عبدالرحمن عفيف
بعد ذلك بعدّة أيّام ألقى عماد محاضرة مختصرة ليحصل على مبلغ المائة والخمسين من المركز الثّقافي، اشترى بها قميصا بلون بنفسجي أو بالأحرى قماشا من لون بنفسجي الذي كان لونه المفضّل، أخذ القماش إلى الخيّاطين وصنع منه قميصين بنفسجيّين وقرّر أنْ يتزوّج ولو أنّ الحبّ في قلبه كان قد صار بحيرة بمياه صافية زرقاء ولكنّها مستحيلة؛ ذهبَ إلى حارة هليليكي في القامشلي، صعدَ بعض الدّرجات؛ نظرَ إلى قبرِ محمد شيخو واستمع إلى محمد شيخو في الباص.
بعد ذلك بعدّة أيّام ألقى عماد محاضرة مختصرة ليحصل على مبلغ المائة والخمسين من المركز الثّقافي، اشترى بها قميصا بلون بنفسجي أو بالأحرى قماشا من لون بنفسجي الذي كان لونه المفضّل، أخذ القماش إلى الخيّاطين وصنع منه قميصين بنفسجيّين وقرّر أنْ يتزوّج ولو أنّ الحبّ في قلبه كان قد صار بحيرة بمياه صافية زرقاء ولكنّها مستحيلة؛ ذهبَ إلى حارة هليليكي في القامشلي، صعدَ بعض الدّرجات؛ نظرَ إلى قبرِ محمد شيخو واستمع إلى محمد شيخو في الباص.
هليليكي ترتفعُ حين المجيء من بريفا وعامودا إلى القامشلي؛ فوق التلّ قصرٌ أصفر اللّون إلى يمين القادمِ، فتياتٌ مقتبوحاتٌ فوق أكتافهنّ جرار الماءِ يأتين به من الحنفيّات في أسفل البيوتِ، حيثُ التلّ مرتفعٌ ولا تستطيع الحنفيّات سحب الماء. إلى يمين القادمِ مقبرةُ هليلكي. يتزوّج عماد فتاة ذات جرّة ماءٍ فوق كتفيها، أصبحت قبيحة من الحبّ وغناء محمد شيخو الكئيب قلّص قلبها مأخوذا إلى الهجران. يبحثُ فيها عن أغاني محمد شيخو ثمّ عن أغاني عبدالقادر سليمان، عن قصائد جكرخوين. لا يجد شيئا. يبحث في سرير الزّواج ومن اللّيلة الأولى عن جرّة غير مكسورة أو مثقوبة وليس معها جرّة في السرير سوى جرّة مثقوبة؛ يأتي عماد إلى أبي ويقول له شاكيا: ” لم أجد في السّرير سوى الجرّة المثقوبة وكانت أغاني محمدّ شيخو تسيل من الثقوبِ وتنحدرُ الوادي فيلتقطها أولاد الشّوارع وبيّاعو السكائر على طريق الهلاليّة ويغنّونها، أو تسيل منها أغاني الرقص لعبدالقادر سليمان فيلتقطها كردٌ همجيّون يرقصون عليها مهاجرين إلى قبرص. لم أجد أيّة روحانيّة في جرّتها المثقوبة، قمتُ ضدّ قرارِ نفسي وطلبتُ منها أن تأخذ الجرّة، أن تعود إلى هليليكي والحنفيّات المنخفضة والقصر الأصفر.” الشّمس أشرقتْ وأضاء ت درجات وشاهدة قبرِ محمّد شيخو؛ ذهبتُ إلى القامشلي بالبسكليت وأتيتُ في نفس اليوم، أمضيتُ يومي في حديقة القامشلي. أثناء رجوعي نظرتُ إلى بريفا؛ رأيتُ سلّما منحنيا على حائط بيت صديقي عماد الحسن؛ رأيتُ عمّه يقرأ القرآن فوق حبلِ الغسيل وشممتُ نفسي بقوّة ثانية. تفوح منّي رائحة الحرمل وقميص الكلابِ السلوقيّة. في الصّباحِ حين شروقِ الشّمسِ يحمل محمد شيخو طنبورته ويخرج من قبرِهِ؛ بدل أن يعزف الأغنية فإنّه ينشغل مع رفشه بتنظيف ساقية