توقيع سريع في كومين الحي…

ماهين شيخاني

كالمعتاد ، نهض الأستاذ ” المتقاعد ” قبل بزوغ الفجر وتوجه إلى مركز توزيع الخبز القريب من شقته، الى حيث منزل جاره العضو الإداري في ” الكومين “، فاليوم هو السبت، ويتجمهر الناس ضمن أرتال بشرية، بسبب عطلة يوم الجمعة للمخابز .
  ثمة بضع أوراق تنتقل بين الأيادي ، يترك المتجمهرون أسماءهم وتواقيعهم بين قوائمها. تَذَكَرَ اقتراحه البارحة لجاره الكوميني، عندما التقاه في الطريق وهو يناديه، جار لو سمحت لحظة من وقت ، فرد  عليه من غير تكلف، تفضل:
– جاري، أود استشارتك في أمر مهم  لأرى بماذا تقترح علي، فاليوم تشاجرنا أنا والجيران لأجل الخبز، ماذا أفعل …؟!!. الخبز الذي يرسل لي وعليَّ توزيعه ،لا يغطي حاجة  سكان الحارة ، فمن أصل ثلاثمائة ربطة خبز مطلوبة، تأتينا مئتان وعشرون  ربطة خبز فقط. هناك نقص يومي كبير.
– لِمَ لا تطالبون باستحقاقكم كاملا؟ خذوا قوائم أسماء كومينكم وبالأرقام والعناوين، قدموها للمعنيين، أعتقد ستنحل المشكلة ، و اعتمد على هذا الرقم واستلم مبلغك كيلا تخسر، وحدد موعد الاستلام بساعتين كاملتين، بعد وصول السيارة   إلى مركزكم ، فلو فرضنا  أنها تصل في السابعة، حدد زمن البيع , حتى الساعة التاسعة مثلاً،  ومن لم يأت خلال هاتين الساعتين، تصرف بها كيفما شئت، على راحتك.
– يعني عليَّ أن أعتمد على تسجيل الأسماء أولا؟
– أي  نعم ..؟!!.
عندما رأى الورقة تنتقل بين الأيدي، إلى أن وصلت بالقرب منه ، قال في نفسه ، إذن ..اقتراحي مرحب  به، فقد سلموها لي وقالوا :
اكتب اسمك ووقع ، استلم القلم والناس. الرجال والنساء والصغار ينظرون إليه باهتمام . كتب اسمه و وقع ، لكن انتابه شك في  أمر مضمون تلك الكليشة الطويلة ، فلم يدقق ، و لسوء الحظ ، نظارته لم يكن يحملها معه ليقرأ ما بين السطور . اقترب منه أحدهم. قال له صباح الخير: : دَوِّن ، من فضلك  اسم شخصين، اسمي واسم أخي ، نحن من سري كانيي” رأس العين” ، جاءه آخر وايضاً طلب إضافة اسم أخيه ، بعد الانتهاء من تدوين الأسماء، سلم الورقة لغيري ، وهو مرتاح الضمير ، منشرح ، للقائمة وللناس الذين سيحصلون على ربطة الخبز بحسب الدور، وبشكل حضاري ومؤمن، نتيجة تنفيد أولي الأمر لنصيحته الثمينة…؟!!!.
اقترب منه صديق كان يراقبه طوال لحظات وجود الأوراق والقلم بين يديه ، اقترب منه وهمس في أذنه قائلاً :
– كنت أعتقد أنك لن توقع ..؟.
– ماذا …؟!!.
– البارحة ليلاً جاؤوا إلى بيتنا وسجلوا أسماء العائلة كلها .
– ماذا تقصد …؟!!. ولم اسم العائلة ، هل تأخذ أكثر من حصتك ..؟!!.
– ابتسم وقال : توقعت لو وقع أهالي الحارة كاملة ، فإنك لن توقع , كوني أعرفك ، لكن يبدو أنك وقعت من دون أن تقرأ محتواها ، عزيزي المناضل أضفت اسمك ووقعت على ورقة لا تخص ربطة الخبز ، ولا علاقة لها بالموضوع .
– أوف ..أنا البارحة اقترحت عليهم كتابة أسماء أهالي الحارة ، لتخفيف الأزمة والمشاجرات , لذا وقعت دون تحفظ ..؟.
– التواقيع ، ليست للخبز ، وفهمك كفاية …؟!!.
– هذا استغلال ، وتزوير ..؟!!.الناس جاؤوا لأجل لقمة الخبز ، وليس لأجندات سياسية ، يكفينا ما نحن عليه , ثم يا صديقي من منا ليس مع مطالبة الحرية لسجين الرأي .
– مرحبا بالاستغلال ، يا صديقي ، كل شيء وارد في هذا الزمن المعتر .أينما توجهت  تتعرض للاستغلال .الاستغلال شغال .
– في هذا الصباح ، تلفح الهواء البارد وجهوه الناس ، يرتجفون وعيون أغلبهم واغلبهن مازالت مغمضة ، نائمة . فعلاً صدق من قال : يجوعون الناس ليلحقون بهم ، سياسة ميكافيلية بحتة .
– هات سيجارة لنعفر هذا الصبح  و انس الموضوع , قالها بتهكم ….؟!!!.
اليوم ستتأخر السيارة لعدة أسباب ، والأكثر شيوعاً وتكراراً عطل في الفرن ، تعودنا على هذه الأسطوانة , كل سبت ، لكن للحقيقة , يأتي سبب التأخير كي يمل الجمهور المتسول ، اقترب منه رئيس كومين من الحارة القريبة وقال بصوت خافت يكاد لا يسمع , السيارة ستتأخر- بين ساعة وساعة ونصف –  انسحب الناس متأففين من الصفوف المتراصة،  وتوجهوا صوب بيوتهم  بشكل أوتوماتيكي في مشهد درامي ، وهو منهم، لينتظر وصول سيارة التوزيع ، وكل ظنه بأن اجتماعاتهم الساعاتية  قد تنتج بدمج الكومينتين في كومينة واحدة. مثلما تدمج أحزابنا السياسية
فرقتين أو ثلاث فرق مع بعضهما  بعضا عند اللزوم   وأغلب الأحيان عندما يقل عددهم ،  ومابين فترة وأخرى بات يخرج للبلكونة بعد أن صارت أذناه تتعودان تلقي أصوات صناديق الخبز أنى وصلت السيارة، وتم إنزالها من السيارة ، بعد انتظار ساعة ونصف تقريباً ، نزل هو وجاره . 
لا شيء يوحي بوصول السيارة ، لا حركة ولا يوجد أحد يطرق باب سعادة العضو الكوميني المسؤول عن لقمة المواطن .
سارا الهوينى نحو دكان قريب لشراء الدخان، و و في نهاية الشارع ، صادفا جارهما أمام مركبته ، سألاه متى يصل الخبز فقد تأخر كثيراً .
– استقبلهما بابتسامة ساخرة وقال : يا أساتذة ، بعد مغادرتكم بربع ساعة جاءت السيارة ووزعوا الخبز ، وأغلق الرجل بابه و ذهب مع زوجته الى عملهما , و أغلب الناس رجعوا الى منازلهم خائبين …؟!!. لكنني سمعت أن الحارة الشرقية ما زالت توزع الخبز …؟. 
– نظرا إلى بعضهما مذهولين وفي داخلهما خيبة عدم الحصول على الخبز ، ونطق ” المتقاعد ”  : أين قائمة الأسماء , الدور  والخبز , يبدو أخذ توقيع المواطن أهم منه ومن أسرته , ومن التزاماته .
* ملاحظة : (( كومين )) : مجموعة من الناس في الحي أو قرية يقومون بإدارة أمورهم الحياتية ومعالجة مشاكلهم .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إعداد وسرد أدبي: خوشناف سليمان
(عن شهادة الراوي فاضل عباس في مقابلة سابقة )

