فراس حج محمد| فلسطين
تعدّ قصّة النّبيّ يوسف، عليه السّلام، مثالا للقصص الدّينيّة المفتوحة الأفق على دوائر المعنى الذّاتيّة والاجتماعيّة (الأسُرِيّة) والدّوليّة (على مستوى الدّولة الواحدة، وعلى مستوى العلاقة بين الدّول)، وفيها غوص عميق في الذّات الإنسانيّة وأمراضها النّفسيّة، ومساءلة الوعي الفرديّ والجماعيّ الكليّ والجماعيّ الجنسانيّ (الرّجال والنّساء)، وتكشف القصّة الّتي جاءت في سياق واحد غير موزّعة على عدّة سور في القرآن الكريم عن علاقة الذّات بغيرها وعلاقتها بنفسها، ووقوعها تحت طائلة المسؤوليّة المباشرة بفعل اختياراتها الخاصّة، أو ما دفعت إليه دفعا لتختاره مستعدّة لدفع ثمن هذا الاختيار في الحالتين، عدا أنّ القصّة “مثال للعفّة والنّصح للسّيّد والرّئيس وللمجتمع”[1].
ويرى السّياسيّ في هذه القصّة أبعادا سياسيّة، والاقتصاديّ يقرأ فيها نظريّة اقتصاديّة، والإداريّ يلمح فيها آفاقا من الإدارة، سواء في إدارة الموارد البشريّة أو المادّيّة، والتّربويّ يستشفّ منها نظريّات تربويّة، وعالم الاجتماع يرى فيها أنثروبولوجيا لثقافة الخاصّة ومجتمع النّخبة، وتفسير التّفكير الفرديّ والجماعيّ المبنيّ على الحاجة الخاصّة، والهوس الذّاتيّ بالحاجات الملحّة، وصوت الغريزة، وما إلى ذلك من مباحث مشتركة مع علم النّفس كذلك[2].
كما أنّ هذه القصّة تُقرأ على مستويين على أقلّ تقدير؛ مستوى حقيقيّ مباشر، ومستوى رمزيّ يرفع من شعريّتها في الخطاب اللّغويّ ضمن السّياق الثّقافيّ الّذي توظّف فيه، فقد اشتملت القصّة على مجموعة من الرّموز الّتي تأخذ أبعادا من التّأويل، كالقميص والباب والسّكّين، ومجلس النّساء، والحاكم، وعلاقة الرّجل بالمرأة، والشّهوة وحدودها وتداعياتها، والطّبقة الحاكمة وسلوكيّاتها، والجبّ والأحلام وبيع البشر والاستغلال والرّحلة، وما إلى ذلك من دوالّ لغويّة وثقافيّة ممّا يتحوّل إلى مدلولات ذات آفاق معرفيّة عامّة غير مقصورة على فضاء القصّة أو المجتمع الّذي وجدت فيه، لتصبح القصّة نفسها استعارة كليّة أو تمثيليّة تشتمل على استعارات فرعيّة تؤدّي وظائف دلاليّة.
إنّ بنية هذه القصّة[3] وما فيها من مفاصل ومحطّات تصلح للتّفكيك وإعادة البناء لتحمل معاني جديدة تعبّر عن أفكار المجتمع، أيّ مجتمع، ومن هنا تكتسب أوّلا هذه القصّة الصّفة الإنسانيّة الشّاملة، لمعالجتها المشاكل النّاشئة عن اجتماع البشر في حالات مختلفة، تلك المشاكل الّتي لم تتغيّر، وبقيت هي هي في المجتمعات الحديثة، ففي الحقيقة لم يتغيّر سوى الوسائل والشّكل الخارجيّ، أمّا كنه الحاجة البشريّة والذّاتيّة والأمراض النّفسيّة لم تتلاش ولن تتلاشى، فقد عبّرت هذه القصّة عن ذلك الاستمرار من المشاكل الّتي لا تفارق البشر، ومن هنا أيضا اكتسبت القصّة صفة الخلود ودوام الحضور في التفكير البشري.
