جميل داري
امرأة تجيد اللعب بنار الشعر الخالدة فتكتوي بها بعد أن تسجل القصيدة على جسد الماء و الهواء , تقرؤها بزفرة عميقة و لا تنتهي منها إلا بزفرات تترى فالقصيدة عندها لانهائية , حدودها الآفاق المفتوحة فكأني بها فارسة تخوض غمار معركة خصومها فيها الكلمات , فبها تحاول اجتراح المستحيل و فتح بوابات الخلود لكنها في حالة يأس كئيبة تلوذ بإيمانيات و غيبيات لا طائل من ورائها محاولة الهروب من واقع اليم و عقيم ثم سرعان ما تصحو وتدك الأفق المضرج بالصمت و الهباء .
قصيدتها النار التي تحرق ما لا يلزم للوصول إلى ما يلزم إلى ميلاد جديد لكائنات الشعر الخرافية , إلى و جوه بلا أقنعة و ارض بلا خراب و بشر بلا ضعف و هوان , فكأن القصيدة لديها بلسم لكل أمراض الروح لذلك تعتصم بها و تلوذ و ترفعها عالية لان القصيدة المنكسة خراب للنفس و ابادة للكون
قال غوركي : “جئت إلى هذا العالم لاعترض ” و مها جاءت لتعترض منذ سؤالها عن الشاي المر برغم غزارة السكر إذ لا يريحها هذا الكون القاتم و القائم على أعمدة الدخان فثمة خطأ كبير ينداح و يملأ شقوق الزمن فيعتاد عليه السابلة و أبناء السبيل و المستضعفون في الأرض .
إن الشاعرة تنزل الفلسفة من برجها العاجي إلى بساطة الشعر و ميدانه الفسيح فيمتزجان معا فلا ندري أهي شاعرة أم فيلسوفة أم كلاهما معا , كل الذي اعرفه أنها مدججة و مضرجة بهبوب الروح , تمتشق جرحها النازف و ترسم بالأحمر لوحة الله الذي لا ينام .
اللغة عندها جارحة و ناتئة لا تشبه لغة القواميس ولا لغة الحياة اليومية , إنها لغة الصمت التي تعبر عن الروح الصاخبة المكتظة بالأحلام المؤجلة , اللغة التي ترن رنين القيامة و الشهداء لهذا أخشى من هذه اللغة لأنني أحاول الإمساك بها فلا اقدر فهي كالسمكة اللعوب أو الفراشة اللاهية العابثة لذلك أعيد قراءة القصيدة مرة تلو الأخرى لعلي أعيها أكثر و أكثر لكني أبوء بالفشل ففي كل قراءة لغة جديدة و أفكار جديدة . من أين تتوالد و كيف ! لست ادري .. ربما سر ذلك أن الكلمات ذات إيحاءات متعددة و أسراب شتى فصداها يلاحق القارىء و يلتصق بجسده و روحه فكأن به مساُ من جنون الشعر الذي لولاه لكانت الحياة لا تطاق كما قال غيري و لهذا حورب هذا النمط من الشعر و تخلى عنه جمهوره فإذا الشاعر في واد (وادي عبقر ) و الجمهور في واد آخر ” وادي الهباء و الغثاء و الهراء ……الخ”
يقول هنري ميلر : ” على الحالم أن يرضى بأنه يحلم واثقاُ من أن المخيلة تصنع الجوهر , هذه هي وظيفة الشاعر و هي الأسمى لأنها تبلغه المجهول .. تبلغه حدود الخلق . . ” إن هذا الكلام ينطبق و يصح على مها بكر فهي حالمة كبيرة , تحلم بكون تسوره الموسيقا و بحب لا يغتاله احد و بقصيدة لم تكتب بعد إنها تحمل مصباح الشعر باحثة عن حلمها البعيد الغارق في ظلمات القرون , فإذا كانت شهرزاد تتحايل على شهريار لتنقذ بنات جنسها من بطشه فان مها تتحايل على كل ما هو ليس شعرياُ بالشعري لتؤكد أنها امرأة ولدت من ضلوع النار و لديها رغبة جامحة لإحراق العالم بحرائق الشعر لإنقاذه من حرائق الفقر و البؤس و المنفى و كآبة الروح فهي تبدو في قصيدتها كائنة شعرية , تضع رأسها على و سادة الشعر و تصحو على زقزقته الصباحية , فهذه القصيدة هي مها نفسها بشحمها و لحمها و أنفاسها و عذاباتها و ركضها الدائم الدؤوب في حقول الرماد و هي تبحث عن شجرة الحياة كما انكيدو الباحث عن عشبة الخلود .
