خالد إبراهيم
” أكثر سلوكٍ يؤكد أن شخصاً ما منحط أخلاقياً هو حين يغضب منكَ فينكر فضلك وينسى ميزاتك ويفشي سركَ ويقول عنك ما ليس فيكَ”
منذ شهور لم أكتب كلمة واحدة سوى تلك الخربشات على صفحتي في الفيسبوك!!
أحيانا أشعر أنني لم أعد أستطيع كتابة جملة مفيدة للعامة، ولا لهؤلاء المارقين على جسدي المنهك، ولا على اللذين يستذكرونني في مجالسهم بين الأمسية والأخرى، ولم أعد أمتلك حق الدفاع عن نفسي ولم يعد بمقدوري رفع الأذى عن نفسي المتعبة، وبين كل سؤال وسؤال أسأل بعمق الحال الرتيب، يا ترى لماذا؟
منذ شهورٍ وأنا شبه إنسان، بل بتُ نصف رجل، لا أستطيع المشي كما كنتُ ولا أستطيع النظر إلى أحد، وحتى أنني قللتُ من مكالماتي الهاتفية بصدد التواصل مع من كنّا في السابق على توافق، أو كنّا أعزاء على بعضنا البعض.
تصدع كل شيء، وبتنا جميعاً غرباء حتى وأن التقينا في طريق عابر
حقيقة أنني منذ شهور أشعر أنني شخص مستهلك، أو مثل آنية فخار قد تحطمت ولم يعد ينفع الأن جمعها أو نثرها، لذلك تعمدت كتابة هذه النص والذي هو بمثابة نهاية رواية ( الاوسلاندر) والتي أهديها لأطفالي الخمسة، والذين أشتاقهم في الدقيقة آلف مرة، أهديها إلى روح أمي، أمي التي عانت غيابي والتي لم تهنئ يوماً بالتواصل معي كما يجب، وحتى في وفاتها لم أفعل الشيء الممكن كما يجب، أمي التي ماتت في مدينة الرقة وهي في طريقها إلى الحسكة، مدينة الرقة التي احتضنتها منذ أول يوم لها وهي هاربة مع والدي في عام 1975 ، ما هذه الصدفة القاتلة؟
أول يوم لزواج أمي كان في مدينة الرقة منذ أكثر من خمسة وأربعين عام، وفي تاريخ 25/4/2023 وأثناء عودتها من أحدى مشافي دمشق كان وفاتها في نفس المدينة مصادفة، ما هذا القدر؟
وما هذا اللغز؟
أهديها إلى أبي، ذلك الشخص العنيد، الجبار، القوي، الذي لازلت أرتجف وأخاف منه مثل خوف الطفل وأكثر!!
إلى أخوتي الذين أداروا وجوههم عني مثل الكثيرين، والذين فنيت عمري وأجمل أيام شبابي وأنا أقدم لهم المستحيل متخطيا خطوط الفقر ذات يوم، أهديها إلى أخواتي اللواتي لم أسمع أصواتهن منذ خمسة أعوام، أهديها إلى هذا العالم الفسيح، والذي سيعلم حقيقة المواقف يوماً ما، ولا بد للعشب أن يخرج حتى ولو خرج من تحت الصخور.
“كُن عزيزا غائبا، خيرا لك بكثير من أن تكون حاضرا ولكن بلا قيمة، وأثناء ضعفك لا تجعل أحداً يراك حتى لو كانوا أهلك”
لم أقتنع بهذه المقولة لأنها تُشعرني أنها ناقصة، ناقصة في العمق المعروف عن حصر العادات والتقاليد، عن صولجان الوجدان والضمير الحي، ولهذا أحياناً أقول لنفسي:
لِمن سأتزين بعد الهزيمة، ولِمن سأقلم أظافر ضحكتي الهشّة وهي تتقاسم ربيع المنفى، لِمن سأنتصر، ولِمن سأرفرفُ بشاهدة قبري الأول والأخير، ومن سيقذف بقدمه وردة حمراء على تخوم جثتي، لِمن سأرفع سِلال العصافير الخائفة وهي تغرد بين دماء روحي تحت شجيرات اليقطين اليابسة، لِمن سأكتب آخر دفتر حزنٍ في هذا المسخ الأعظم.
لقد رحلتِ، متِّ، ولن تعودي، هكذا يقولون
لن أصدق أصدق أحداً
نعم كل هذه الصور مزيفة، السواد مزيف التربة المنتفخة والتي تسمى ( قبراً) هي الأخرى مزيفة، مجلس العزاء، والدموع، كانوا حفلاً جديدا يُفضي لتعاستي تعاسةً جديدة يا أمي
نعم متأكدٌ من كل شيء
صوتكِ ما زال في هاتفي المحمول، ضحكتكِ، بكاؤكِ، خوفكِ عليَّ، قلقكِ الذي ابتلع كل شيء ما بين السماء والأرض لا زال يحزٌّ أخر الأوتاد في قلبي
نعم رحلتِ باكراً وأنا كما أنا، كما منذ أول يوم ولادتي، كتلة لحمٍ طريٍّ ومنذ أربعين عام وحيداً، أحبو كطفلٍ وها أنا رجلا مكللاً بالعار.