المرحاضِ، يزوره عبدالقادرِ سليمان، مطربُ الأعراس ويقول عنه: ” بدل العزفِ ينظّف ساقية المرحاض” . ينتهي محمد شيخو وينظّف الرّفش ثمّ يأخذ الطنبورة : ” أيّتها الوردة، أيّتها الوردة الصّفراء، لا أبادلك بمال الدّنيا، في سبيل الوردةِ أقتل “. ينظرُ عنبٌ كان ينضج في الصّيف في كرومِ مخفيّة لبيت وطحيّا وبستانٌ لعفدو عيّارو الذي كنتُ أسمّى باسمه في طفولتي وأنزعج حين ألقبُ بهذا الاسمِ ” عفدو عيّارو”. لكنّني كنتُ ” عفدو عيّارو” ولو أنّني لم أكن أتربّص بالأولاد والنساءِ في حوافّ البساتين ولم أكن أنام القيلولة فوق تراب البستانِ بالقربِ من الأفاعي والبقدونس ولم يكن لي بيتٌ مبنيّ بسرعة ليحميني من أشعة قيظ الصّيف. وصف عماد الحسن عاملات النّسيج أوصافا ما، كنّ أوّل عاملاتٍ في معملٍ له اسم معمل في عامودا وكنّ عاملات نسج قريبات من مخازن جمعِ الحبوبِ ويأتين بدوامٍ رسميّ لينسجن النسيج وكان عماد ينظرُ إليهنّ وبالتأكيد لم يجد فيهنّ المرأة المرأة ولم يجد فيهنّ نجلاء فتحي وجاءت في قصيدته كلمة عاملاتٌ مقتبوحات، عاملات لسن قبيحات إنّما مقتبوحات، كلمةٌ غير موجودة في القاموس فعلقت بقلب أبي وردّدها كشعرٍ لعمادِ الحسنِ ثمّ كتب عنه قصيدة الرّبيع المزوّق وصار أبي وعماد صديقين. نسجت العاملاتُ وردةً ولم تكن الوردةُ وردة حقيقيّة تقطفُ وترسم إنّما وردة من الصّوفِ على النسيجِ من القطنِ ووردة من القطنِ على قلبٍ من القطنِ وغيّرن الاتّجاهات، اتّجاهات قعودهنّ وتعبهنّ أثناءِ النسيج ليراهنّ عمادِ في مروره ولم تكن الوردة باهتة إنّما بألوانٍ قرمزيّة، شديدة السّطوع والحرارة حيث العاملاتُ كنّ مقموعاتٍ جنسيّا وأيضا كنّ أو أكثرهنّ كنّ مقتبوحات على طريقة القبيحات شكلاً. فقط في روحهنّ كنّ وردة لم تتفتّح فوق شبابيك معمل النّسيج. تلك الورودُ الصّفراء على يدي مثل كيس، ثمّ جاءت أمينة من بعيد مع ابنة عمّتها ليلى من زيارة إلى بيت ابن عمّي محمد نور ونظرت ورودي إليهما طويلا وشمّت من بعيد عطرَ أمينة وعطرُ ليلى كان أقوى من عطرِ أمينة فقالت الوردة الأكثر اصفرارا:” يدُ أمينة على حنفيّة مدرسة أبي العلاءِ المعرّي في الصفّ العاشرِ الإعدادي؛ ليس فوقها عطر مثلي”. وأكمل عماد الحسن حين ألقى نظرة إلى الوردةِ البرتقاليّة المائلة إلى الوردة الورديّة وقال:” أنا هو الشّاعرُ الشّاعر وأمّا طه خليل فهو الشّاعر فقط، الشّاعرالشّاعر هو الشّاعرُ الحقّ وأما الشّاعر فقط فهو اللاشاعرُ في رأيي؛ انظر، نجلاء فتحي هي المرأة المرأة وحبيبتي في حارتها بالمياه هي أيضا المرأة المرأة وتضع النظّارة في باص الجمعيّة التعاونيّة لتصبح المرأة المرأة وهي بدون باص وبدون الصفّ الخاصّ المرأة المرأة؛ أنظرُ إلى أفلامِ نجلاء فتحي كم هي مغرية أثناء قميص النّوم فوقها. لا تؤمن بالشيوعيّة ومل بفكرك العاموديّ إلى فيصل الترك