عبدالعزيز قاسم
لقد ركز الأديب والفيلسوف والشاعر الكردي أحمد خاني (1650-1707) في قصيدته المعنونة: آلامنا ”دەردێ مە“ على المسألة القومية، وعلى ضرورة وحدة الأمة الكردية للخلاص والتحرر، وبناء دولته القومية:
«گەر دێ هەبووا مە ئتفاقەك ڤێکرا بکرا مە ئنقیادك
روم و ئەرەب و ئەجەم تمامی هەمیان ژ مەرا دکر غولامی
تەکمیل دکر مە دین و دەولت تەحصیل دکر مە علم و حکمەت».
ولقد أشاد الكثيرون من الكتاب والباحثون في الفكر القومي بأحمد خاني لدرجة أن أغلب الأدباء والشعراء الذين ظهروا بعد خاني لم يضيفوا شيئاً جديداً يُذكر في الفكر القومي، وخاصة في ما يخص ضرورة الوحدة القومية الكردية والدعوات التي تلته فيما بعد، إنما جاءت كتأكيد وتكرار لما قاله خاني، ولقد أدرك بحِسه القومي في توظيف الأدب بشكل كبير في معركة الوجود المصيري آنذاك ولاسيما إثر تصارع كل من الإمبراطوريتين الفارسية والعثمانية على أراضي كردستان:
“تاسەک ژ ڤێ ئاڤا زەلال نادم
ب حەوزا کەوسەرێ
لەڤهاتنا قەسەرا شیرین ژێ نابینم تو مەفەرێ
پشتی رۆژا مە بو تاری مرن خوەشە ژ عەمبەرێ”.
و حسب النّقاد فأن رائعته «مم و زين» مثّلت بدايات الوعي بالفكر القومي الكردي، وبداية الرغبة في تأسيس دولة قومية كردية.
من خلال دعوته للوحدة بين كل الكُرد ونبذ الخلافات البينية بين الإمارات الكردية المتناحرة وإلى اليقظة لِما يحاك ضدهم في الخارج، وكما هو معلوم، فالأدب يتبع اللغة ولقد أدرك خاني ذلك منذ أكثر من ثلاثمئة سنة مضت، وبالرغم من إتقانه ومقدرته على نشر أفكاره وقصائده بالفارسية أو العربية لكنه كتب معظم قصائده بالكردية.
و في قصيدته «لماذا كتب خاني مم و زين بالكردية)؟ قائلاً: لأنه وجد نقصاً في المعرفة وخلو الميدان منه، كما يقول :
«خانی ژ کەمال بێ کەمالی مەیدانا کەمالێ دیت خالی»،
وكذلك کما قولە:
«دا خەلق نەبێژتن کو ئەکراد بێ مەعریفەتن بێ ئەسل و بنیاد»؛
أي إنه كتب بالكردية لكي لا يقال أن الكرد لا يملكون المعرفة وليس لهم لغة أو أصل، وهو يذهب أبعد من ذلك، وعلى الرغم من أنه ذكر العديد من الفلاسفة ك: طاليس وأفلاطون في قصائده، إلا أنه أراد إظهار الأدب الشفهي الكردي من أقوال وحكايات أجداده مصدراً للعلم والمعرفة، إذ يقول:
«ئەز پیلەوەرم نە گەوهەریمە
خودروستە مە ئەز نە پەروەریمە
کرمانجم و کوهی و کەناری
ڤان چەند خەبەرێد کوردەواری»؛
أي «أنا شخص ريفيّ ،جبليّ ولأكون صادقاً، أنا لست محترفاً وكل ما أملكه هي بعض الكلمات الكردية»! وهكذا قدم خاني نفسه كرجل ريفي بسيط نشأ بين الجبال والوديان وجمع قصائده من أفواه القرويين الكرد.
فالأدب الشفوي أو الشعبي بإعتباره مكوناً أساسياً من الثقافة، ولأنه يعتمد على اللغة المنطوقة فإنه يحيا فقط في مجتمع مفعم بالحياة، ولقد كان المجتمع الكردي آنذاك مفعماً بالحياة وكان جلّ الأدب الكردي آنذاك شفوياً كالملاحم الشعبية والفولكلور والأمثال والأغاني الشعبية والأساطير…
وفيما بعد وإثر تدوين وكتابة الأدب الشفوي ظهر الأدب المكتوب.
