الفنانة دلين د. عبدالفتاح علي بوتاني وحِرَفية الأنامل الناطقة

إبراهيم محمود
كيف تمكَّنت الفنانة دلين د. عبدالفتاح علي بوتاني أن تتغلب على ماضيها الذي عاشت مرحلة حساسة منه تقاوم الآلام الناتجة عن مرضها وهي في عمر الخامسة، وهي تتنقل بين عيادات الأطباء المختصين بين الموصل ” هي من مواليد الموصل 1980 ” وبغداد،وعلى مدى ثماني سنوات، لا تسمع ولا تستطيع الكلام، ولتخسر سنّي دراستها كأخوتها وأخواتها، ثم تدخل مدارس ذوي الاحتياجات الخاصة، وتستعيد نشاطها النطقي والسمعي نسبياً،وتصبح رغم ذلك منتجة حياتياً ؟ ولتمارس حياتها، محوّلة ألمها إلى قوة منحتها موهبة فنية وثقة عملية بنفسها ؟
إن ما هو مرفق كتابياً بمجموعة من لوحات مصورة لأعمال يدوية في البروشور المتعلق بمعرضها الفني الشعبي في محل ملك للورد  ” كُلخانا ملَك ” في دهوك، اليوم، الخميس في 20-10-2022، يحفّز الذين حضروا معرضها وهم في الأغلب أكاديميون وأصدقاء الدكتور، والباحث الأكاديمي المعروف بمؤلفاته الموثقة والدقيقة عن إقليم كردستان- العراق خصوصاً، وآخرين لهم مواقعهم الاجتماعية، ومن حضروا مع عائلاتهم، وصديقات الفنانة دلين وعائلتها، 
مع الفنانة دلين د. عبدالفتاح علي بوتاني
“مكتوب أسفل هذه اللوحة، بالكردية، أن دلين أمضت ستة أشهر، حتى أنجزتها بالخيط والإبرة “
لأن يربطوا بين طبيعة الأعمال المنفّذة وشخصيتها، وهي متنوعة، تراوحت بين أشكال مسطحة، ونافرة، بين أشكال عدّل فيها بالتطريز، ولوحات بالخيط والإبرة، وزخرفات، تذكّر في الحال بما هو فني يدوي، ويحتفى بها في التزيين المنزلي والمكتبي بصورة خاصة، وتلوينات لأشكال، ما يليق بطاولة المكتب أو غرفة الضيافة أو غرفة النوم، أو المطبخ. أو من خلال التنوع في الأشكال وفي أحجامها بالمقابل، ووالاستخدامات اللونية التي تضفي على الجسم المعرَّض للتغيير جراء تغليفه بمادة تطريزية، أو نقشية، أو تلوينية، طابعاً من الإيماءة الفنية المتجاوبة مع ذوق الفنانة، ومعرفتها لما هو متداول في وسطها الاجتماعي وكيفية الاستفادة من كل ذلك ، وقد آثرت تصوير بعض من صنيع أناملها المتبصرة،وإرفاقها بمقالي التعريفي هذا!
أنوّه هنا، أني أتحدث عن تجربة لها خصوصيتها، وصلة التجربة هذه بما هو معروض وأثره القيمي: الفني- الجمالي، ومدى انعكاس تأثيره على ما هو نفسي، في محيطه الاجتماعي طبعاً !
