غريب ملا زلال
” إن الفنان يتابع ما يجري حوله و يعبر عنه بإخلاص، و لكن عليه أن يعرف كيف يحقق هذا التعب ”
تذكرت مقولة فان كوخ هذه و أنا أشرع بالكتابة عن النحات السوري الأكبر عاصم الباشا فهي تكاد تلخص الجزء الأكبر من مسيرته الفنية على الأقل، فعاصم لا يتابع ما يجري حوله فحسب بل يذوب فيه ليستيقظ فيما بعد و يعود لنا بإبداعات عذبة تلخص ما عاشه وبإخلاص تقترب من السماء السابعة و هو يدرك تماماً كيف يحقق كل ذلك التعب، و لنتذكر معه حين قرر بنقل أعماله الفنية و التي تقترب من / 700 / عمل بأحجام وأبعاد مختلفة و هي ثمار تجربته الممتدة لعقود طويلة من الزمن تقترب من نصف قرن إلى سورية و تحديداً إلى بلدته يبرود ليقيم فيها مشغلاً يستفيد منه و من تجربته أبناء بلدته تلك ( ببرود ) من الجيل الجديد،
و لكن هذا الحلم لم يتحقق إذ سرعان ما تبخر فالغليان الشعبي كان قد بدأ و الحراك الجماهيري يقترب من بلدته تلك ( يبرود ) و خرج معهم يندد بالديكتاتورية و يمجد الحرية، و عاد إلى اسبانيا فيما بعد حيث يقيم حين أدرك أن الأمر يسير من سوء إلى أسوأ، و لكن كانت مشاعره و حياته كلها هناك، فثمار عمره باتت بعيدة عنه وهي أشبه بأولاده و لهذا حين أخبر بأن مشغله تعرض للقصف عاد ثانية إلى سوريا لينقذ فلذات أصابعه و أحاسيسه من القصف و الدمار و لم يجد أمامه إلا الدفن فدفن بعضها علها تنجو من القصف و يعود إليها لاحقاً أو يكتشفها أحدهم في زمن آخر بعيد ووزع الباقي بين أهله و لم تنج و القليل منها أعادها إلى اسبانيا تهريباً .
عاصم الباشا أتقن قول ( لا ) في أحلك الظروف و مارسها كثيراً ليس آخرها حين عودته من موسكو حاملاً شهادته العالية و كان اسمه قد سبقه في الوصول إلى البلاد و لأنه يمارس ( لا ) في عمقها الأبعد نفي إلى الحسكة ليعمل معلماً و على هامش التعليم بدلاً من تعيينه في المكان الذي كان يليق به و نقصد كلية الفنون الجميلة، كما أنه نحت ( لا ) بأعلى معانيها حين دعي للمشاركة في ترميم تماثيل القائد الأوحد وقتذاك و التي كانت سبباً في خروجه من البلاد للمرة الألف، فهو الذي يعشق تراب البلاد و دفن فيها أغنى ما يملك لم يجد فيها بضع غرامات من الهواء يتنفسها .
