سوسن اسماعيل
“في النهاية، ليس لدي خيار آخر سوى الكتابة، لستُ صاحب الخيار المطلق لوضع نهايةٍ لكلّ حدث، لم آخذ الحالة كطبيب نفسي؛ لأعيدَ بها للبدايات من جميع جوانبها وظروفها، لم أجد نفسي سوى مكلّف من الوجدان، أن أصلَ لأبعد قدر ممكن من الحالة النفسيّة لشخصيات الرواية، وآخذ الفكرة بشكلها ومدلولاتها وحالتها بدافع إنساني بحت”
بمقدمةٍ تمهيديّة ــ كما أطلقَ عليها الراوي/ الروائي نهاد تمر ــ بـ “مقدمة لابُدّ منها”؛ يثيرُ الروائي تفاصيل عدّة مشحونة بالوجع، القهر والأسئلة، دونَ أن يوضحَ كلّ الحقائق، إنّما يرمي إليها بين السطور، أفكار تتأرجح في عمق هذا الحوار الدائرُ لدى الشخصية/ الراوي، أفكار تتشرذمُ في حيواتها،
ثمّة مصير غير واضح عمّا يدور في هذا الاشتباك الحاصل بين الراوي ومن حوله، أو ربما خوف طارئ وقلق يهجمُ عليه وعلى مُخيّلته، تساؤلات كثيرة تُراودُ الشخصيات خلال الأحداث في الرواية، ولكن ما يبعثُ على شيء من التصالح والسكينة؛ إنَّ القارئ لأحداث الرواية سيتفهم كلّ الأسباب التي أحاطت بالشخصيات، والتي دفعتها إلى ما هي عليه، الشخصيات التي تتحرك ضمن زمكانية محددة، فالتاريخ حقيقيّ والفعل واحد طيلة كلّ هذا السنوات.
ولأنَّ أيّة قراءة أدبية تبدأ بتشريح العنوان، على اعتباره أنّهُ بادرة الكلام والرؤيا، كان العنوان الذي بينَ يديّ، يسدُّ صورته وهيئته بستائرٍ تُخبئ الكثير من الأسرار خلفها، أو ربما حقائق قد نعلمها، والبعض الآخر لما يعلم بعد ..!!
يُقالُ بأنَّ النقد يؤسّس السلاح الأقوى ضد أيّ قراءة ساذجة، وعليه فالقراءة في رواية “عذراء تُوّجت بالرّماد”، القائم على عنوان، يمكنُ تصنيفه على أنّهُ مُراوغ، والإحالات فيه متشعّبة، إذ لا يمكنُ لأيّ كاتب إلّا وله مقاصد من وراء اختيار العنوان، وثمّة رابط أكيد يجمع بين العنوان والنّصّ، “لذلك يجهدُ نفسه في اختيار عنوان يلائم مضمون كتابه لاعتبارات كثيرة”، حيثُ العذراء هنا؛ هي البلاد نفسها ــ مدينة الحبّ ــ والتتويج حاصل لا محالة، والرّماد كان نصيبُنا نحن التائهون وقتها، أصحاب المُدن التي شُيّعت، ليطال الرّماد نفسه بعد سنوات طويلة سلطة ضعيفة تفرّعت للأقوياء.
المغامرة في الرّواية تبدأ من العنوان العتبة إلى كلّ العناوين الداخليّة التي أسندَ إليها الراوي الكثير من القهر ولطخها بالرماد الذي لا يغيبُ، هي عناوين بُنيت على المعرفة التي نخلقُ منها تحليلنا وقراءاتنا، ونُشكّلُ عليها السّرد القائم على زوبعة من الإيحاءات والدّلالات المغموسة بالفقر والقهر. وما الرّماد هنا إلّا نتاج الحريق الذي لا يقفُ، فإلى أيّ مدى يتوافق ويتلاءم العنوانُ في أوّل الرواية مع المتن، المتن الذي لا يتبدى إلّا بعد قراءة النصّ والانتهاء منه.
