جمهورية الكلب : للكاتب إبراهيم اليوسف


أيمن ملا


الحيرة التي تخلط الأفكار أحيانا
هي الحيرة نفسها التي تقف مشدوهة ومحدقة العينين أمام العادات والتقاليد
وهي الحيرة نفسها التي تقف مكسورة الجناحين في حضرة القوانين
وهي ذاتها التي ترغمك حتى على العيش مع الكلاب أحيانا كثيرة. 
فالمحنة والمهمة الثانية بعد الحرب والهجرة هي محنة الاندماج مع مكونات البلد الذي يهاجر إليه الشخص، والاضطرار إلى قبول التعايش وفق عادات وتقاليد ذلك البلد، وهذه الخطوة لا تقل صعوبة عن محاكاة الظروف المعيشية الصعبة أيام الحرب وما قبل الهجرة .
يقدم الكاتب هنا في هذه الرواية عرضا واقعيا عن التأقلم مع ظروف الحياة الجديدة وما يعانيه من التحديات في تعلم اللغة التي تسببت للراوي الصعوبة في التواصل مع الآخرين، حتى في الأمور اليومية البسيطة، مع العلم أن تعلم اللغة وحدها قد لا يحسم الأمر لدى الرواي، فالاندماج الحقيقي الذي تظهر علاماته على ملامح وجوه الطرفين لايقل أهمية عن اللغة، وكذلك الهوية الروحية التي لا تفارق الذاكرة ، وماذا عن انحلال عالم الطفل والمرأة بين أصابع المجتمع الجديد ، كل هذه الأمور تظل تدغدغ ذاكرة الراوي بين حين وآخر ، بالإضافة إلى بعض الأمور الأخرى التي أثارت الفضول في نفسية الراوي كعالم الكلاب ، حيث تشغل الكلاب المرتبة الثالثة في الاهتمام بعد الطفل والمرأة في البلد الذي يقيم فيه الراوي .
وربما فضل الكاتب هنا التركيز على الكلاب وتسمية روايته بهذا الاسم ” جمهورية الكلب ” لسببين اثنين:  السبب الأول : وجود الفوارق الواضحة بين حياة الكلاب في الشرق الذي كان يعيش فيه الراوي وبين الغرب الذي يقيم فيه الآن ، وكيف أن الإنسان قد ترك وطنه وهاجر من ظلم الإنسان نفسه في الوقت الذي يرى فيه القيمة والرفاهية التي تعيشها الكلاب في الوطن الجديد فضلا عن الإنسان، والسبب الثاني: هو انحلال العلاقات الأجتماعية في ألمانيا البلد الذي يسكنه الراوي ، وقلة الإنجاب، والاكتفاء بصداقة وتربية الكلاب مفضلين ذلك على صخب وضجيج الأجواء العائلية مع الزوج والأطفال، وهذا ما لاحظناه من سلوك وتصرفات ” بيانكا ” الأرملة التي تعرف عليها الراوي في إحدى الحدائق القريبة من منزله أثناء أخذ قسط من الراحة بعد رياضة المشي التي كان يمارسها كل صباح ، وكيف أنها فضلت البقاء وحيدة مع كلبها بعد وفاة زوجها الذي كان يعمل في مجال النفط في العراق، موضحة ذلك في أحد حواراتها معه بأن الكلاب هي الوحيدة التي تبقى مخلصة لأصحابها .
وأن الرسالة الواضحة التي أراد الكاتب إيصالها للقارئ عن طريق الراوي وإجباره على العيش والتأقلم مع عالم الكلاب ، وكأنه يؤكد على أن التأقلم مع الكلاب هنا في ألمانيا هو شيفرة الولوج إلى عالم أصحابها ، ورغم ذلك فإن معاناة الاندماج مع يوميات الكلاب ظلت تلاحقه ولم يقلل من تقززه منهم وحتى من الذين يقدمون له الطعام والشراب وكانوا قد لامسوا كلبا ما أمام عينيه ، وكانت للعادات والتقاليد والطقوس الدينية  الكلمة لدى الرواي في قصة صداقته مع الكلاب ، وإن الذي أجبر الراوي على قبول احتضانه لكلب بيانكا والاهتمام به عندما لجأ إليه في أحد الأيام ربما بسبب تعلقه العاطفي مع بيانكا نفسها ، فأراد بذلك أن يرضي قلبه في غيابها بالأعتناء بكلبها .
الرواية ممتعة جدا من حيث القراءة  ، فالسرد الذي ينتقل ما بين الماضي والحاضر القريب والبعيد ، والاستشهاد بالحكايات الشعبية في بلد الراوي وقريته ، والحياكة القصصية الشفافة للأحداث اليومية في الرواية ، وبعض طرائف الكلاب في الشرق ، كل ذلك تحز همة القارئ وتحفزه على إكمال الفصل أو الفقرة التي هو بصدد قراءتها دون ملل .
الرواية في صدد طريقها إلى الانتصار على كل العوائق.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…