إياس جعفر يغوص في محطات أرخت بكل أثقالها عليه

غريب  ملا زلال 

” حينما كنت آخذ مصروفي كنت أركض إلى مكتبة قريبة من البيت لأشتري مجلات تان تان و أسامة و بساط الريح و المزمار وغيرها، و أقرأها بنهم وشغف شديدين وكنت أزداد طلباً للرسم والمعرفة ” و هذا القول الذي يسرده إياس جعفر ( 1965) قد يكون جواباً عن سبب إختياره رسوم القصص المصورة ورسوم والأطفال على نحو عام، فكل المجلات التي أوردها هي قصص مصورة للأطفال و هذا ما رسخ في مخيلته وجوانحه هذا الحب لهذا النمط من الرسم حتى بات هاجسه الأهم، ورغم إنجازاته الكثيرة في هذا المجال وفروعها الكثيرة من الإخراج الكارتوني إلى الإعلانات التلفزيونية إلى الرسم المصور للقصص في كثير من المجلات، إلا أن كل ذلك لم يشف غليله، بقي مصراً بالعودة إلى القماش و الألوان فهما فقط قد ينعشان دواخله بهواء نقي عليل، ويرسلان التيار الجميل إلى مجموعة أنسجة روحه .
إذا عرفنا أن مشروع تخرجه من قسم الإتصالات البصرية في كلية الفنون الجميلة بدمشق ( 1987) كان يحمل عنوان ” أسطورة جلجامش ” حتى ندرك مدى ميله إلى الخيال واللامألوف، و مدى بحثه في إمتدادات التاريخ و كشف تصوراتها و طبيعتها و مكوناتها، و هذا يسعفه و يساعده لاحقاً حين يعود إلى محراب اللوحة القماشية، و هو على أهبة الإستعداد لإلتقاط مقاربات لأنساق بصرية تكون من صلب الوجود الإدراكي ذاته و هذا ما يقرب فهمه الجمالي من الإلتقاط الضمني لمناطق التعبير للواقعة مع كسر لتلك السلسلة من المفاهيم التي تستحضر نماذج إبلاغية، و التي يمكن دعمها بزرع نسغ من الدلالات في تيارها المندفع للداخل، و قد يمكنه هذا من الإنتقال بين توجهاتها السيميائية الكثيرة و على نحو أخص بين تلك التي تهتم بالفعل الإنساني .
و يظهر ذلك جلياً في مجمل صياغاته الأخيرة أقصد أعماله الأخيرة، فهو وبالتفاعل مع العالم الداخلي غير المرئي و ضمن نشاط معرفي مجنح يجعل من توضعاته الدينامية حقولاً جمالية و معرفية منها يستمد المتلقي و بإنفعالات بسيطة مكونات لطقوس فيها يتم تفعيل الرغبة الملحة على إنتاج مشهد بصري معاصر فيه من التنافر على قدر مافيه من التداخل، فيه من الإحالات المتدفقة دلالياً كمّاً لا متناهياً على قدر ما فيها من الإرتباطات باالإدراك الإنساني و حالاته حيث اللون يمنح الصياغات أبعادها التقابلية المتحركة منها و الجانحة نحو إيثارة إيماءات منها، و الحاملة لخطوط تتسرب من العمل كنظرات حب تتوسل إبتسامة معلقة على محيا عاشقة منها .
 و يمكن القول أن ما يطمح إليه جعفر هو الوصول إلى جوهر الأشياء و إستنطاقها لا إلى الأشياء ذاتها و هذا سرعان ما يجعله يعيد التجربة ذاتها ولواقعة ذاتها وبالمدلول ذاته، و إن كان يطلق العنان لكل الإحالات المتولدة بعناصرها اللونية ضمن مقولات معينة، و تجليات معينة، و لها مكانة معينة .
جعفر و في معظم طروحاته يكون كضابط إيقاع لبناء أعمال فانتازية يزيد من جرعة الخيال لديه، يخبط روحه بالسماء بألم وحسرة و ريشته بالأرض علها تستدير أكثر، وعله يفرغ شحناته الغريبة فيها، لكن لا مفر إلا اللوحة وحدها القادرة على فعل ذلك، على فعل ما لم يستطع فعله صاحبها، فلوحته تشبه ثكنة منجزة تراجيدياً، لا أماكن مهملة فيها، لا نوافذ، الكل يتحدث، لا أحد يسمع، فالضجيج كبير و الوجع أكبر، و المفاهيم تحمل قيمها في إندراج تلك الوقائع بأبعادها غير الملموسة في موجودات ظواهر قابلة للإنتشار ضمن شبكة علائقية تحدد سلسلة تعاقدات يمكن مناقشتها نسقاً نسقاً حتى تأتي الفصول بملامحها المغامرة و تمسح بريشها قماش اللوحة، و يرجع جعفر بضع خطوات حتى يتأمل بعمق ذلك الحوار الدائر بين اللحظة و اللحظة، حتى يلامس بروحه تلك الفراشة الخارجة من معابده و هي تحترق دفعة واحدة .
إياس و بإحساس متزايد يرافق سر إنتقالاته، و يتفاعل معها بحثاً عن حافز ما يساهم في خلق مسوغات جمالية للإبحار في مساحات لها أسرارها أيضاً، و في السياق ذاته يغوص في محطات أرخت بكل أثقالها عليه، أفرغت أعمال القسوة كلها دفعة واحدة، محطات ستتوسع أمامه نحو تأسيس لغة لا تنتهي بإنتهاء المواجهة مع المساحات البيضاء، لغة تحمل مستوياتها و آلياتها المعرفية في زمكانية معينة دون أن يجد إجابات فعلية حولها، و دون الوصول إلى خلاصة إشكالياتها، و إن كان له القدرة على إحاطتها و إضاءتها و بلورتها، فهو بقدر ما يحول تجربته بتطلعاتها المستقبلية نحو إتجاهات جديدة و إن كانت غير مستقرة بقدر ما يتحول هو إلى طائر يحوم في المسافات حركة و ضوءاً و لوناً راسخاً بذلك ما يحمله في دواخله من قيم معرفية وجمالية.


شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شكري شيخ نبي

 

يا ليل أما أضناك هرج السمار

وانت تشيح مرودك عن الإصباح

 

أما آن للياسمين المعرش على

لسان اللظى أن يغفو عن البواح

 

أنا وانت و قنديل البدر ساه

وهزار يشدو الشجى كأنه المزاح

 

صاح يا نديم الصفا والليالي

لا تحرم شفاه الأقداح من الراح

 

دع الكؤوس تدنو للأقدار بنا

فلا إنفكاك هرم ولا لجم السراح

 

أراني والراحلين في مطي…

خالد إبراهيم

نيسان: الممرُّ بين وجهين، بين صراخٍ وتوابيت

نيسانُ ليس شهرًا، بل شقٌّ في زمنٍ يُجيدُ الانهيارَ على مهل.

كأنّ اللهَ، وقد أرهقه التوازنُ، قرّر أن يُفلت الزمامَ في هذا الشهرِ وحده، فجعلني بابًا تُطرَقه الحياةُ برِضيعٍ يشبهني، وتدخلهُ الوفاةُ بأمٍّ كنتُ أُشبهها… ثم انكسرتُ.

نيسان…

أأنتَ بابُ الولادةِ أم نعشُها؟

أأنتَ طَرقٌ سماويٌّ على نافذةٍ كنتُ نائمًا فيها، أم…

علي شمدين

– 1 –

يعد صدور العدد الأول من جريدة (KURDISTAN )، الذي أصدره الأمير مقداد مدحت بدرخان في القاهرة في (22 نيسان 1898)، بمثابة البداية الحقيقية لإنطلاقة مسيرة الصحافة الكردية التي أخذت على عاتقها خلال أكثر من قرن من الزمن- وبإمكاناتها المتواضعة- مهمة إيقاظ الجماهير الكردية وتعريفها بقضيتها القومية والمساهمة الفعلية في بلورة وعيها القومي…

عن منشورات رامينا في لندن، صدرت حديثاً رواية “الباستيل الصغير” للكاتب الكردي السوري عبد القادر سعيد، في عمل سرديّ يمزج بين التخييل الروائي والتوثيق التاريخي، حيث يغوص في أعماق التجربة الكردية مع القمع، السجون، والخذلان الوطني، عبر بناء سردي محكم يذكّر بسجون الباستيل الفرنسية، لكن بلغة محلية تنبض بالألم السوري والكردي.

تتناول الرواية، الصادرة في طبعتها…