لا أصدق أحداً
هذه الأرض الواسعة جداً يا أمي واسعة جداً، كيف لا يستوعبكِ موطأ قدم؟
كيف لي العودة إلى منزلنا وأنتِ لا شيء سوى بقايا آثاركِ العالقة ما بين الحسكة وعامودا؟
كيف يمكنني مسك قبضة باب غرفتكِ كيف ولِمن سأزج الوقت بالسلام والكلام؟
يا تلكَ الأواني والمعالق والسكاكين وجرة الغاز الفارغة أين هي أمي الآن؟
آه يا أمي:
حينما أنحني لأقبل يديك وأسكب دموع ضعفي فوق صدرك وأستجدي نظرات الرضا من عينيك حينها فقط أشعر باكتمال رجولتي.
لو كان العالم في كف وأمي في كف لاخترت أمي.
الأم شمعة مقدسة تضيء ليل الحياة بتواضع ورقة وفائدة.
أعظم كتاب قرأته أمي. أماه كيف أستطيع العيش من دونك وأنتِ قلبي النابض، وعيني المبصرة، وروحي التي سكنت جسدي يا تاجاً أفتخر به بين الخلائق أجمع وأعتز بصحبتي لك في كل مكان.
إنّ أرق الألحان وأعذب الأنغام لا يعزفها إلّا قلب الأم.
لا تميل القلوب إلّا إليكِ ولا تلين الصخور إلّا لحنانك أنتِ، الحب والجنة تحت أقدامك أحبك أمي.
أمي بين يديك كبرت وفي قلبك احتميت، وبين ضلوعك اختبأت ومن عطائك ارتويت.
قلب الأم هوة عميقة ستجد المغفرة دائماً في قاعها. ليس في العالم وسادة أنعم من حضن الأم.
إليك يا نبض قلبي المتعب، وإليك يا شذى عمري، وإليك أنت يا أمي الحبيبة.
الأم هي كل شيء في هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف.
قالت أمي مرة الذي يحبك هو من رأى فيك تسعة وتسعون عيباً وخصلة جمِيلة أحب الخصلة وترك العيوب.
أمي لن أسميك امرأة سأسميك كلّ شيء.
يا أمي تحية وقبلة وليس عندي ما أقول بعد.
أمي سأدعو لكِ كثيراً فأنتِ جميع الفرص الجميلة والثمينة، وأنتِ من لا يساوي حضورك أحد، أحبك يا جنتي.
أمي كيف لقلب بحجم قبة كفي أن يتسع لكل هذا الحب لكِ.
نعم يا أطفالي الخمسة أحزان ودفلة مرّة:
ستخرجون من تحت ركام الحزن والوحدة كصقوراً جارحة، كنبتة زيتون، كبذرة من الحنطة، وستبنون أعشاشاً جميلة، وتُشيدون القصور وقصائداً تضمّد تخوم الوطن الجريح وقبريَّ الرطب
نعم يا أطفالي الخمسة ابتسامات أشتاقها:
منذ أن ولدتني أمي، سقطتُ قطعة لحم طرية، ورضعتُ صدرها بفم مليء بالدمِ ولعاب النسيان والفشل، ولدتُ غريباً بعيداً عن كل الأشياء الجميلة ولم أمارس حقوقي كطفلٍ قد أشتهى يوماً لعبة وكانت رغبته مستجابة، وهكذا عشتُ وحيداً ولا زلت.
الوحدة يا أطفالي لا يعني أن الشخص بلا زوجة، أو أطفال، أو أي شيء يتمناه، مفهوم الوحدة هو معجمٌ روحيٌّ لا يفهمه إلا من ذاق مرارة الألم والفشل والخذلان.
نعم يا أطفالي الخمسة أجسادٍ طرية:
هكذا وأنا أزحف بين حجارة مسننة أصارع غدي وأفشل، أقع، أتعثر، أُصاب بالشلل، وختامها معدة باتت مليئة بالأمراض المزمنة، وهذا لأنهم يلّوحون وهم يكتبون الشعر الرديء، وهم تحت أمواج التيه والملح والغبار، لستُ شاعراً ولم أكن، حفرتُ المقابر بأصابعٍ من الطين، وما زال الشمع الأحمر القاتم على عنقي، حفرتُ جدران الصمت، وسقطت في عمق الضجيج الفاضح ولم أكن أدري أنني ألتف بحبال الرداءة و اتدحرج مشنوقاً عبر ثقبٍ يُسمى النسيان.
ولهذا أن قرأتم ذات يومٍ نعوة بإسمي، فلا تتعجبوا ولا تتساءلوا، ولا تنبهروا بهذا الموت البطيء الذي أنتهى!!
هناك البعض حتى وأن جزّت أعناقهم بالسكاكين، لن ترتاح لأنهم قهروك، بل بنوا في صدركَ مدنا وجبالاً وسهولاً من القهر وأنهاراً من الحزن.
أين هو اليوم العالمي للجُناة:
اليوم العالمي للأذكياء فقط، للمجرمين الحُفاة فقط، اليوم العالمي للناجين من شِراك الخديعة وكمائن علاقات الضغينة، اليوم العالمي للناجين من مصير البغال وأقدار الحمير والدهماء، اليوم العالمي للشعراء والكُتّاب ولو بلا قصائد، وبلا نصوصٍ ورواياتٍ تلوي عنق الحقائق، للمرتشفين الموسيقى منفردين في صفحات العشاق خلسة، للهائمين كالضباب النقي للسائحين في ينبوع الحب المعتق في أعماقهم، كبراءة النور من شوائب الاحتيال، للعابرين والعابرات على أرصفة المطر وحيدين، للجالسين على مقاعد الحديقة منفردين أحراراً من إثم العلاقات الجثث، للناجين من خطيئة الإنجاب أطفالاً لمحرقة التردي في حياة أضيق من حذاء.
4/5/2023 Dortmund