وقد حظيت قصّة يوسف بتوظيف متعدّد المستويات في الشّعر الحديث، وقرأها الشّعراء قراءات إبداعيّة متنوّعة تخدم النّصّ الّذي وجدت فيه، ولعلّه يصعب تتبّع تناصّ الشّعراء مع هذه القصّة الدّينيّة الّتي لم يقتصر ورودها على القرآن الكريم وحده، إلّا أنّني سأقصر الحديث عن ورودها في الشّعر الحديث على نماذج شعريّة لمحمود درويش ومحمّد حلمي الرّيشة وفاطمة نزّال وسلطان القيسي[4] ومن نصوص كنتُ كتبتُها سابقاً، نظراً للاختلاف والتّنوّع والمعنى الجديد الّذي حملته هذه النّصوص الّتي استندت على هذه القصّة.
محمود درويش والاستغراق الاستعاريّ:
لعلّ أبرز النّماذج الشّعريّة الّتي وظّفت هذه القصّة في شعر محمود درويش قصيدة “أنا يوسف يا أبي”[5]، ووردت في ديوان “ورد أقلّ” الّذي صدر عام 1986، وحازت هذه القصيدة شهرة واسعة عندما غنّاها الفنّان اللّبناني مارسيل خليفة، واشتعل حينها الجدل حول شرعيّة تلحين ما ورد في القصيدة من نصّ قرآنيّ، ومن ثَم غناؤه[6].
لم يبتعد الشّاعر محمود درويش في هذه القصيدة عن صورة يوسف في القصّة الدّينيّة، بل بقيت الصّورة كما هي، يوسف ذلك البريء المجنيّ عليه، من أقرب النّاس له، إخوته الّذين ناصبوه العداء وحاربوه صغيراً وكبيراً، فيرى الشّاعر أنّ الذّئب ذلك المتّهم بدم يوسف كان أرحم منهم، وما كانت جريرته إلّا أن قصّ حلمه عليهم، وهنا ينتهي النّصّ الدّرويشيّ بتضمين الآية القرآنيّة: “إنّي رأيت أحد عشر كوكباَ والشّمس والقمر رأيتهم لي ساجدين”.
فما الجديد الّذي قدّمه محمود درويش في هذا النّصّ ليطوّر في معنى النّصّ القرآنيّ؟
لقد عمد درويش إلى استعارة بطل القصّة الدّينية ليكون رمزاً للفلسطينيّ الّذي تشتّت في المنافي وضاق به ذرعاً إخوتُه العرب، وهنا كان الشّاعر محكوماً بفكرة خاصّة، مبرزاً التّشابه بين قصّة النّبيّ يوسف وقصّة العذاب الفلسطينيّ إلى حدّ التّطابق التّامّ ليصبح الفلسطينيّ يوسف العصر الحديث، فقد مرّ به على نحو استعاريّ متطابق كلّ ما مرّ بيوسف، من المكيدة حتّى الوقوع في الجُبّ، لكنّه لم ينج كما نجا يوسف ولم يصبح “على خزائن الأرض”، وانفتح النّصّ على المأساة الّتي لم تنته إلى الآن.
لقد كان درويش يعمّق التّجربة الإنسانيّة ويستخلصها للفلسطينيّ، لتأخذ بعداً شاملاً يتجاوز الذّات الفرديّة إلى الذّات الجماعيّة، فيكفي أن تكون فلسطينيّاً لتكون يوسف.
محمّد حلمي الرّيشة واختلاط الأصوات في الكينونة الواحدة:
هذه الزّاوية من النّظر في قصّة يوسف وجدت تجليّاً شعريّاً آخر مختلفاً عند الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة في ديوانه “أيّها الشّاعر فيّ”[7]، فقد عمد الشّاعر في قصديّة واضحة إلى التّلاعب في القصّة القرآنيّة تلاعباً إبداعيّاً طريفاً وظريفاً، بحيث أنّث المذكّر وذكّر المؤنت، فصار يوسف يوسفة، وزليخة زليخَ، فما الدّاعي لهذه اللّعبة النّصّيّة الّتي لجأ إليها الشّاعر؟
التبس في النّصّ المذكّر بالمؤنّث، وأصبح ضميرا الخطاب متداخليْن تماماً بحيث تماهت زليخة/ زليخ، مع يوسف/ يوسفة، واندمج الصّوت مع صوت الشّاعر فأصبح الثّلاثة واحداً، لا تدري من المتحدّث ومن المُصغي، ليبرز في نهاية النّصّ صوت الشّاعر الرّيشة متخلّصاً من هذه الاندماجيّة في الكينونة والصّوت ليقول: “أظنّ لأنّي أنا – شاعرا- ما فعلتُ”. إنّ هذه الجملة الشّعريّة غريبة في تركيبتها، نظراً لوجودها في النّصّ، فقد وردت فيها الذّات أربع مرّات؛ في الضّمير المتّصل بأنّ (ي)، وبالضّمير المنفصل (أنا)، وبلفظ (شاعر) الّذي جاء معترضاً، وبالضّمير المتّصل في الفعل (فعلتُ)، وكأنّه أراد أن يقول إنّه هو نفسه كلّ هؤلاء الواردين في النّصّ (الشّاعر الرّيشة، وزليخة، ويوسف، وجوان بيرون) الّذي يتناصّ معه أيضاً في قوله “ليت للنّساء جميعاً فماً واحداً كنت قبّلته واسترحتُ”، ليصبح هذا النّصّ هكذا في نصّ الرّيشة: “أما كان للشّعر هذا فم واحد كنت قبّلته واسترحتُ”.