المنشقّ من الاتّحاد السوفييتي؛ نحن الشّعراء غاية في ذاتها، بدون مبرّر يتقبّلنا النّاس ونحن فوق الأحزاب، أمامها.” أتجوّل مع شاعر بريفا وهو من اكتشافات أخي ثمّ أبي، يأتي عماد إلينا ويذهب إلى أبي ويقول، عمّي الشّيخ هو صديقي ويجلس إلى أبي فيسمّيه أبي، ثعلب بريفا واللّبن وعشقِ أعشابِ الرّيف. يأتي عماد مرّة أخرى إلى أبي ويجلس معه في دكّانه على الشّارعِ ويقصّ لأبي سيرةِ عشقه لفتيات كثيراتٍ في المراهقةِ والآن بعد المراهقة فإنّه يبحثُ عن المرأة المرأة وثباتِ الحبّ في تلك الحارةِ النّائية التي تغمرُ مياه المراحيض شوارعها فلا يستطيع عماد زيارة شارع التي يحبّها وعليه أنْ يقفز فوق المستقعات المرحاضيّة والمطريّة ونسي مظلّته وجاكيته المطريّ والمرأة المرأة ليست في البيت إنّما تزور سرّا بيت أحد العراقيّين المهاجرين وهم أيضا شيوعيّون من حزب فهد؛ فيكره عماد الأسرار ويكره العراق وأولاد الشيوعيّة السوريّة والنظّارات وباصات الجمعيّة التعاونيّة ويحبّ صوت ابراهيم طاطليسيس. يجد أمينة في الباصِ وهو عادة لا يتكلّم في الباص وأنا في حلب، فيتكلّم لأوّل مرّة خلال سنتين في الباصِ ويتعجّب أصدقاؤه: ” يتكلّم عماد الحسنِ ببذلته السّوداءِ الكتومةِ في الباصِ لأوّل مرّة؟!” . يقولُ: ” تنطفىء عامودا بدون صديقي من عائلة الشّيوخ، الشّاعر الشّاعر صاحبِ أمينة والوردةِ الباهتةِ التّي أعطاها للشيوعيّين وصاحب الوردةِ الصّفراءِ أو الورودِ الصّفراءِ، قطفها من غنى حديقة الشّويش وعمل لنفسه قهوة ولم يخرج من البيتِ لأعوامٍ؛ فطال شعره وسمّاه النّاس، شيخ الشّعرِ لأنّه تجوّل في أوحالِ عامودا في سبيل الشّعرِ ولم يبالِ بتعليقاتِ النّاس، للشّعرِ وله فقط بين الدّروبِ وبينِ الأشجارِ والطّيورِ النحاسيّة والقصائد المتفتّحة.” ثمّ صمتَ صديقي عماد، فنظرت إليه أمينة بلحيته وبذلته السّوداء بعكس بذلة طلاّب الصفّ الخاصّ وتذكّرت أنّه ذات يومٍ دعاها وطالبات أخريات إلى إحدى أماسيه الشّعريّة في قبوٍ غامق بعيد تحت قصرٍ من البلوكِ بدون طلاءِ ولم تذهب أمينة فقط ذهبت أمينة أخرى من القامشلي وقال لي عماد بعد الأمسية: ” لقد أتتْ أمينة إلى أمسيتي، لا ترمِ نفسك في أمينة وستندم مثل وضّاح اليمن في الجبّ ذات يوم، حين تتزوّج أمينة في القامشلي ويغلق الصفّ الخاصّ أبوابه وتبقى على رصيفه مثل مخالبِ عصفورٍ وتلقي عليك النّمالُ نظرة مسائية ملتهمة.” جاء شيوعيٌّ من آلِ نعمتو نحيفا في الشّارع؛ كان الاتّحاد السوفييتي أقصى البعيدِ وهو يعاني من قصرِ النّظرِ ولا يستطيع القراءة في غرفِ النّاس بعد ويمشي بدونِ أنْ يتزوّج بعد أن بلغ تقريبا أكثر من السادسة والثّلاثين ووجنتاه غائرتان بدون أكل اللّحم الثّمين وبغير فواكه وخضرةٍ تلائم وتدفع إلى الزّواج وأنا وعماد الحسن شيوعيّا الحبّ فوق شارعِ الشّويشِ، وخلفنا