حيدر عمر
الملاحم الكردية
لا تختلف الملاحم الكردية في كثير من ذلك عن ملاحم الأمم الأخرى، فهي أحد أقدم أنواع أدب الفولكلور الكردي، ولا يُعرف لها قائل أو مغنّ أو شاعر، فهي منسوبة إلى الشعب، ويتناقلها الناس شفاهاً من عصر إلى عصر، ومن جيل إلى جيل، وقد أصابتها في رحلة تنقُّلها تغييرات زيادة أو نقصاناً تبعاً للراوي وظروف العصر، وهي غالباً ما تُؤدى غناء بمصاحبة آلات موسيقية وترية كالطنبور مثلاً. أما من حيث تدخُّل الآلهة، والثناء عليها، وطلب المساعدة منها، فقد استبدلته الملاحم الكردية بمقدمات أكثر ما تكون ذات صبغة دينية إسلامية، دون أن ننسى المؤثرات الزرادشتية هنا، واستبدلت الأفعال الأسطورية الخارقة التي تقع خارج دائرة قدرة الإنسان، بما هو أقرب إلى العقلية الشرقية والإسلامية منها خاصة، كالجن وشخصية ” الخُضْر “. وهذا ما يدل أولاً على أن الأشكال التي بين أيدينا الآن هي من مرويات ما بعد وصول الدين الإسلامي إلى كردستان، ويدل ثانياً على أن تغييراً كبيراً طرأ على هذه الملاحم شكلاً ومضموناً( ). أما الأحداث فقد حافظ الرواة على كرديتها بصورة عامة، بما تصور من جوانب هامة من الحياة الاجتماعية والسمات القومية الكردية. وتنقسم الملاحم الكردية من حيث المضمون إلى ملاحم بطولية، وملاحم الحب والعشق.
الملحمة البطولية.
تنقل هذه الملاحم الأحداث مشوبة بصور ومظاهر خيالية عن الشجاعة والبطولة، تتخللها أحداث أسطورية، وأعمال خارقة خارجة عن طاقة الإنسان، وينتصر البطل على كل ما ومَن يعترض طريقه، ولا أحد يجاريه في الشجاعة ومقارعة الأهوال. ملحمة ” رستمي زال ” إحدى أهم هذا النوع من الملاحم، إذ ينتصر “رستم” على الجيوش الجرارة. وعلى الرغم من أن الفرس يتنازعون الكردَ هذه الملحمة و عائدية بطلها ” رستم “، فإن الشاعر الفارسي الشهير الفردوسي ( 925 – 1020 م ) صاحب الملحمة الفارسية ” الشاهنامة” يذكره باسم رستم الكرد.”( )
وهناك من الملاحم البطولية ما تروي فصولاً من البطولة والشجاعة، ولكنها تخلو من الأعمال الخارقة الخارجة عن طاقة الإنسان، وكثيراً ما يكون أبطالها أشخاصاً حقيقيين، ذوي منزلة اجتماعية وقومية، يحظون بأهمية تاريخية، وتتسم تصرفاتهم بالشجاعة الفائقة. وترتبط الشجاعة والبطولة في هذا النوع من الملاحم بقضيةٍ ما، يكافح البطل مع جموع الشعب من أجلها، ولعل هذا هو أحد أسباب تثمين الشعب الكردي الشجاعة، وحبه الشجعان. ولعل الملحمة الغنائية ” ولاتو/ أيها الوطن ” خير مثال هنا، وهي ملحمة مازالت تنتقل شفاهاً على ألسنة المغنين الشعبيين، ولم تُدوَّن بعد، وتتحدث عن ثورة الشيخ سعيد پيران عام ( 1925 ) ضد الطورانية التركية، ويتخللها تصوير دقيق للأساليب الفاشية التي اتبعتها السلطات التركية لإخمادها، ونفي الكثيرين من قادتها، وإعدام كوكبة من أولئك القادة وفي مقدمتهم قائد الثورة الشيخ سعيد پيران، الذي أبدى في الثورة وفي ساحة الإعدام شنقاً شجاعة نادرة. وأكثر ما تُغَنَّى هذه الملحمة في منطقة عفرين المعروفة بجبل الكرد في سوريا، وقد غناها كل من المغنين المرحومين حسن نازي / Nazê وجميل هورو ومحمد علي تجُّو وعبد الرحمن عمر المعرف بـ “باڤى صلاح”. وما زال الجيل الجديد من المغنين الشعبيين يغنونها، وما زال غناؤها ممنوعاً في شمال كردستان وتركيا.
ملحمة قلعة دمدم.