ولقد وصل ذلك القروي خاني فيما بعد إلى مرتبة عظماء ومشاهير الشرق، وكما أسلفت في متن المقال وأنه كان بمقدوره أن يكتب بالعربية أو الفارسية وربما بشكل أفضل من لغته الأم لكنه كتب «مم و زين» بلغته الكردية واتخذ من القصة مدخلاً كي يعبّر بها عن أفكاره وأهمية الاهتمام باللغة القومية، وحيث أنه يمكن للأدب أن يتقمص مختلف الأزمنة فهو «ثلاثي الأبعاد» يحضر في الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا ما ادركه خاني، حيث أنه من خلال الرواية والقصة يسافر الأديب في عالم الزمكان، فعاطفية الأدب ومشاعره الإنسانية، وسعيه إلى تخليد الأفكار عبر الجماليات التي تميز الأدب فالزمن له علاقة وطيدة بالعلم والأدب، ولقد أدرك الأديب ذلك، فوصل بالأدب الكردي الشفوي إلى أعلى المراتب في الأدب الشرقي، وحوّل خاني القروي البسيط الحكاية الاسطورية والشعبية «ممي آلان» إلى ملحمة إبداعية وأدبية قلّت نظيرتها، وبهذه الطريقة تحولّت قصة «ممي آلان» من خيالية في الأدب الشفوي إلى ملحمة أدبية مكتوبة، وباتت من أروع الأعمال الأدبية الكلاسيكية الشرقية وعنواناً للأدب الكردي الكلاسيكي المدون:
«شەرحا غەمێ دل بکەم فەسانە
زینێ و مەمێ بکەم بەهانە
نەغمێ وە ژ پەردەئێ دەرینم
زینێ و مەمێ ژ نو ڤەژینم».
فالأدب الشفوي الكردي حافلٌ بمئات القصص والحكايات والأساطير، تلخص الجوانب المعرفية وتدّون الأحداث اليومية والتاريخية، ويستطيع الكتّاب والقاصون والروائيون السينمائيون والشعراء الكرد وبرصد أسلوب خاني، الاستفادة من ذلك الأدب وإعادة صياغتها في قوالب الكتابة الأدبية وبالتالي اتخاذ الأدب الشفهي الكردي مصدراً للتاريخ أولاً، وأساساً للأدب الحداثوي.
وللأسف وكما يبدو لي واليوم فإن معظم الكتّاب الكرد وأخص بالذكر في «ڕۆژاڤای کوردستان» يكتبون بالعربية، وأما عن أولئك الذين يكتبون بالكردية وبكردية غير صحيحة قواعدياً وإملائياً، ومن غير إدراك حتى بقواعد اللغة الكردية، وبدون قراءة قصائد ملاي جزيري وفقي تيران وأحمد خاني سيظلّ هؤلاء الكّتاب برأيي بعيدون عن الإبداع والإثراء اللغوي كثيراً…
ورغم أنه في أيامنا هناك روائيون وشعراء قد نشروا وحرروا أعمالاً كتابية تتجاوز الأربعة أو الخمسة أو الستة، وحين تقرأ كتاباتهم فلا تجد غير التكرار والنسخ، لا من جديد أو إبداع، هي تشبه الثرثرة كما يقول خاني في قصائده:
«هەرچەند کەلام شبە دوڕبت
بێ قەدر دبت دەما کو پڕبت
نابینی ب قیمەتن جەواهر
لەورا کو د هندکن د نادر».
و كما أسلفتُ فخاني بحسه الأدبي المرهف وعبقريته يجعله حياً بيننا ومصدراً للمعرفة والأدب الكردي، والذي عبّر في قصيدته قبل أكثر من ثلاثمئة وخمسين عاماً عن مشاكل الكتّاب الكرد والذي ينطبق على واقعنا الثقافي والأدبي المعاصر، أدب منسوخ يحبو على أربعة، مقولب ضمن قوالب جامدة، وكأن: الكتابة بخط النسخ أو الثلث هو إبداع ! متناسين أن الأدب هي رسالة سامية، ومسؤلية ودعوةٌ للحداثة والتغيير لواقع أفضل وأرحب:
«هندی وەکو خەط غوبار و هورە
ئەو خەط ژ لەطافەتێ نە دورە
گاڤا کو ژ رەنگێ مەشقی پڕبو
یا شبهەت نەسخ و ثولثی گربو
ئەو ناسخێ نوسخەیا جەمالە
بێ رەونەق و روهنی و کەمالە».
و أما «كتاّب الصدّفة»، الذين يمتهنون أسلوب النسخ واللصق… ولاسيما إثر تطوّر وسائل التواصل نتيجة ثورة الانترنيت… وبالإطلاع على أعمالهم، فيعدُّ أدباً رخيصاً لإنها تعدّ سرقة أدبية بلغة الأدب وأعرافها، فهي مجرد نسخ أو لصق دون ذكر الاقتباس أو الاستشهاد بمصادرها الحقيقية… وهو أسلوب لا يصنع الأدباء، وأوضح وصف لهم ما كتبه عنهم الكاتب عزيز نيسين موضحاً شعور الغطرسة والخيلاء، عن ذاك الكلب الواهم والمتبختر والذي يمشي بظل العربة، ظاناً منه أن ظل العربة إنما هو ظله!!
و ختاماً وحتى لا نبتعد عن صلب مقالتي هذه، وكما أسلفت سابقاً فالأدب، رسالة وأمانة وإلتزام وحس مرهف لواقع يعيشه الأديب ويسعى لتغييره ولقد كان «خاني» أدبياً ملتزماً بقضايا أمته، يحمل بين جنباته همومها وآلامها، وبتطلعاته التنويرية والاستباقية لعصره جسّد مقولة الأديب يسبق الأحداث بحسّه، وتلك الصفات والسمات جعلت منه أديباً حياً لا يزال بيننا بأعماله المتميزة والآثرة ليضعه نقّاد الأدب والفكر في مصافي أدباء الشرق الكبار وشعرائها.