حديقة مترامية الشّجرِ والغرفِ وفيها ليلا تأتي الطّواويس والحالات. فأعطيتُ الوردةَ الوردة الباهتة للشيوعيّ الذي كان استاذي في مدرسةِ المعرّي وقبل ذلك بسنواتٍ أرشدنا وأنا ضمن شبيبة الحزب الشوعيّ أن نقرأ ولا نكفّ عن القراءةِ حتّى ولو في غرفةٍ بدونِ ضوءٍ كافٍ وحتّى لو أصبح اللّحم غاليا فأصبنا بفقرِ الدّم ونظرنا فلم نجد الاتّحاد السّوفييتي إلى جانبنا؛ المبدأ هو المهمّ وكان شخصٌ أعرج فيما بيننا ولكنّه من طرفٍ موحلٍ فوقع عليه عينُ الاستاذِ ووجد فيه ضالّته أن يكون هو رئيس الخليّة فهو يعرفُ أن يقرأ معنى الحمامات فوق السّطوح ويستطيعُ أن يراقبنا أثناء رقصنا في الأعراسِ كونه في الأطرافِ ولا يركض فيوزّع مطبوعات الحزبِ أسرع وقال الاستاذ: ” استفيدوا من بطئكم ومن فقركم لتصبحوا أسرع وأبطأ عند اللّزومِ” . فأعطيتُ الباهتة الباهتة التي بغير رائحة له على هذه الجملةِ والورودَ الصّفراء ألقيتها بعدئذ على طاولتي النرجسيّة البيضاء التي كانت تقفُ في الغرفةِ مثل أمل. قال عماد الحسن: ” لماذا أعطيت الوردة الباهتة الباهتة، ذات الرّائحة المعتّقة منذ يومين في جيبك ولك بها علاقة وكانت لأمينة في الباصِ حين انطفأت كهرباء عامودا لأنّك لم تكن فيها وكنتَ في حلب فذكّرتُ أمينة بحبّك وهي ليست مثل نجلاء فتحي إنّما، أمّوكي، أمّوكي في أغنية ابراهيم طاطليسيس الذي أصله غير معروفٍ وبدأ يمثّل أفلاما عاطفيّة بين الثّلج ودمِ الأسلاكِ بين المحبّ ووالد محبوبته يطلقُ الرّصاص عليه أو يصاب بالسلّ في الجبالِ بالقربِ من قريةِ الرّوائي ياشار كمال؟!” لم يكن لعماد الحسن عداوة سوى الحبّ للمرأة المرأة ضدّ شيوعيّي عامودا وهي كانت في الأساسِ عداوة ضدّ شيوعيّي الحزبِ الشيوعي العراقي المهاجرين في بيوتٍ مهدّمة على أطرافِ عامودا، يبحثون عن خبز وينظرون إلى الفتيات بدهشة مغامرة أحيانا وروح المغامرة لدى صاحبةِ عماد التي تتشبّه بنجلاء فتحي في مغامراتها وقميص النّوم عليها؛ تأتي وتدخل البيوتَ المتهدّمة للشيوعيّين وأحيانا بدون قميص نوم يكرهه صديقي عماد ويكره عامودا ويقرّر أن يذهب فقط إلى القامشلي أو يقول بعد سنواتٍ من حبّه : ” لم يبق حبّ يا صاحبَ أمينة في قلبي، صار بقعة وحفرة فيها ماءٌ قديمٌ مالحٌ وجاءتْ عدّة ضفادع وانغمست برأسها وأثارت وحل الحفرةِ فارتجّ الحبّ ولم أميّز بينه وبين الكرهِ؛ حين أنامُ في عامودا وأنظرُ إلى النّجومِ وأغيّر اسمي فاسمّي نفسي، عماد الحسيني، تحسبني أحيانا آتي إلى المركزِ الثّقافي، ألتقي مع عبّود الشوّاخ ونتحدّث عن الجراءِ والمعزاتِ تحت الخيمِ أو التصوّف أو أقصّ له غرامياتِ القرويّات، تحسبني شاعراً وأنا شاعرٌ لم أترك الأوزان والموازين الشّعريّة ولم أهجرها هجرا مطلقا؛ بين الفينة والفينة أعودُ وأصبح الشّاعر الشّاعر كما في قصص المجون والمجنون.” يطلبُ منّي أبي