من المؤكد أن ليس في الإمكان تقديم تفسير أو تحديد معنى محدد للمرئي، من قبل أي مشاهد، متفرج، أو متمعن في المشاهد الزخرفية والفنية الشعبية، وهي تحتل فراغات هندسية محتسبة في فضاء المعرض، مما يعطي كل لوحة بُعداً ما، وهي تحمل مجموعة أشكال مفردة ومتعددة ” متدلاة ” دائرية، ومربعة، عشية، ومفتوحة، وذات حافات مزنرة، ومزركشة، ومطعمة بما هو متوفر ” رسم أشكال من حبات القهوة ، مثلاً “، مما يعني مدى رحابة متخيل الفنانة، وإحاطتها بعالمها الذي ضم كل هذه العناصر المتقابلة. نعم ليس في إمكانه، ذلك عائد إلى ما هو شعوري متعدد الأبعاد من قبل دلين من جهة، وإلى ما لا يمكن تحديده دلالةً حتى من جهتها، من جهة أخرى، تعزيزاً للفاعل اللاشعوري، وما يصلها بماضيها، ومعايشتها لحيوات نفسية لا تُسمَّى .
هذا التجسيم المتنوع لأشكال أو أجسام أو هيئات بارزة، ومختلفة، يعطي انطباعاً عن طموح لافت، وهو نفسي، وبملامح جلية، من قبلها، لأن تظهر ما هو مؤثر في عالمها الدهوكي .
دلين، من حيث الأشكال والألوان والمواد التي جعلتها عناصر أسهمت في بلورة عالمها الفني: المعرضي، إن جاز التعبير، في تجربتها هذه، وهي من خلال عالمها النفسي- الجسدي، وانطلاقاً من ماض حي بالنسبة إليها، تستطيع أن تقول من خلالها، ما يرفع من قوامها الذهني- النفسي، ما يجعلها تستشرف مساحة واسعة من عالمها، من باب تأكيد الذات .
يمكن للأنامل ” أناملها ” وقد أسهمت كثيراً في ترجمة جوانب تخيلية: نفسية لديها، إلا واقع متمثل في قائمة المعروضات الفنية “، أن تتحدث عنها، أن تبث المتابع لها ما لديها من قدرات، وما يمكنها أن تقوم بها، تعبيراً عن تلك الإرادة التي يسهل التأكد من تماسكها، وهي تفصح عن مدى أهلية الإنسان في وضع كهذا، لأن يعوّض عن كثير مما فات، وفي الوقت نفسه، عن إبراز قوى كامنة في النفس، لا تتردد في دعم حاملها، ولفت أنظار الآخرين.
يمكن للعمل الجامع بين ما هو فني: لوني، وتطريزي، وحِرَفي، أن يشكل أكثر من عامل تحفيز للشخصية، أن يستغرق مساحات فراغية واسعة، بأكثر من معنى. فاللون ناطق على طريقته، والشكل هو الآخر ناطق على طريقته، والفراغ بدوره، ومن خلال التجاور، والفصل، بدوره ناطق على طريقته، وحتى اللوحة الحاملة لمجموعة أشكال زخرفية ناطقة على طريقتها.
هناك ما هو فني، ربما يخفي جماليته داخله، أو في علاقته بمجاوره، أو بالبعيد عنه، في لوحة خاصة به، أو مشترك مع سواه، جهة اشتراك جميع الأعمال المنجزة في فكرة واحدة، وهي ذوقية، أو فنية، أو جمالية مشدودة إلى أنامل الفنانة، واهيتها معان، أو  مطلقة عبرها دلالات تثير مشاعر وأحاسيس متنوعة: بصرية، وذات إيقاعات يسهل معايشتها من الداخل: موسيقى صامتة لكل شكل، أو زخرفة. وليس من جسم يقف مركوناً إلى جماديته أو صمته، بمقدار ما تتشارك الأشكال والألوان جميعاً في تلك اللعبة الفنية: صنعتها، والمرتبطة بمتعة روحية .
ومن المؤكد أن معاينة هذه الأشكال المعروضة من قبل المتفاعل مع ما هو فني أصلاً، أو ما يكون منصوباً باعتباره حامل دمغة فنية،تتجاوب مع المتهيأ نفسياً لذلك. فليس هناك ما هو مجرد من مسحة أو لمسة، أو إيماءة فنية، وللعين أن تقرر ذلك، وللأذن أن تتخيل أي موسيقا تكون مرفقة وبصمت، مع كل شكل معروض، أو أي عمل زخرفي مأخوذ بمأثرة فنية: أناملية .