لقد حقّق الرّيشة في هذا النّصّ منتجاً إبداعيّاً يحيل إلى القصّة الدّينيّة، ويختلف معها ليس في المقصد والمعنى فقط، بل في البنية التّركيبيّة كذلك، وتحوّلت الشّخصيّات إلى رموز إنسانيّة عامّة أشبه بالأيقونات، وليس مجرّد استعارة متطابقة المعنى كما ورد عند الشّاعر محمود درويش.
ولا شكّ في أنّ لكلّ من النّصّين منطلقاته الإبداعيّة والفكريّة الّتي تجعل النّصّ منتمياً لذاته، وإنْ أحال إلى إشارات معرفيّة خارجيّة. هذا ما جعل الشّاعر درويش يبتعد عن دالّ القميص، فلا ضرورة معنويّة له، فحين يرتكز نصّ الرّيشة على لحظة الإغواء ومشهد قدّ القميص، واختلاط الرّغبات الأنثويّة والذّكوريّة والشّعريّة.
فاطمة نزّال واختيار الفعل بعيدا عن الإغواء:
هذه المشهديّة الدراميّة الحاملة للتّرقّب والدّهشة تدفع الشّاعرة فاطمة نزّال في نصّ بعنوان “نهاية”[8] في ديوانها “اصعد إلى عليائك فيّ” إلى بناء النّصّ مفارقة الإحالة المعرفيّة، فتنفي التّشابه بينها وبين امرأة العزيز وبينه (المخاطب المفترض) وبين يوسف، جاعلة الإغواء فعلاً معنويّاً منتمياً لعالم الكتابة، وليس لعالم الإغواء الأنثويّ، كما هو في القصّة الدّينية، عدا ذلك، فإنّها لم توصد الباب، ولم تقل “هيت لك”، كما قالت امرأة العزيز، وكما ورد في نصّ الرّيشة أيضاً، بل قالت: “إن استبقت الباب فهو مشرّعٌ/ لكن لا ترجو إياباً لقلب/ أوصدته بوجه الرّيح…”. لقد جعلت له الحرّيّة الكاملة في الاختيار، فلم يحدث فعل الغصب والإجبار، كما هو في القصّة الدّينيّة. إنّها وضعت المخاطب وجهاً لوجه أمام اختبار عاطفيّ إنسانيّ، حتّى لا يظلّ يثرثر بابتهالاته الفارغة.
ثمّة قلب للقصّة وأدوار الشّخوص هنا، فقد غابت شخصيّة يوسف وأصبح ظلّاً باهتاً، صامتاً، لا يفعل شيئاً، ومسلوب الإرادة كليّاً، ووحدها الشّاعرة/ زليخة الّتي كانت حاضرة، ولا تخاف من أيّ شيء قد يقال على ألسنة نساء المدينة، لذلك لم تغلق الباب كما في القصة القرآنية “وغلّقتِ الأبواب”.
