نصر محمد – المانيا
معسكر آيزن هوتن شتاد تبعد عن برلين بمائة وعشرين كيلومترا فيه مبنيين للاجئين واحد للعازبين والثاني للعائلات وأيضا يوجد فيه ثلاث مباني للموظفين ، يضم المخيم المئات من اللاجئين من جنسيات مختلفة .. أفغان .. سوريين .. البان … عراقيين .. الخ
يقيمون لفترات تطول أو تقصر ليتم فرزهم الى معسكرات دائمة بعد اخذ افاداتهم والتأكد من حالتهم الصحية ، أطفال يركضون في الممرات ونساء مشغولات بغسل اللباس وإعداد الأكل لأزواجهن الذين لا يفضلون أكل المطعم ، وفتيات يبحثن عن قصص الحب بين ممرات البناء والأشجار المحيطة بالمخيم ، داخل المخيم الكل مشغول بقصص عمليات الفرز وأخبار المخيمات الأخرى ومنح الإقامات أو رفض بعض طلبات اللجوء ، كل ذلك وسط عمليات تنظيف محدودة يقوم بها لاجئون أفغان مقابل يورو واحد لكل ساعة عمل .
الأمر الذي يترك البناء والحمامات المشتركة قذرة ، القائمون على المخيم يحملون اللاجئين مسؤولية القذارة ، والمخيم لا يخلو من المشاكل حيث تحدث احتكاكات ليس بسبب الديانات او أختلاف الثقافات بل بسبب الضجيج في الليل الذي يصدره الشباب الذين تمكنوا من ادخال لفافات الحشيش والمشروبات الروحية الى داخل المخيم او بسبب التحرش بالفتيات او خلافات حول الدور في طوابير الانتظار لاستلام النقود والألبسة والطعام
ورجال أمن المخيم لا يتدخلون في المشاكل التي تحدث بين اللاجئين ويكون فقط الشاهد والمتفرج بينما تتكاتف كل جالية مع ابناء جلدتها .. الأفغانيين .. السوريين … الأيرانيين .. الكورد
بقينا في المعسكر قرابة اسبوع بعدها فرزنا الى منطقة اسمها كارشتاد . ونزلنا في شقة بالطابق الثاني ببنانية مشتركة فيها عدة شق. شقتنا كانت تطل على حديقة جميلة. وكعادتي كنت استيقظ صباحا في الساعة السابعة
شاهدتها من شقتي جالسة على مقعد في الحديقة المواجهة لنافذتي
نظرت حولها ثم في ساعة معصمها ثم شردت بعيدا”
بدت أنيقة بقميص أزرق سماوي وخراطة سوداء
لم أستطع تمييز ملامحها بدقة لكن مع ذلك يمكنني القول بأن لهيئتها جاذبية و سحراً خاصاً …
نظرت مجدداً في ساعتها ثم وقفت بقامة ممشوقة…
تلفتت يميناً و يساراً ثم غادرت مسرعة الخطى
تكرر المشهد في اليوم التالي و الأيام التي أعقبته…
صرت أعد قهوتي و ألاقيها عند النافذة في تمام السابعة صباحاً، أشربها معها ثم تغادرني في تمام الفنجان الثالث.
كنت أتأملها صامتة على مقعده محدقةً في الفضاء و لا أمل التساؤل ….
هل تعدها بأنه سيأتي و يخلف بوعده في كل مرة ؟
أم أنه هجرها ؟
هل تأتي هنا لتسترجع الذكريات و تبكي على الأطلال ؟
هل مات؟
هل على هذا المقعد بدأت قصة حبهما ؟
ملابسها الجميلة بمعظمها يغلب عليها الأزرق
هل هي لونها أم لونها المفضل ؟
تحمل على كتفها الأيمن حقيبة جلدية سوداء بلون حذائها تفتحها أحياناً و تخرج منها كتاباً تقرأ فيه بضع صفحات …
يعيدها، تعاود النظر حولها ثم في ساعتها و تغادر مسرعة كما أتت
أنظر في ساعتي و أكتشف أنني تأخرت مجدداً عن عملي كما يحدث في كل يوم منذ أن رأيتها لأول مرة.
في العمل لا أستطيع التركيز
أصبح نومي قلقاً تتخلله أحلام مليئة بساعات ذائبة كتلك التي يرسمها سلفادور دالي…
و أخرى أركض فيها إلى المحطة ثم أقفز إلى القطار في آخر لحظة قبل أن يتحرك فتتحول مقطوراته فجأة إلى مقاعد ثابتة في حديقة….
هذه الحقيبة تليق بمحامية ربما كانت قادمة من المحكمة القريبة من الحديقة ، تفكر في قضية ثم تسارع إلى الجلسة…
تجعلكت وسادتي بأفكاري و أصبحت رقيقة جداً تحت ثقل رأسي الذي تضاعف وزنه خلال هذه الليالي المؤرقة
ما هو سرها ؟؟؟؟
قررت هذا الصباح أن أسبقها إلى الحديقة ، لبست لباس الجري و جلست على المقعد المقابل لمقعدها
تمام السابعة
جلست …نظرت حولها…ثم شردت في البعيد
لوهلة خلتها ترمقني
كنت أخالها أيضاً ترمقني وأنا أتابعها من نافذتي …
نظرت في ساعتها ثم فتحت حقيبتها
هذه المرة أخرجت ورقة بيضاء صغيرة و قلماً …
خطت بضع كلمات عليها …ثم طوتها.
وقفت … سارت باتجاهي…
هل تنظر إلي ؟
تلفتت حولي …لا أحد …
نعم إنها تحدق مباشرة في عيني
اقتربت بحيث سقطت ظلها فوقي
ابتسمت فانفرجت شفتاها عن أروع هندسة سنية
ألقت القصاصة في حضني و أكمل سيرها
عندما استطعت أخيراً إغلاق فمي الذي فتحته الدهشة
كان قد اختفت عن ناظري
خفت ضجة قلبي شيئاً فشيئاً و رجفت يدي …
فأمسكت بالقصاصة الورقية …فتحتها ….و قرأت :
من راقب الناس مات هماً … !!