أمام مشهد الموت:

د. آلان كيكاني

بحكم مهنتي، يكاد لا يمر يوم دون أن أحضر فيه حالة وفاة، فأرى المريض ينازع ويجاهد من أجل البقاء، فتخور قواه، ويعجز عن الحركة، ويحاول استنشاق المزيد من الهواء لكن دون جدوى، فيسلّم روحه، ويرتخي جسمه، وتبتل عيناه، ويتحول ذاك الكائن الذي كان يوماً ما يمشي، ويضحك، ويتكلم، ويحب، ويكره، ويغضب، ويفرح، ويحزن، وربما كان يجد نفسه خارق القوة عظيم الشأن يتصرف دون التفكير بنهايته، إلى كومة من لحمٍ لا حياة فيه، إن تركته تعفن، وإن ألقيته كان طعاما للكلاب والقطط.
هب أننا عشنا مائة عام أو أكثر. وماذا بعد؟ 
ثمة جواب واحد هو الموت. والوقت يمضي بسرعة حتى لا يكاد يدري أحدنا متى شبّ ومتى شاب، متى تزوج ومتى أنجب، ولا يرى نفسه إلا وقد واجه الموت وآن أوان فنائه. ذلك الحدث الذي يعتبر، دون شك، أمرّ وآخر تجربة يمر بها الإنسان في حياته.
الموت هو نهاية كل كائن حي. وسواءً كان هذا الكائن وحيد خلية أو أنه من مليارات الخلايا المختلفة شكلاً ووظيفة فهو ذائقه لا محالة. إلا أن هذا الموت له وقع خاص في نفس الكائن البشري على اعتباره الوحيد الذي يملك صفة الوعي، أي أنه الوحيد الذي يفكر كثيراً بلحظة الموت وبالزمن الذي يعقبه، والوحيد الذي لديه تصورات غيبية وربما هواجس مرعبة حول الحياة بعد الموت.
اليوم كنت أعالج مريضاً في سنه الرابعة بعد المئة، فاقد القدرة على الحركة تماماً، فيما خلا حركات بطيئة من عينيه وأخرى من فكه، بالكاد يتنفس، وبالكاد تسمع أصوات قلبه وفيما عدا ذلك تحسبه قطعة من الخشب، وقد تصلبت مفاصله وفقدت مرونتها. 
ولو قمت بتحريك إبهام قدمه لتحرك معه كل جسمه، وقد ملأت القروح إليتيه وظهره من قلة الاهتمام به وانشغال أبنائه عنه بأولادهم وزوجاتهم وأعمالهم وأموالهم.
وأنا أعالجه رأيت أحادث نفسي وأقول: يا إلهي! إن أطال الله بعمري فسأكون بمنزلة هذا الرجل. هل الدعاء بطول العمر دعاءٌ أم لعنة؟
أمام مشهد الموت أفكر دائما بجدوى الحياة وحتمية فنائها وأستغرب ممن يستميتون من أجل جاه أو مال أو سلطة وأتعجب ممن يقتلون أخوانهم بدافع ديني أو مذهبي أو مادي. فحسبُ المرء حياة حرة كريمة مادامت نهايته الفناء والزوال. 
ورغم كل هذا نحن ما بأيدينا خلقنا ونموت رغماً عنا ولا بد من العيش وإعطاء فرصة للحياة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شيرين خليل خطيب

في أيِّ مجال إبداعي، أو أي حرفة تعتمد على الحس والموهبة، يظهر أشخاص يظنون أن بإمكانهم اقتحام هذا العالم لمجرد أنه يعجبهم أو أنهم يحلمون بالانتماء إليه. لكن الحقيقة المُرَّة التي مهما حاولنا تجميلها، هي أن بعض الطرق لا تُفتح لكل عابر، وأن بعض الفنون تحتاج إلى موهبة أصلية أو حد…

خالد بهلوي

اختُتمت الدورة الإلكترونية لتعليم كتابة سيناريو السينما الكردية، التي أُنجِزت بإشراف الدكتور جاسمي وزير سَرهَدي، البروفيسور في المسرح والسيناريو (الدراما الهوليوودية)، والمدرّس السابق في جامعة صلاح الدين في هولير، والحاصل على عدة جوائز دولية في كتابة السيناريو السينمائي.

قدّم الدكتور الدورة على مدى عشرة أسابيع، تناول فيها موضوع الدراماتورج وبنية القصة الدرامية، إضافة إلى محاور…

ا. د. قاسم المندلاوي

في هذه الحلقة نقدم للقارئ الكريم نبذة مختصرة عن فنانين آخرين، احدهم من غرب كوردستان، الفنان الشهيد يوسف جلبي، الذي تعرض الى ابشع اساليب الاضطهاد والتعذيب من قبل السلطات السورية الظالمة، وخاصة بعد سيطرة نظام البعث سدة الحكم عام 1966. فقد تعرض الكثير من المطربين والملحنين والشعراء الكورد في سوريا…

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…