سلطان القيسي والانشغال بالسّؤال الفلسفيّ:
في النّصوص السّابقة ثمّة معنى جامع في الدّوران حول شخصيّة زليخة أو يوسف بمقاربات إبداعيّة اختلف بعضها عن بعض، ولكنّها اتّفقت في بؤرة من المعنى، وخاصّة في نصّيّ الرّيشة وفاطمة نزال، وظلّ المعنى استعاريّاً عند درويش، فكيف جاءت القصة في شعر سلطان القيسي “بائع النّبيّ”[9]؟
اتّخذ سلطان القيسي من شخصيّة “مالك بن زعر” الشّخص الّذي باع يوسف للعزيز مرتكزا نصّيّا بدءا من عنوان الدّيوان إلى استلهام تجربة النّبيّ في الاغتراب والغربة والقلق الوجوديّ ومساءلة الحاضر من خلال نصّ “غودو وبائع النّبيّ”، مع الإشارة إلى أنّ القيسي جعل مفتتح الدّيوان الآية “وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزّاهدين”[10]. وفي قراءة سابقة أشرتُ إلى “أن الشّاعر جعل هذه القصّة هي الفضاء الأعمّ الّذي يشمل كلّ نصوص الدّيوان”[11]. ولم أتوقّف عند هذا التّوظيف للقصّة في تلك القراءة. هنا أحاول أن أرى كيف جاء هذا التّناصّ؟ وكيف افترق عن النّصوص السّابقة؟
يلتقط الشّاعر شخصيّة قصصيّة غير مذكورة اسما في النّصّ القرآنيّ، وتحيل إلى التّفسيرات الخارجة عن البنية النّصّيّة، فإخوة يوسف لم يبيعوه مباشرة لعزيز مصر، وهنا تبرز الملامح الأوّليّة لشخصيّة بائع النّبيّ، بوصفه شخصا يمارس عملا لا أخلاقيّا في بيع البشر واسترقاقهم مقابل “ثمن بخس دراهم معدودة”، وهذا إمعان في الضِّعة والمهانة لهذا البائع، وقد قرن الشّاعر القيسي بين هذه الشّخصيّة وشخصيّة “غودو” بطل مسرحيّة “في انتظار غودو” للكاتب صموئيل بكيت، فيعمد القيسي إلى ما يشبه “التوليف الرّمزيّ” أو “التّلفيق الاستعاريّ” ليجمع الرّمزين في شخصيّة واحدة، اتفقت على أن تمارس أفعالا غير أخلاقيّة كما جاء في نصّ القيسي، فغودو:
لن يجيء إلى مضاربنا إذن إلّا إذا نفدت جيوبه.
سيجيء حتما كي يبيع الأنبياء جميعهم
ويعود “للدّيسكو” يجرّ وراءه أحلامنا
غدا “غودو” بائعا للأنبياء كلّهم، فقد فاق في فعله غير الأخلاقيّ مالك بن زعر الّذي باع نبيّا واحدا، بل على العكس فقد “عاد كما تعود عقارب السّاعات/ قبّل رأس يوسف نادما”، ليظهر “غودو” شخصيّة مستغلّة، باحثا عن مصالحه الشّخصيّة، يفرغ جيوب القوم من أجل حفلة ديسكو، مضحّيا بأحلام الجماهير الّتي تحولت إلى خيبات.
هكذا يختار القيسي شخصيّة مهملة في السّياق القصصيّ الأصليّ، ويجعلها محوريّة، تؤدّي فكرة أعمّ ممّا هو في النّصوص السّابقة، متجاوزا النّظرة التّقليديّة في القصّة الّتي تدور حول فكرة الإغواء كما هو عند الرّيشة وعند فاطمة نزّال، وإن كان إغواء كتابيّا إبداعيّا، متقاطعا مع فكرة المأساة الجمعيّة كما جاءت عند محمود درويش، وإن كانت مرتبطة بمصير الفلسطينيّ عند درويش، إلّا أنّها، كما ترى الكاتبة اللّبنانيّة مادونا عسكر، جاءت في نصّ القيسي شاملة للمصير الإنسانيّ كلّه، “ولا ريب في أنّ الشّاعر سلطان القيسي يحكي معاناة الشّعب الفلسطينيّ، إلّا أنّه يوسّع الفكرة أكثر ويذهب بها عميقاً لتطال الواقع الإنسانيّ الأشمل، لأنّه استخدم مصطلح (نبيّ) الّذي له دلالة رؤيويّة، تطال الإنسانيّة كلّها”[12].