بالإضافة إلى اللغة المبتكرة هناك الصور الأكثر ابتكاراُ إذ لا وجود لمثلها في كتب البلاغة البائدة و الحديثة , إنها صور نتخيلها ولا نراها , نحسها ولا نمسها , فهي كالنجم الذي يشع ضوءا و حرارة و لكن لا يمكن الوصول إليه , و هذا لا يعني أنها لا تتكئ على البلاغة السائدة و لكن بعد تشذيبها فتبدو الصور كأنها بنت ساعتها و هذه هي الحداثة بعينها فهي لا تستعير بصمة احد و عندما تغني تغني بصوتها هي و إذا كانت الكلمة لديها ذات ايحاءات و دالات و مدلولات فالصور نفسها متعددة الإيحاءات والظلال حيث لك أن تتخيل ما شاء لك التخيل و لكن قبل ذلك يجب أن تكون مهيأ للسباحة في بحر هذه الصور التي تموج كبحر لم ترسمه الخرائط بعد.
إن القصيدة تحتاج إلى أكثر من قراءة و من ندوة لدراسة أحوالها لاسيما في مجال الصور التي أبدعها خيال مجنح و موهبة عميقة و ثقافة عالية و مما ساعدها في هذه الابتكارات هو اندلاعها في عالم الحب و الغربة و المنفى هذا المنفى الذي أصبح حلما لمعظم الشعراء الذين ضاقوا ذرعا بهجير المكان و الزمان , إنها ثائرة متمردة و هذا شأن كل شعر عظيم فالشعر الحقيقي هو الذي يحفر نفقا في الظلام و يحمل مصباحه في و ضح الحلم للوصول إلى المحال .
لولا حبها للفن و الشعر و الحياة لما كانت هذه القصيدة التي تتغنى بفرح الحياة من خلال الحزن القابع في كل زاوية من زوايا القلب , فالقصيدة يمكن أن نستحضر الوجوه الغائبة و الحبيبة و الوطن و الأماكن الحميمة و بذلك تملك الشاعرة قوة روحية هائلة في مواجهة العبث و الموت فالشعر هو المصباح المنير الذي يسلط الضوء على الواقع المزري فيدرك الجائع سبب جوعه و المواطن سبب غربته و العاشق سبب انتحاره .
تبدأ مها بكر قصيدتها كما امرئ القيس بوصف ليل نابغي مضرج بالدم والخديعة , ليل شرس يكشر عن أنيابه باحثا أبدا عن فرائس و طرائد جديدة , إذ لا يشفي غليله إلا الدم المراق , و من خلال العنوان يخيل للقارئ أنها قصيدة غزلية فالعنوان هو ” يندلع الحب ولا نجني من غنائمه إلا الدمع ” لكنها في الواقع مرثية كونية , ترثي الشاعرة نفسها و الحب الذي يدمر بفعل التقاليد أو بفعل الزمن , فلا مكان للحب في عالم تنهشه مخالب الموت …
في المقطع الأول تلوذ الشاعرة بالأرض ولكن لا حياة لمن تنادي ثم تلوذ بالسماء كذلك لا حياة لمن تنادي ثم تلوذ بالفن الذي هو ” أعظم فرح يمنحه الإنسان لنفسه “
إنها تتكىء على ثقافة تراثية و معاصرة كما أسلفنا حيث تمتزجان و تنصهران في بوتقة موهبتها الفذة المتمردة على كل قوالب الفن والحياة معا لذلك نراها تحلق بأجنحة الخيال في سماء القصيدة التي تضج بموسيقا النثر إذا صح التعبير فالنثر كان أولا و الشعر ثانيا و ربما هذا هو السر في قلة عدد الشواعر في الأزمنة القديمة , لان الشعر تعبير عن نداءات الروح و الجسد لذلك لاذت المرأة بالقصص و الحكايات لكنها الآن لم تعد أثفية في صحراء العدم بل أضحت وردة من حريق نشم رائحتها من مسافات بعيدة , إنها المرأة التي تعبر عن اندلاعاتها بالحب والقصيدة و المواجهة مواجهة انهار الدم المسفوح فما زال في أرضنا الخراب رجال جوف يقتنصون الشهامة من غسل العار و في حياة كل واحد ألف عار تلك النزعة الذكورية التي لن تنتهي في المدى المنظور و غير المنظور.
مها بكر تمزج الواقع بالخيال , و بسبب ارتباطها بهذا الواقع نراها تردد عبارات جاهزة أحيانا .. مثل خطوب لا تلين – لا تنام على ضيم , قطع دابر الجمر هذا الأمر تعبير عن أن الشاعرة مدججة و مضرجة و مكتظة بالتراث الشعر العربي , تستخدم منه ما يفيد رؤاها الحالمة . و إذا كنت تبحث عن الحداثة فاسمع مثلا .. – يا التي تكبرني بوردة , مطر يحط على القلب – أنا أكثر لك من الثلج و الزهر و النسيان .