في زنزانةٍ ضيقةٍ تتنفسُ الموت أكثر مما تتنفسُ الهواء. كانت الجدران تحفظ أنين المعتقلين كما تحفظ المقابر أسماء موتاها.
ليلٌ لا ينتهي. ورائحةُ الخوف تمتزجُ بالعَرق وبدمٍ ناشفٍ على أرضٍ لم تعرف سوى وقع السلاسل.
هناك. في ركنٍ من أركان سجنٍ عراقيٍّ من زمن صدام…

صدر مؤخرًا عن دار نشر شلير – Weşanên Şilêr في روجافاي كردستان، الترجمة الكردية لرواية الكاتبة بيان سلمان «تلك الغيمة الساكنة»، بعنوان «Ew Ewrê Rawestiyayî»، بترجمة كلٍّ من الشاعر محمود بادلي والآنسة بيريفان عيسى.

الرواية التي تستند إلى تجربة شخصية عميقة، توثّق واحدة من أكثر المآسي الإنسانية إيلامًا في تاريخ كردستان العراق، وهي الهجرة المليونية القسرية…

حاوره: ابراهيم اليوسف

تعرّفتُ على يوسف جلبي أولًا من خلال صدى بعيد لأغنيته التي كانت تتردد. من خلال ظلال المأساة التي ظلّ كثيرون يتحاشون ذكرها، إذ طالما اكتنفها تضليلٌ كثيف نسجه رجالات وأعوان المكتب الثاني الذي كان يقوده المجرم حكمت ميني تحت إشراف معلمه المجرم المعلم عبدالحميد السراج حتى بدا الحديث عنها ضرباً من المجازفة. ومع…

مروى بريم

تعودُ علاقتي بها إلى سنوات طويلة، جَمَعتنا ببعض الثَّانوية العامة في صفّها الأول، ثمَّ وطَّدَت شعبة الأدبي صحبتنا، وامتَدَّت دون انقطاع حتى تاريخه.

أمس، انتابني حنينٌ شبيهٌ بالذي تقرّحت به حنجرة فيروز دون أن تدري لمن يكون، فوقه اختياري على صديقتي وقررتُ زيارتها.

مررتُ عن عمَدٍ بالصّرح الحجري العملاق الذي احتضن شرارات الصِّبا وشغبنا…