يوسف غير البريء من نوازعه الغريزيّة
وأنا أعدّ لهذا القراءة الشّعريّة تداعت إلى ذهني كلّ تلك النّصوص الّتي كتبتها وتناصّت مع قصّة سيّدنا يوسف عليه السّلام، وهي خمسة نصوص[13]، مختلفة في الهدف والمعنى، في النّصّ الأوّل وهو بعنوان “لا أحد بريئا”[14]، فيوسف العصر الحديث ليس كما هو في القصّة القرآنيّة، بل إنّه متّهم، بل ليس متّهماً وحسب، بل جانٍ وواقع في الإثم باحثاً عنه، ولذلك استحقّ أن يرمى في الجُبّ[15]:
رأيت يوسف ناعيا يبكي قتيل سكرتِه وتاه في الأمواج تاه
وإخوته تولّوا راحلينْ
تركوه في جبّ المهامه مستكينْ
وحدّثوا الرّكبان
عن ولد وسيمٍ أغرى الذّئاب بكلّ دمْ
فهذا اليوسفُ الباغي وهذا بعضُ ما صنعت يداه
وفي النّصّ الثّاني المصوغ على لسان امرأة جعلتُها تقدّ له القميص من قُبُل، قميصها هي، وليس قميصه هو، كما في القصّة الدّينيّة:
تعالَ
كي أقدّ لكَ القميصَ من قُبُلٍ
وأفتحُ هذا الصّدر لكْ
واتْرُكْ جنونكَ كي يمارسني معكْ
وفي النّصّ الثّالث، يكون ما لم يكن في القصّة القرآنيّة، حيث يكتفي المتحدّث/ الشّاعر المتلبّس بصوت يوسف “بقبلة دبقة”، مع أنّ الطّرف المقابل/ زليخة/ المرأة المقصودة قد غلّقت الأبواب، ولكنّها لم تقل له “هيت لك”، لوجود الرّغبة بينهما على الفعل، ولكن لن يكون، لينتهي النّصّ كاشفاً عن العجز في هذا السّطر الشّعريّ: “وأقول للشّباك والأبواب: ما نفعُ أنّك مغلقةْ؟”، لقد كان كلّ شيء مهيّئاً للفعل، ولكنّه لم يحدث، فليس هناك حاجة، لأن تغلق الأبواب والشّبابيك إذنْ.
وركزتُ في النّصّ الرّابع، على مشهد النّسوة اللّاتي قطّعن أيديهنّ في القصّة القرآنيّة، ولكنّهنّ في هذا النّصّ يختلفن اختلافا كليّا، بحيث أصبحن أكثر مكرا وقدرة على تجاوز التّجربة الّتي كانت مؤلمة لهنّ:
نسوة المدينة يصنعن كلّ يوم شاعرا ونبيّا
لا يحفلن بيوسف في طرقات المدينةِ
كلّ صباح ومساءْ
نسين السّكاكين على قارعة النّصوصْ
لعلّ سارقا يقطع وحشة اللّيلِ
فيسرق نصف أنثى.
في هذه النّصوص الأربعة ثمّة عودة لفعل الإغواء من أطرافه الثلاثة (يوسف وزليخة ونسوة المدينة)، وتجمع هذه النّصوص على صورة سلبيّة ليوسف الّذي لم يعد بريئا، وانقلب فعل “قدّ القميص”، ليكون اختياريّا بل دافعا للمرأة، مقدّمة لفعل الإغواء المتحقّق كليّا أو جزئيّا في هذه النّصوص، متّفقا في الظّاهر مع تلك الصّورة الّتي استعارها كلا الشّاعرين محمّد حلمي الرّيشة وفاطمة نزّال، ومفترقا عن صورة المأساة الجماعيّة عند الشّاعرين درويش والقيسي.
أما النص الخامس فتمحور حول تأويل الأحلام، فقد عادوا إخوة يوسف إليه باحثين عنه ليؤول لهم أحلاما حلموا بها، لكنه يرفض تأويل الأحلام، ويريد العودة إلى الجبّ بمحض إراداته عندما علم أنهم بحثوا عنه لمصلحة تخصهم، فيكون قراره:
الله ليس بحاجتكم ليريَكم أحلاماً، يئس الله من دمكم، ويئست من التأويلْ
سلّمت اللهَ مفاتيحي، وتلوت آخر رؤيايَ وعدتُ بمحض إرادتي للجُبّ
لا شكّ في أنّ هذه النّصوص المختارة هنا، وهي جزء من فيض كثير ومتعدد، تبيّن أنّ القصّة الدّينيّة غنيّة الدّلالة، كثيفة في استعاريّتها ورمزيّتها، بحيث تفتح مجالات واسعة من التّوظيف غير المحدود، ولتتحوّل كلّ عناصرها إلى أيقونات إبداعيّة زاخرة ومفتوحة على التّأويل والتّفسير والتّصريف، فيوسف وبائعه، والعزيز وامرأته، والباب والقميص، والإخوة والأحلام وتفسيرها، تتعدّى الثّبات النّصّيّ ليكون بمقدور الشّاعر تفجير ما فيها من رمزيّات ودلالة تمنح النّصّ الشّعريّ ثراء وتجليّاً إبداعيّاً، وهذا جانب مهمّ من جوانب شعريّة القرآن الكريم[16].