تعتبر أشهر الملاحم البطولية الكردية، و” تحتل في حياة الكرد وتاريخهم وأدبهم وفولكلورهم مكانة عظيمة “( )، وتُعرف بين الكورد باسم ملحمة ( الخان ذي اليد الذهبية ) أيضاً. تدور أحداثها التي جرت عام ( 1608 ) على الأرجح، حول لجوء أمير كردي ( عمر جلالي )من عشيرة الجلاليين في شمالي كردستان، كان قد أصدر السلطان العثماني فرماناً بالقبض عليه و سجنه، إلى الجزء الكردستاني الملحق بإيران. فحط رحاله بالقرب من بحيرة أورمية، وخيَّم هناك. وتشير بعض روايات هذه الملحمة، ومنها الرواية التي اعتمدناها هنا، إلى أن الشاه عباس الصفوي كان قد تنكر في زي تاجر، وأثناء مروره قافلته بالقرب من البحيرة، رأى خيام الأمير عن بُعد، فقصدها مستطلعاً أمرها لمن تكون؟ وإذ جلس الشاه تحت الخيمة، حشا غليونه، فقدم له الأمير الكردي جمرة على راحته، ليشعل بها غليونه. اندهش الشاه له، وتقصَّد إطالة الانشغال بغليونه، حتى احترقت راحة يد الأمير، فكافأه بكيس مليئ بقطع ذهبية. وبعدما رجع الشاه من جولته، أرسل إليه يطلب منه الحضور إلى قصره، وألحقه بحاشيته، فعمل في خدمته، مدافعاً عنه، وفي إحدى المواجهات ضد قطاع الطرق الذين هاجموا بعض رجال الشاه، أبلى بلاء حسناً، فقتل منهم عدداً كبيراً، وأصيب في تلك المواجهة، وبُتِرت إحدى يديه، فأمر الشاه بأن تُسكب له يد من الذهب، ومنحه لقب ( خان )، فصار يُعرف بـ” الأمير أو الخان ذي اليد الذهبية “.
طلب الأمير ذي اليد الذهبية من الشاه أن يمنحه قطعة أرض ليبني عليها قرية لأفراد عشيرته الذين رافقوه حين هرب من السلطان العثماني. لم يخذله الشاه، فاختار مكاناً بالقرب من بحيرة أورمية، ولكنه بدل القرية، شيَّد قلعة حصينة، أبوابها متينة من الحديد يصعب اختراقها، وتضم دوراً له ولأفراد العشيرة، وبنى في داخلها أنفاقاً وسراديب سرية، لا يعلم أمرها سوى عدد قليل من رجاله، وجرَّ إليها المياه من عين عبر قناة سرية، واختار الأمير اسم ” دمدم ” للقلعة، مأخوذاً من اسم صوت صخرة دحرجها من أعالي الجبل.
كان مجتمع القلعة متماسكاً ويداً واحدة تحت أمرة الأمير، يعيش في الرخاء بفضل حكمة أميره، ومهارته في إدارة شؤونه. تزوّج الأمير ذي اليد الذهبية من إحدى فتيات منطقة ” مرگة / تبريز “، اسمها گُلبُهار، بمعنى وردة الربيع، التي كان خان تلك المنطقة يطمح إلى الزواج منها، مما دفعه إلى حبك المؤمرات ضده لدى الشاه، مدعياً أن الأمير الكردي شيَّد قلعة كبيرة وحصينة، و خرج عن طاعة الشاه، معلناً استقلال إمارته، فاستشاط الشاه غضباً، و سيَّر إليه جيشاً كبيراً بقيادة خان منطقة مرگة نفسه، ولكنه مُني بخسارة كبيرة، وجرَّ أذيال الخيبة، مما دعا الشاه إلى أن يقود بنفسه قوة جرَّارة، واتجه بها نحو قلعة دمدم، فحاصرها ما يقرب من شهرين دون القدرة على اقتحامها.
كان ثمة شخص اسمه ” محمود مَرگاني ” يعمل سائساً لدى الأمير، لغاية في نفسه، وهي أن يكون قريباً من “گُلبُهار”، التي كان طامعاً، مثل خان منطقته، في الزواج منها. ولتحقيق هذه الغاية الدنيئة، انسل من القلعة متخفياً، ومضى إلى الشاه، وأفشى له بسر العين والقناة، وبعد أن وصل الشاه إلى العين، وشرب من مائها بكأس ذهبية، سأل الواشي:
“- لِمَ خُنتَ ذاك الرجل الكريم والشجاع؟
– ماذا كنتَ تريد أن يمنحك؟
– لِيدُم مليكي! كنتُ أريد خدمة مليكي.
وإن أراد مليكي أن يكافئني،
فلا أريد غير أن يمنحني گُلبُهار”( ).
أمر الشاه بقتل الواشي لخسته ونذالته، وبذبح عدد من الشياه وخلط دمائها بمياه العين.
تفاجأء سكان القلعة باختلاط الدماء بمياه العين، واضطربوا، إلا أن الأمير طمأنهم بأن ثمة في القلعة مياه مخزَّنة، تكفي لحين وصول الإمدادات من العشائر الكردية. ولكن الحصار طال، وبدأت المؤن والمياه المخزنة تقترب من النفاذ، والإمدادت لم تصل.
جمع الأمير رجاله وبثَّ فيهم روح الحماسة للدفاع عن القلعة، فهذا خير من أن يحتلها العدو، ويراهم يحتضرون جوعاً وعطشاً، ويدنس شرفهم وكرامتهم. ثم التفت إلى زوجته التي كانت قد ولدت توأمين. ويجري هنا حوار مؤثِّر بينهما، يؤكَّدان فيه سموَّ حبهما، ويوصيها أن تعنى بولديها وأبناء العشيرة، ليسيروا على دروب آبائهم:
” – جميلتي! وُلِدتِ لتعيشي حرة على قمم الجبال.