إنها قصيدة لا تستساغ للوهلة الأولى كما طعام لذيذ يقدم لك أول مرة في بلد غريب فتزدرده بحذر و حساب ثم بعد ذلك يسيل له لعابك فتطلب المزيد المزيد …
قصيدة مها كما قلنا تحتاج إلى أكثر من قراءة و أكثر من وقفة نقدية , فما كتبته لا يعد إلا انطباعات عابرة و سريعة لا تغني ولا تسمن لان القصيدة عندما تشرح و تفسر تفقد الكثير من رونقها و عذوبتها , لذلك ينبغي النظر فيها دون رسول أو وسيط لان السباحة في خضمها متعة للعقل و الروح و هذه المتعة مصدرها جوهر الفن و جوهرته : ” القصيدة ” .
عنوان القصيدة الطويل ( يندلع الحب و لا نجني من غنائمه إلا الدمع ) حبذا لو لم يكن بهذا الطول كأن نحذف كلمة غنائمه ليصبح العنوان انسب و مع ذلك فانه عنوان إشكالي و معبر عن المضمون خير تعبير لاسيما أن القصيدة مطولة و تصلح أن تكون مشروع ملحمة , فانا شخصيا لم اشعر أن القصيدة انتهت , فنهايتها هي بداية لرحلة أخرى جديدة في وادي عبقر .
ثمة مقولة لمحمود درويش هي : ” لا اعرف ما هو الشعر و لكن اعرف ما ليس شعرا , ما ليس شعرا هو الذي لا يحركني ولا يؤثر في , و من هنا أرى نفسي أمام قصيدة تأخذ باللب و تحرك مشاعر دفينة كانت هاجعة منذ دهر و ثانيتين و في الوقت نفسه ليست هناك القصيدة المثالية التي لا يأتيها الباطل فقد ذكر الجاحظ انه ود إعادة النظر في الكثير من كتاباته قبل إذاعتها في الناس فكل شاعر بعد فترة قصيرة أو طويلة قد يعيد النظر فيما كتب و يود لو بدل و غير و قدم و أخر و حذف و أضاف فالكتابة قلق دائم لا ينتهي و سعي حثيث للوصول إلى الأفضل و الامثل و مسألة الحوليات في الجاهلية معروفة فزهير بن أبي سلمى كان يؤلف القصيدة في شهر و ينقحها و يحككها و يشذبها و يعيد فيها النظر في أحد عشر شهرا .
اجل إن قصيدة مها بكر قد تكون عليها مآخذ بسيطة هنا و هناك فالكمال المطلق صفة لا يستطيع احد ادعاءها غير انه في المحصلة لا بد أن تكون نسبة التصويت لهذه القصيدة عالية لاسيما أن امرأة كردية لديها كل هذا التمكن الشرس من اللغة العربية لهي تستحق أن نضرب لها التحية من قريب و من بعيد ..
لقد قرأت القصيدة مرارا و سأقرؤ ها و قد أتأثر بها في كتاباتي الشعرية القادمة , هكذا هي طبيعتي لا اترك نصا جميلا إلا بعد أن آتي عليه ارتشفه جرعة جرعة و آكل أخضره قبل يابسه و بفضلها قد أنجو من كلاسيكيتي و اقترب من الحداثة التي خوفني منها الحداثيون الذين لا يميزون الفعل من الاسم و الماضي من المضارع و القمح من الزؤان , ها هي مها تفجر اللغة بإعادة صياغتها من جديد فتفجير اللغة ليس تشويهها كما يفهمها بعض كهنة الحداثة و ادعياؤها لان الحداثة نظرة عصرية إلى الكون والإنسان و اللغة و الشكل و المضمون .
مها بكر مبدعة و حداثوية حقيقية تهب على القلب هبوب الحب المضرج بالدمع و الدم فاستمري في نفيرك و أشعلي حرائق الشعر في الروح و في الكون فأنت تمتلكين ناصية الكلام و جمرة الإبداع و قد قيل : في البدء كانت الكلمة و أقول و من الكلمة كانت القصيدة التي تحلق بجناحين من نار و نور . ..
لأنك أنثى الكلام
كأن القصيدة بين يديك
نجوم تفر من القلب
حتى تخوم الظلام
كأنك ريفية في مدينة عشق
كأنك لست على الشعر مرمية
تجمعين دم القبرات
تعيدين للشاي سكره
حيث المرارة سيدة العاشقين
وحيث المنافي تبدد ريش الحمام
كأن القصيدة بين يديك
نجوم تفر من القلب
حتى تخوم الظلام
كأنك ريفية في مدينة عشق
كأنك لست على الشعر مرمية
تجمعين دم القبرات
تعيدين للشاي سكره
حيث المرارة سيدة العاشقين
وحيث المنافي تبدد ريش الحمام
كأنك في و ضح الحلم
نهر جريح و منفى زؤام
كأنك في حضرة الشعر مجمرة
تشتعلين بغير رماد
و سرعان ما تولدين
على شكل أيقونة ا و غمام
فظلي اكتبي فالقصيدة
عين الإله التي لا تنام
نهر جريح و منفى زؤام
كأنك في حضرة الشعر مجمرة
تشتعلين بغير رماد
و سرعان ما تولدين
على شكل أيقونة ا و غمام
فظلي اكتبي فالقصيدة
عين الإله التي لا تنام