أن أقول لعبدالسّلامِ وهو أحدُ أقربائنا يسوق التكسي في شوارعِ عامودا أنْ يأتي ويركب أبي التكسي في فصل الرّبيع ويطلبُ منّي أبي ألاّ أبقى في البيتِ في فصلِ الرّبيع، أنْ أذهبَ إلى حقولِ خارج عامودا، أتنشّق الهواء النظيف بدون شوائب تنفّس النّاس والسيّاراتِ. يأخذه عبدالسّلامِ إلى قرية بريفا وبعدئذ يأتي إليه الشّاعر عماد الحسن في عامودا؛ فيكتبُ أبي قصيدة عن عماد الحسن الذي لقيه في دروب بريفا؛ كان عماد هائما قد نصبَ شبكة ويركض وراء الورود والورود تركض وراء الفراشات والفراشات وراء باص الجمعيّة وباص الجمعيّة فيه ما فيه من فتيات يعشقهنّ عماد وأنا أعشقهنّ فتكون قصيدة أبي عن عماد الحسن عنّي أيضا ووردتي الباهتةِ، ” ذهبتُ بريفا في الربيع المزوّق، رأيتُ عمادا، شاعرَ الرّيف تائها” ثمّ يجري حوارٌ عن الحبّ والشّعرِ والحياةِ بين أبي وعماد الحسن؛ يعود أبي من بريفا وينظم قصيدة عن حالات عماد الحسن بعد ثلاثين سنة لم يحمل قلما لكتابةِ الشّعرِ. أمشي بخطواتٍ وئيدة وفي قدميّ حذائي البنيّ وجواربي البنيّة؛ هذه المرّة طال عمرُ الحذاءِ فوق أوحالِ أرصفةِ ومنتصفِ شوارعِ عامودا. ألستُ أمشي كمثل سائرِ أبناءِ بلدتي التي بثلاثين ألفاً من السكّانِ في وسطِ الشّارعِ مع صديقي الشّاعر من قرية بريفا في فصل الرّبيع، الشّاعر عماد الحسن. رأيت بريفا في الشّتاءِ، يتحوّل انهمارُ المطرِ إلى سواقي تسيل في وادٍ أصفر بعد شروقِ الشّمسِ مباشرة. في عامودا وفي يدي وردةٌ بلونٍ أحمر وورديّ باهتٍ قطفتها من أحدِ الجدرانِ وشممتُها مرّتين وبقيت في يدي أثناء حديث صديقي عماد وأثناء حديثي أو استماعي إليه: ” نحن الشّعراء، لنا مرتبتنا كما في العصرِ الجاهلي؛ نحن أرقى وفي أمام النّاس، ينبغي أن لا نختلط بالعامّة ويكون لنا سرّنا وكهفُ الابداعِ مثل نبيّ لم يُعترف به بعد. أمينة هي بياتريسك وعشيقتي تذهب إلى الصفّ الخاصّ في القامشليّ وتضع خلال شبابيك الباصِ نظّارة؛ أنظرُ إلى مرورِ الباصِ في بريفا؛ فأرى في الشّبابيك نجلاء فتحي؛ أذهب إلى القرى المجاورة، أضع سكّرة في أحد أركانِ بئر ما، تبقى السكّرة إلى فصل الصّيف، يضع عليها بعض الغبارِ بيته ” . قبل أنْ تكون في يدي تلك الوردة التي كانت ناضجة حين أخذتها من كأسِ الماءِ والآن أصبحت باهتة اللّونِ قليلاً والوردة لا تعرفُ ماذا تصنع في يدي تماما مثل الورودِ الصّفراءِ التي قطفتها من على جدارِ بيت عائلة شويش وانتظرتُ برأس محلوقةٍ صفرا في ركنِ الحائطِ وهطل مطرٌ غزيرٌ ثمّ شمسٌ جاءت ونظرتْ إلى الورودِ الصّفراءِ وقال أحد أصدقائي في الزّاوية جملة. أو يمرّ عماد بمعمل النّسيج؛ هذا حين كان يأتي إلى الإعداديّة في عامودا، فيتأثّر بشعراءِ عامودا الضاجّة فوق الحيطانِ وفي الإعداديّات وفي السّطوحِ وفي دارِ شبيبة الثّورةِ بالشّعرِ العامودي الذي يُذكر فيه على