وَلَدْتِ شبلين. استأنسي بهما.
وإذ تكون القضية قضية شرف وكرامة.
أعرف كيف تتصرفين.
لا تنسَيْ هذا اليوم طالما تعيشين!
ربِّي أولادنا، كي يعرفوا شهامة آبائهم.
– امضِ يا ليثي شاهراً سيفك، وأنت مفعم بالحب.
من كان مفعماً بالحب، لا بد أن ينتصر.
امضِ! فَدَتْك نفسي.
سأرضع ولديك لبن الرجولة والشجاعة.
قسماً بسيفك أن أذيع أخبار شجاعتك.
وأحفظ شرفك. فداك عمري “( ).
ثم أشار الأمير لرجاله بإخراج النساء والكهول والأطفال من القلعة، من خلال بوابات سرية، ليتوجهوا نحو عشيرته في الجهة الأخرى من الحدود.
وعند الغروب، باغت الأمير ورجاله قوات الشاه، وجرت معركة طاحنة بين الطرفين، إلا أن قوات الشاه كانت أضعافاً مضاعفة لعدد رجال الأمير، ومع ذلك أبدوا شجاعة منقطعة النظير، و قتلوا عدداً كبيراً منهم، وحين مالت كفة المعركة للشاه، لجأ الأمير بمن بقي من رجاله إلى الجبال، ولم تتمكَّن قوات الشاه من أسْر أيّ منهم، وحين دخل الشاه القلعة لم يجد سوى آثار الخراب والدمار، لأن الأمير كان قد خطط لكل شيئ قد يحدث، وكان حرصه الشديد جعله يضع طريقة متقنة لتفجير القلعة عند الضرورة، كي لا يستفيد منها الأعداء.
تروي هذه الملحمة إحدى قصص كفاح الكورد بقيادة الأمير / الخان ذي اليد الذهبية ضد الشاه الصفوي عباس الأول، وقد حفظتها ذاكرة الشعب الكردي وهو يرويها من جيل إلى جيل، وهذا ما دعا عالم الفولكلور الكردي الدكتور أورديخان جليل إلى القول إنها “من نتاج جموع الشعب، وهي مثال لكفاح الكرد البطولي ضد عبودية ملوك إيران “( ).
إنها تحكي قصة البطولة التي أبداها الكرد في الدفاع عن القلعة في مواجهة الجيش الفارسي قبل ما يزيد على أربعمائة عام. يقول الدكتور جليل جليل ” الموضوع الرئيسي لهذه الملحمة هو تصوير بطولة الشعب، وارتباطه بأرضه ووطنه، بالإضافة إلى تصوير وحشية الأعداء التي جعلت الكرد أكثر تعلُّقاً بأرضهم، ومقاومة العدوان تعبيراً عن نشدانهم الحياة الحرة السعيدة. كل هذا يشكِّل البنية الفكرية التي قامت عليها هذه الملحمة. “( ) ففي مشهد بطولي يقول الخان ذو اليد الذهبية، بطل الملحمة للشاه:
” لن يخضع أبناء شعبنا.
إنهم ينتظرون العدو في الميدان.
إنهم يقاتلون كالأسود.
ويقطعون العدو إرباً إرباً.
لن نخاف جندك.
ولن نخاف خان تبريز.
البطل لن يهرب من النزال.
نحن لا نخاف، ولن يوليك شعبنا الأدبار.
لن يترك شعبنا الجبال.
لن أقبِّل تاجك.
ولن أسيئ إلى سمعة كردستان “( ).
هذه الملحمة ليست من نسج الخيال، بل تستند إلى وقائع تاريخية حقيقية هزّت مشاعر الأدباء الشعراء والباحثين الكرد، وحازت على اهتمامهم في العصر الحديث أيضاً، فاستلهموا من أحداثها قصصاً وروايات. لعلّ الروائي الكردي، الذي يعتبر أب الرواية الكردية عرب شمو، يأتي في مقدمتهم بإصداره رواية ” دمدم ” عام ( 1965 ) في يريڤان، كما استلهمها شعراً الشاعر فيريك أوسيڤ في يريڤان أيضاًـ( ) وكنا قد أشرنا سابقاً إلى أن أورديخان جليل كان قد جعلها موضوعاً لأطروحته لنيل درجة الدكتوراة عام ( 1967 ).
————————————
([1]) يتحدث جان كرد عن
بعض هذه التغييرات التي كانت بتأثير الإسلام في بعض الملاحم الكوردية. انظر:Ji çanda gelêrî
kurdî. Weşanên Sersera, çapa
yekem, Berlin 2019, rû 19,
20.
بعض هذه التغييرات التي كانت بتأثير الإسلام في بعض الملاحم الكوردية. انظر:Ji çanda gelêrî
kurdî. Weşanên Sersera, çapa
yekem, Berlin 2019, rû 19,
20.