تُسمّي المعروضات أي علاقة ذوقية تعرَف بها فنانتها، وأي  مكاشفة فنية لها لما حولها، حيث تنتقل إلى مستوى الشاهد على ما هو مشهود له، وما في العلاقة هذه من حميمية وجدانية !
هنا، في مقدوري أن أركز على ما هو مهم جداً، على وقْع مشاهدتي لما رأيت في المعرض الفني لديلين، ومن خلال تجربة حياتية مرسومة بالكلمات في بروشورالمعرض، حيث أشير بداية، إلى تأثير العامل النفسي، إلى إرادة التحدي والاستجابة، كما يقال، الإرادة التي تعلّم أياً منا، أن هناك دائماً ما يرتقي من شأن الإنسان، من مقامه، لحظة إصابته بمرض ما، أو تعرضه لخلل عضوي، وما شابه ذلك، حيث العضوية تتسع أو تتعمق أو تأخذ مساحة أخرى غير مرئية ومعاشة إلا من قبل المصاب أو المعاني، وأن رد الفعل الداخلي يترجم نوعية الإرادة: قوة أو ضعفاً، سمواً أو بساطة، فيما يجري إبرازه فنياً أو خلاف ذلك. لا تعود العضوية مدرَكة وموصوفة من خلال المرئي أو الحسي، باختصار، وإنما من خلال تشغيل ميكانيزم القوى الخفية أو الكامنة، والتي تتجاوب مع نبرة الرغبة الطامحة، وعنفوانها وجرأة المجابهة، كما لو أن الجسد بمفهومه المادي يتراجع إلى الوراء، ليتقدم، وقد أكسِب ذلك المدد المعنوي والذي يحيل الجسد المعتبَر معطوباً أو عاجزاً في جانب منه أو أكثر، إلى  اللامتوقع منه روعة .
يعلّمنا التاريخ بذلك، في مختلف مجالات العلوم أو المعارف وأنشطة الحياة، وفي الفن يكون هناك أكثر من نموذج، نظراً لأنه مدغم بما هو نفسي وعميق، ويستند إلى ذخيرة حياة، يمكن أن تستجيب لنداء الرغبة، والتحول إلى قوة غير مسبوقة تفاجىء حتى صاحبها والمحيطين به، لحظة لمسها، وأحسب أن أحدنا في هذه النقطة الحساسة والمكتشفة، يدرك الفارق الكبير بين ما كان عليه المرء قبل وبعد ذلك. أي ما يكونه الفن البصري من قوة إحياة لما روحي وتمتينه .
بعيداً عن الاسترسال، وفي العودة إلى معرض الفنانة المقتدرة والموهوبة دلين د. عبدالفتاح علي بوتاني، يسهل التأكيد على أنها تلمست من أفراد عائلتها، من والديها، بداية، ومن شخص والدها قبل أي كان، ذلك الاحتضان الروحي، والرعاية والعناية، وبقية أفراد العائلة، لتشعر بشخصيتها وتنميتها، حتى في الحالة التي عرِفت بها، وما ذلك من مأثرة تربوية واجتماعية، يمكن لها أن تتعمم أو يستفاد منها اجتماعياً قدوة، وما في هذا الدرس الفني، من اعتبار جدير بالتقدير .
في معرض الفنانة دلين، ثمة ما يستشرف مستقبلاً واعداً أكثر، وثمة ما جرى سماعه ورؤيته من خلال أعمالها المنجزة على طريقتها، والتأكيد على أن هناك أكثر من أسلوب للتعبير عن الذات، أكثر من سياسة تعامل مع المحيط الخارجي، وأكثر من  طريقة للإبداع  وتفعيله ! 
دهوك- 20-10-2022 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…