عبدالفتّـاح كيليـطو وسُـؤالُ المنهـجِ

أحمد عزيـز الحسين
لا تزالُ مسألةُ تكوينِ (منهجٍ نقديّ) تشكّلُ هاجساً عندي حتى الآن؛ إذ إنّي حريصٌ على الإفادة من منجزاتِ الشّعريّينَ المعاصرينَ في قراءاتهم للنصّ السرديّ بشكل عامّ، من دون تحميلِ هذا النصَّ ما لا يحتمل، أو تقْويلِهِ ما لا يستطيع قولَهُ.
وفي ظنّي أنّ المنجزاتِ السرديّةَ التي حقّقتها الشعريّةُ الرّوسيةُ، والشعريّةُ الأنجلو/ ساكسونيةُ أمستْ تراثاً نقديّاً يمكن الاستضاءةُ به في قراءة هذا النصّ مع الحرصِ على مراعاةِ طبيعتهِ،  وخصائصهِ النوعيةِ التي يندرجُ تحتها.
وقد عدتُ، خلال الشهور الماضيةِ، إلى مشروع النًاقد المغربيّ عبدالفتاح كيليطو أقرؤه من جديد؛ لأنه يشكل، في رأيي، التجربةَ العربيّةّ الأنضجَ في تناوُلها للنّصّ السرديّ العربيّ، وكيفية تلاقُحها مع النّصّ الآخر من دونِ الوقوعِ في إساره، أو الخضوعِ لسطوته. 
وبدأتُ بكتابه ( الأدب والغرابة/ دراسات بنيوية في الأدب العربي) الذي صدر في عام 1982.
وقد لاحظتُ، بعد انتهائي منه، أنّ المقبوساتِ القليلةَ التي استعارها كيليطو من بروب، وتودوروف، وبارت، وديريدا، تُوَظَّفُ لتعميق قراءته للنصّ السرديّ، ولا توجِّه هذه القراءة، أو تُهيمنُ عليها، أو تضعُ لها منهجاً قبليّاً، وآليةً محدَّدةً في التّعامُل مع النّصّ، ولذا امتعضْتُ حين لاحظتُ أنّ العنوانَ الفرعيَّ للكتاب وهو ( دراساتٌ بنيوية في الأدب العربيّ) محشورٌ ضمن عنوانه الرّئيس دون مسوّغٍ نقديٍّ ؛ إذ إنّ الأبحاث، التي يضمّها الكتابُ، لا تنهج نهجاً بنيويّاً في دراستها للنصوصِ التي تقاربها، بل تستعير بعضَ المقبوساتِ من أعلام المدرستين البنيوية والتفكيكية، وتستثمرها في قراءتها للنصوص وفق المنهج الذي اختطّهً كيليطو لنفسه في مجمل ما كتب، والذي لا يمكن عدُّهُ منهجاً بنيويّاً على الإطلاق.
وقد عجبتُ كيف أنّ المفكرَ والناقدَ عبدالكبير الخطيبي، الذي قدّم للكتاب، لم يتنبّهْ لذلك بوصفه خصيصةً تفرّد بها كيليطو من بين أقرانه، مع أنّ الخطيبي أشار، في مقدمته للكتاب، إلى أنّ ما كتبه كيليطو  يُعدُّ “نقداً أدبيّاً جديداً”، وفيه ملامح “أصالة” واضحة، كما أنّ صاحبه حريصٌ على التدقيق في مفاهيمه ومصطلحاته، فضلا عن أنه تمثَّلَ النظرياتِ والمناهجَ التي عمل في ضوئها بشكلٍ واضحٍ، مع أنّه لم يحرص على تسميتها، أو يحدّد آليّة إفادة كيليطو منها.
والواقع أنّني خلصتُ، بعد قراءتي لمعظم ما كتب كيليطو، ولاسيما كتبه: (المقامات )و(أبو العلاء المعري)، و( الأدب والارتياب) إلى أنه لا يقع في إسار غيره، بل يحرص على تجنُّب النّظر إلى الشعرية في ذاتها، ولا يراها بوصفها انحرافاً عن نموذج تحقّق في أزمنة أخرى، وتحت سماءٍ أخرى، كما أنه يميل إلى استنباط المبدأ الذي يحكمها من خلال خصائصها الذاتية، لا من خلال خصائص فاعلة في شعرية أخرى، ولذا قام بتفحُّص بنى النصوصِ الأدبيةِ التي يواجهها بعينيه هو، وأدواته هو، وربط هذه النصوصَ بخصائص الجنس الأدبيّ الذي تندرج تحته، وناقش علاقتها بمادرج الآخرون على قوله في مسألة هويّتها الأجناسية، وانتسابها النّوعيّ، كما فعل مع نصّ” دعوة الأطباء” لـ(ابن بطلان) الذي نسبه (ابن أبي أصيبعة) إلى (جنس الرسالة)، في حين مال (ابن القفطي) إلى وضعه في خانة (المقامة)، ورأى (إحسان عباس) أنه لاعلاقة تربطه بجنس الحكاية، أو بكتاب ( كليلة ودمنة ) كما وهم كثيرون.
كما أنه حرِصَ على التّنبيه إلى أنّ ” النوع يقلِّصُ من دور المصادفة في تسميته، ويقدّمُ لنا قواعدَ إنتاجِ النصّ، وقواعدَ تلقّيه في آنٍ معاً”، مع أنّ النّص ّيستعصي أحياناً على الانتساب إلى جنسٍ أدبيٍّ محدَّدٍ، وينعكس ذلك في  تسميته القلقة التي تصبح متعثّرةً، ومتعدّدةً، كما حصل مع نصّ (دعوة الأطباء)، أو مع مقامات ابن ناقيا وغيره.
وفي رأيي أن كيليطو ناقدٌ كبيرٌ يُحسِن الغوصَ داخل النصّ، ويستخرج منه جواهرَ خبيئة لم نفطن إليها، كما أنه يُحسِنُ نبشَ الأسرارِ والحُجُب القابعةِ خلف النّصوص، ويزيل الغبارَ عنها، ويحسنُ مساءلتها واستنطاقها ضمن سياقاتها التاريخية، كما أنه يزيدنا ثراءً بها، ومعرفةً بجمالياتها الرّهيفة التي لاتنفد.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…