عاصم الباشا هو بحق أحد أهم النحاتين السوريين و له حيّز جميل في الفضاء النحتي العالمي، عنده تمييزات خاصة بها ينتج نصه / عمله دون أن يخرج من الإطار الحقلي للمشهد البصري العام، فهو يستثمر الوجوه بدلالاتها الخاصة و يوجهها نحو إنتاج جديد فيها تأثيرات هندسية بوقع خاص لكل من الروح و النفس و التي لهما علاقة بمجمل الروابط الإنسانية التي يشتغل عليها الباشا على نحو عام و ما تفرزه من قيم و موضوعات و أحكام هي ليست خارج حقله الجمالي الإبداعي بمعطياتها الدلالية، بل هي إيقاعات تأثيرية داخل مكون عالمه، بل و داخل لغته البصرية في كل تجلياتها و التي تصنف بالبعد التذوقي الجمالي بما في ذلك داخل السلوك الإنساني، فإذا كان الشرط الإنساني هو أهم ما يتسم به أعمال الباشا فإنها من جهة ثانية مرتبطة في الغالب بتلك الحالات و الإيماءات و الحركات التي لا تتردد في النطق و إسبال تلك الإشارات بطابع لا يلغي مناخه التصنيفي المرتبط من جهة ثالثة بكائناته القاطنة بالإدراك و إن من زاوية العلاقة القائمة بين صوت الكتلة و معناها، أو بين صوت المتلقي في صورته السمعية و بين تصوراته الذهنية، و هذا تمايز يسجل للباشا، فهو يستدعي عملية بالغة التعقيد، عملية تكمن عملها داخل الطبيعة الإنسانية، و إن كانت علاماتها البصرية تحيلنا على تشابه موضوعي غير منفصل عن التجربة الإنسانية مع أن الباشا يدرجها ضمن سلسلة من الأنساق المنتجة للقيم الدلالية و التي قد تكون بدورها وليدة مفاهيم وثيقة الصِّلة بنقطة البداية التي ستقودنا إلى إعادة النظر في وقائعها البصرية دون الإستعانة بالمعرفة المحكومة بوحدات معينة، و إذا كنّا ندرك بأن الباشا يُحْيي أشكاله / شخوصه بالتركيز على حياتها الداخلية حيناً عبر إبراز الحركة الداخلية للكتلة، و حيناً على مفرداتها الخارجية لإبراز اللاتوازن في ملامحها الحاملة لروح البلاد و حضاراتها دون أي تقليص في إنتقاءاته و التي قد تكون تجسيدات مشخصة لقيم تغطي فضاءه الإنساني و قضاياه، و هذا لا يسقطه أبداً قي المباشرة، فهو حريص جداً بالوصول إلى الجمال عبر ما ينبض به قلبه من حب و تدفق عذب لحكاياته المثيرة و الكثيرة .
و لعل إستراتيجيته تتحدد لا في تحديد ذاته أو تجاوزها، و لا في إهتمامه / رغم نواياه الحسنة / بالوجود بوصفها حالة معطاة خارج حدود زمنه، بل في كونها نمط من البناء الذي لا يمكن فصله من أدوات بنائه، فهو على الأقل لا يسقط تلك الفرضيات القابلة بالسير نحو تحقق قيم ينتج منها فهم معنى ما يطلقه من مقولات ذي حمولة لا يمكن إفراغها إلا بالإنحياز التام للجمال و الإنسان .
و يمكن القول أن الباشا يبحث في منتجه و على نحو أخص في وجوههم الكالحة التي ستعود يوماً ما إلى الجسد في حدود تأويله ككيان حامل لدلالات إستناداً إلى التفاعل القائم بين مكونين كل منهما يحمل بدوره إنفعالاته و إيماءاته، أقول أنه يبحث في وجوه شخوصه المسربة من زمن ما عن مجمل الأحكام القيمية الدالة على وجود إنساني في سياقاتها المتعددة و التي تحيل بدورها على دلالات مختلفة، و مولدة لمعطيات إنفعالية و بمستويات مغايرة، و هذه أمور بالغة الأهمية، و اتضح ذلك جلياً و على نحو أكثر و أعمق في معرضه الباريسي 2014 و التي تلخص وجعه بل تلخص مأساة السوريين جميعاً، واقتصر في معرضه هذا على النحت المعدني مع بعض رسوماته الزخرفية .
و صحيح أن الباشا نحات و بقامة عالية و بإحتلال الحيز الأكبر و الأجمل من المشهد التشكيلي إلا أنه أبدع أيضاً بالقلم كما الريشة و الازميل، فعرف كاتباً مميزاً للرواية و القصة القصيرة وأصدر أكثر من عمل آخرها ” غبار الْيَوْمَ التالي ” 2015
فالباشا هو بحق إيقاع خاص لا في في سيمفونية النحت السوري فحسب بل العالمي، إيقاع يقترب من الأسطورة، إيقاع نستحضره بحب و خشوع . إيقاع يرغمك أن تتذكر معه صديقيه سعدالله ونوس و فواز الساجر ليشكل معهم الثلاثي الأجمل والأثمر في الإبداع السوري .