصدقاءِ عمّي وخاصّة أحمدي دين وكسرها لببغاواته الجبسيّة المزركشة الفصيحة المتكلّمة في أكياس أحمدي دين وفي الباحة أحيانا مع الدّجاجِ المشويّ ومع ريح ما بعد ظهيرةِ عامودا. تفاصيل أخرى عن حبّ أبي لهذه القصيدة وأنا في البرقِ أثناء قراءتي لها وحسبت دائما أنّ كاظمة أو بلدة كاظمة هي فقط ظلامٌ يخفق فيه برقُ من قبرِ البوصيري وحبّ أبي لابنةِ عمّته وجرّتها المائيّة وجرّة من ماء مطرِ مكّة أو الزّمزم. لا يتوقّف أبي من تشريبِ أقلامه من حبر ذي سلمٍ وهو يعني هواء آخر يهبّ من تلال موزا مثل البوصيري، الإمام يضطربُ، يضطرب وهو حبّ صوفيّ للرسولِ في المطلعِ الغزليّ ومَن لم يجرب حبّ ابنة عمّته فلن يقع أيضا في حبّ الرّسولِ، يفكّر عمّي الشّيخ توفيق بهدوئه وواقعيّته المعتادين. في بيتِ عديلة ابنةِ عمّ أبي كان جوّ الغرفةِ منعشا والأرضيّة ترابيّة ولاحظت بضعة أكياس من الحنطةِ ولا أتذكّرُ الباحة. إذن كتب أبي بضعة سطورٍ لعمّي توفيق وأخذ قلم الحبرِ وذهبتُ إلى بيتِ عمّي أسترجعُ كتاب الأيّامِ. لم ينزعج عمّي وقرأ سطري أبي وأعطيته قلمه وجلستُ قليلا وأبدى ملاحظة أنّ مبادلات عبداللّطيف بغير فكر مثل مبادلات ابنِ عمّنا حسن وكتاب البخلاء وأيضا قلب عمّي الصّفحة وقرأ البيتَ الذي يمزج فيه الشّاعر دمعة بقطرةِ دمٍ ويومض البرقُ من جهة بلدة كاظمة بين مكّة المكرّمة والمدينةِ المنوّرة وتهبّ الرّيح فينتعش قلب الشّاعر ويتأجّج هواه ثانية؛ كانت تلك الورقة قد استعملها أبي لتجريب إحدى الأقلامِ والبيتُ معروفٌ للتجريب ويحبّه أبي، وقرأه عمّي ولاحظتُ ملامح الإعجابِ بالبيتِ على وجهِ عمّي. أخذت مجلّدات الأيّام ورجعتُ إلى البيتِ وفي المساءِ فتح أبي أحد الكتبِ الثلاثةِ وقرأ وأنا شعرتُ بفرحه وفرحتُ وأبي كأنّما حصّل هدية لا تقدّر، أخذه وجلسنا في الباحةِ وبعدئذ ربّما بسنةٍ انقطعت الكهرباء فأتينا بمصباحِ الكازِ وأمّي فرحت وتمنّت أمامنا أنْ تنقطع الكهرباءُ على الدّوامِ لنجتمع إلى بعضنا البعضِ وقالت أمّي:” أوفيان،  آه، لو لم تكن هناك كهرباء؛ أخشى على عيونكم من الكتبِ، لقد قالت لي مكيّة ابنة خالتي شمسا، أولادك يا بدريّة يقرأون كثيرا وهذا ضارٌّ بعقولهم وصحّتهم.” على العكس من أبي يحبّ عمّي الشّيخ توفيق العجّور والخيارَ والفليفلة المخلّلة في الدنان؛ يؤكلُ البرغل والدجاج معها بلذّة ليس فوقها لذّة؛ عمّي متأثّر أيضا في أسلوبه الكتابي بعبّاس محمود العقّاد على العكس من أبي وحبّه لطه حسين وتأثّره وتأثّرنا بأبينا وبطه حسين وبأحمد أمين وبكتبه، فجر الإسلام وضحاه وظهره وبجرجي زيدان وقصصه وزكي مبارك وتوفيق الحكيم وكتابه المسرحي- محمّد- .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…