الدّوامِ نهرُالخابورِ والزيّ الفولكلوري بالأحزمةِ المزركشةِ والحوذيّ، حيث لم يكن حوذيّ قطّ في عامودا، ولم يكن قطّ عربة لنقل النّاس بدل النقلِ الداخلي؛ عامودا فقط خطواتٌ من عدّة خطواتٍ بين مركزها وبين أطرافها التي يذهب إليها أبي بسيّارةِ تكسي عبدالسّلام وينظرُ حواليه قربَ الغرّافةِ، قربِ خزّان بيتِ الصرّافِ، قربَ قرية شيخكو وينظرُ حوله فينمو عشب وتخرجُ زهرةٌ برأسها من الترابِ النّاضج وينظرُ بطيخ في بساتين ملاّ فرمان، صديق أبي. خسارةٌ أن يوصفن بالوردةِ الباهتة التي كنتُ أحملها والوردة التي كنتُ أحملها في قلبي وتلك التي كان عماد يحملها في قلبه لم تكن قطّ وردة باهتة وإنّما الوردة في يدي أصبحت باهتة بعد أنْ انتظرتُ حبّ أمينة المتبادل معها لأكثر من ستّ سنواتٍ وغيّرت أمينة طريقها حين وجدتني بورودي الصّفراء التي كانت رمز الغيرة ورمز عدم الحبّ، غيّرت أمينة الطريق وذهبت مع ابنةِ عمّتها في طريق آخرولم أستطع أنْ أعطيها الوردة على قلبي من الصّوفِ ووردة عماد الحسن التي أعطيتها للشيوعيّ من عامودا ونظرة عماد الحسن احمرّت وشبّهت نفسها بالبكاءِ. كان كلّ شيءٍ قبل اهداءِ الوردة لهذا الشيوعيّ من عامودا مزاحا لدى عماد الحسن. طلبه منّي أنْ نذهب إلى الأعراسِ وننفصل في ركنٍ إلى النّاس وأن تكون لنا وجوه وجومةٌ، مكفهرّة عليها علائم الشّعر كان مزاحا من قرية بريفا. ذهابه إلى عبّود الشوّاخ في المركز الثّقافي والتكلّم معه باللهجة البدويّة وشرب القهوة البدويّة ثمّ طرحه عليه أنْ يقوم بالقاءِ محاضرةٍ ثمّ قوله لي إنّ المحاضرة فقط للحصولِ على مائة وخمسين ليرة سوريّة كان مزحا وقصيدته عن العاملاتِ المقتبوحاتِ في معمل النّسيج، تلك القصيدة التي كانت تنتمي إلى بداياته في كتابةِ الشّعرِ كانت أيضا نوعا من الشّعرِ والمزاحِ وكانت قد علقت في تاريخه وذاكرته فقط لتندّر أبي بها كلّما زارنا عماد الحسن. لكنّ نظرته ضدّ الوردة الباهتة التي أعطيتها بصدفةٍ لا شعوريّة لأستاذي محمود دريعي في شارع عامودا بحديقة بيت الشّويش المترامية، تلك النّظرة وتلك الوردة كانتا جدّيتين على قلبِ عماد الحسن وانزعجَ منّي ومن شيوعيّي العالم. ثمّ طلب منّي أن نغادر وهو ركب الباص إلى بريفا. لم يأت إليّ إلاّ بعد شهرٍ وضحك منّي ومنِ الوردةِ وقال: ” نذهبُ إلى صديقنا، مدير المركز الثّقافي عبّود الشوّاخ، نتكلّم معه بلهجة المعز والخرافِ بين الكلماتِ، نشربُ القهوة المرّة ونتلصّص على عاملةِ غرفة استعارةِ الكتبِ، لها ساقان عاريان تحت الفستانِ وتحت الطّاولةِ، نستعيرُ كتابا عن حبّ بياتريس ودانتي وأنت قصّة وضّاح التّابوت وهل أنت حبيبُ أمينة ولها عشّاق خمسة في القامشلي، واحدٌ احتياط واثنان أمام البابِ وواحد للترفيه وأنت بالخيط. المرأة المرأة والشّاعر الشّاعرِ في انتظار الباصِ منذ أكثر من ساعة” .