حيث بلغة جامعة بين الشعرية والسّرد والوصف، يترك الراوي/ الروائي الرماد يلفُّ على وجوه شخصياته، في غيابٍ غير واضح للفوارق الأسلوبيّة في تقنيات الكتابة وقوانين الرواية، فلا يبرح إلّا ودمغته على صفحة الكتابة الروائية، وما يجعلُ الرواية في خانة الاهتمام والمتابعة، هي العناوين التي يُفتتحُ بها الرّواية، إضافة إلى الفكرة التي يتطرقُ إليها، هي قصة المدينة التي طُعنت ــ وما زالت ــ مدينة كانت تعيش السلام في بيوتها الطينيّة وشوارعها المُـعتمة “في الحيّ الشرقي من الناحية الصغيرة، وفي حيّ العشوائيات كما كان يُسمى، يكون بيت صبري الترابي، بيت طيني تقليدي كسائر البيوت التي غالباً ما تكون متشابهة”، مدينة للحبّ وما زالت، ولكنها تُتوّجُ رويداً رويداً بالرّماد، قصة الحبّ التي تغيبُ وراء جدران طُمِستْ، وكادت تسقط من وهنها وفقرها، قصة الكُردي المتأزّمُ، قصص بقيت سجينة البلاد والمدن، سجينة دُور الكلام ودروج الساسة، قصة الأرض وأصحابها، المكان الأصح أو الحقيقة التي يرفضها الكثيرون، إنّها المدينة التي تحملُ عبء وأسرار الظمأ والنزوح لأهلها، الذين طالهم التشرد في أنحاء المدن والعواصم، وأصحاب الأرض هم المجموعة والقوى الفاعلة الأبسط والأضعف “صبري، سيف، فضيلة، جوان، هالة”، في مواجهة قوى فاعلة لا تملك إلا البطش لأنّها الأقوى “رياض، صفوت المخبر”، فكان التغيير الديموغرافي المقصود “شاحنات كثيرة مليئة بالبشر تسيرُ على طريق طويلة وبعيدة، إنهم قادمون إلى أرض جديدة ليستوطنوا فيها، ويسلبوا تاريخها وخيراتها. إنّهُ واقع جديد ومؤلم، لقد استوطنوا أرضنا”، فالعلاقة التي تجمع العذراء مع هذه البلاد، هي علاقة الأبديّة المُطلقة التي جمعتهما على حدود تماسها الغربة وفقدان الهويّة، في مقابل آخر يجمعها على تلاحم وانعكاس مرئي في تفاصيل الأحداث وشخوصها “في مقهى أمينو يجتمع عامة الناس، وشرائح مختلفة من المحترفين والأقوياء والضعفاء والمقامرين والمستأجرين والطائرين إلى السماء بقصصهم الخيالية”.
مجموعة العناوين المركبة التي وزعها الروائي على كامل النّصّ الروائي، تكشفُ عن الصراع الذي يدور في أحداث النصّ، و حبكة الرواية، فيجدُ القارئ مثلا “البلاد المتوجة بالرماد، اللعبة المدمرة، مسار اللعبة، رماد يرفرف عاليا، انكسار المزهرية، متأوه يداعب أصابع اللصوص”، إضافة إلى التضاد والمترادفات التي يمكن أن يصنفها القارئ في العناوين الفرعية للرواية ومنها “جيوب مفرغة مهزومة، هبة ثمينة عندما ينتهي الوقت، المناجاة (سكينة الحياة وهبوط الموت)، غيبوبة سكران عند شجيرات يابسة، تجانس المساء يبدد الظلام”، ليكونوا جميعهم في النهاية ضحايا هذه الصراعات التي بقيت بلا جدوى. ولكنها تبقى عناوين لا يمكنها أنْ تتشكّل على الاختلاف الكلّي عن متن النصّ، فلابُدّ من وشائج تربط الجميع معاً في نقاط التقاء ملموسة. ولأنَّ المدن والأمكنة في العموم؛ تساهم في تشكيلِ الوعي لدى أفرادها، لا يمكن للقارئ إلّا وينتبه لشخصية “همرين” في الرواية، الشخصية المُتخيّلة، التي تغيبُ وتحضرُ، ولكنها الشاهدة على الواقع المؤلم الذي تعيشه الشخصيات، ولا سيّما صبري/ بطل الرّواية/، المدن التي تحملُ من ملامح شخوصها المختلفين الكثير من صفاتهم وأوجاعهم، فحملت معهم غربة الرّوح واللغة وعوالم ليست تخصّها، وكأنّ سكانها الأصليين تحوّلوا إلى منفيين إليها “إنَّ الخوف الذي زرعه في قلوبهم رجال الدين والأنظمة الفاسدة سبب طبيعيّ لجعلهم يدخلون في غيبوبة عن الواقع لساعات كأبي داوود السكران، فهو يريد أن يفقدَ عقله في كلّ الأوقات بشربِ الخمر” “، لتبقى “همرين” الخيال الأقوى في الحكاية الدائرة، حكاية الرغبة في الهروب والآمال الضائعة “لا يمكنُ أنْ يفكّ أسره من همرين التي تجتاحُ عالمه دون استئذان وتحوّله إلى رجل كئيب وتتحوّل الأشياء من حوله إلى كوابيس”.
ربّما سؤال يتبادرُ في ذهن القارئ، ولن يغيبُ عن المتلقي الفَطِن؛ أين تحتجبُ همرين وما دورها في هذه الحكاية، أهي السلطة التي تريدُ أن تغوي شخوصها، أم أنّها الحبّ القائم أصلا على العدم أو من العدم صُنعتْ، أمّ أنّ “همرين” هي أصل الرّواية قبل أن تحضر، وما هو وجه العلاقة التي تربطها مع صبري، لتبقى الأسئلة عن بنية النّصّ وشخوصه مُحقة في التداول والقراءة.