الهوامش:
[1] الشّعر العربيّ في محيطه التّاريخيّ القديم، نجيب محمّد البيهيتي، دار الثّقافة، الدّار البيضاء، ط1، 1987، (ص208).
[2] تنبغي الإشارة إلى أنّ هذه القصّة ليست مقصورة على القرآن الكريم، فقد وردت في التّوراة، ولكنّها بوقائع مختلفة جدّا. ينظر: المرجع السّابق، (ص203-208).
[3] يصف البيهيتي القصّة بقوله: “وقد حقّقت هذه القصّة فعلا، وهي وحي من الله، أحسن صورة للقصص الدّينيّ، فهي مستوفاة الأركان من التّمهيد والعقدة والحلّ”. ينظر المرجع السّابق، (ص207).
[4] لعلّه من المناسب الإشارة إلى قصيدة “يوسف” للشاعر موسى حوامده وقصيدة “قمصان يوسف” للشّاعر اللّبنانيّ شوقي بزيع، وقصيدة أحمد دحبور “نهار غير هذا”، وأشار النّاقد عادل الأسطة إلى توظيف الشّاعر دحبور لقصّة يوسف في هذه القصيدة بمقال (لست يوسف وزليخة ما راودتني)، نشر في صحيفة الأيّام الفلسطينيّة (18/6/2017). ويذكر الدّكتور أحمد البرقاوي في كتابه “نهد الأرض”: “وأنا بالأصل لا أحبّ يوسف، لأنّه كان قاسيا جدّا مع المرأة الّتي أحبّته، وديواني الأوّل يحتوي على قصيدة “براءة” مطلعها: ما أنا يوسف يا بني أمّي”. (ص114).
[5]. ديوان محمود درويش، المجلّد الثّاني، دار العودة، بيروت، ط1، 1994، (ص359).
[6] على الرّغم من أنّ الفنّان السّوريّ صباح فخري سبق أن غنّى قبل مارسيل أغنية “يا صاح الصّبر وهى منّي”، وفي أحد المقاطع وظّف الآية القرآنيّة الكريمة “إنّا أعطيناك الكوثر” في سياق الغزل: “مكتوب على درّ مبسمه إنّا أعطيناك الكوثر”، ولم ترفع ضدّه أيّ دعوى أو محاكمة، كما حدث مع مارسيل خليفة. وقد نشرت صحيفة الحياة اللّندنيّة جانبا من محاكمة مارسيل، ومرافعته أمام المحكمة. ينظر الصحيفة، عدد: 13417، 2/12/1999، (ص4).
[7]. “أيّها الشّاعر فيّ”، (شذرات شعريّة)، بيت الشّعر في فلسطين، رام الله، ط1، 2015، والنّصّ دون عنوان، (ص68).
[8]. “اصعد إلى عليائكَ فيّ”، مكتبة كلّ شيء، حيفا، ط1، 2017، (ص37).
[9]. “بائع النّبيّ”، موزاييك للتّرجمات والنّشر والتّوزيع، عمان، ط1، (ص73).
[10] سورة يوسف، الآية (20).
[11]. مقال “الأنساق المعرفيّة في ديوان بائع النّبيّ للفلسطيني سلطان القيسي”، صحيفة القدس العربيّ، عدد، 8-12-2016.
[12]. “غودو… وبائع النّبيّ للشّاعر سلطان القيسي.. انتظار الوهم”، صحيفة الرّأي الأردنيّة، عدد 6-8-2016.
[13]. أربعة نصوص منها غير منشورة.
[14]. ديوان ما يشبه الرّثاء، دار طباق، رام الله، ط1، 2019، (ص83-85)
[15]. السّابق، (ص 85)، خاتمة القصيدة.
[16]. خصصت الفصل السادس من كتاب “بلاغة الصنعة الشعرية” لبحث جوانب من “شعرية القرآن الكريم”. يُنظر الكتاب، روافد، القاهرة، 2020، ص 400- 419.