نجم والي
لنتخيل المشهد التالي: فتاة لا تستطيع الخروج من بيتها لكي ترى الشاب الذي تحبه، والذي يعمل في دائرة الإطفاء القريبة، ماذا عليها أن تفعل إذن غير أن تحرق بيت أهلها، لكي تأتي سيارات الإطفاء ومعها صديقها؟ لكن في ذلك اليوم بالذات، لا تعرف أن صديقها البطل كان في إجازة..
لنتخيل المشهد التالي: فتاة لا تستطيع الخروج من بيتها لكي ترى الشاب الذي تحبه، والذي يعمل في دائرة الإطفاء القريبة، ماذا عليها أن تفعل إذن غير أن تحرق بيت أهلها، لكي تأتي سيارات الإطفاء ومعها صديقها؟ لكن في ذلك اليوم بالذات، لا تعرف أن صديقها البطل كان في إجازة..
أو لنتخيل المشهد الأكثر عنفاً: صديقان يلتقيان في بغداد بعد فترة طويلة من الفراق، الأول يسأل الثاني، كيف حال الوالد؟ لكنه فجأة يتذكر، أن والد صديقه توفي منذ زمن؟ الأمر الذي يجعله يُسرع بتغيير سؤاله، فيقول له: أقصد هل ما زال والدك في نفس المقبرة؟
أو لنتخيل هذا المشهد: ألبس دشداشة يقتلني كردي، ألبس سروالا يقتلني عربي، ألبس الزي العسكري تقتلني المقاومة، ألبس ملابس مدنية تقتلني الميلشيات، أخرج عارياً يقتلني البرد، الله في عون العراقيين!
من لا يضحك، إذا عرف، أن النكات التي نرويها هنا هي ثلاثة نماذج طريفة من مئات النكات تنطلق اليوم من بغداد؟ صحيح أن الشعوب تختلف عموماً في درجة فهمها للنكتة، أو في درجة إلقائها لها، وأن الضحك له علاقة بخلفيتهم الثقافية وتربيتهم العامة، لكن من الصعب الاعتقاد أن أحداً (حتى في ألمانيا) لن يضحك للنكتة القادمة من بغداد. فعندما يسمع المرء نكتة قادمة من بغداد، لا يهمه الموضوع الذي تدور عليه النكتة، بقدر ما سيهمه المكان الذي جاءت منه، وحده التصور، أن هناك مَن يروي النكتة في بغداد اليوم، هو تصور “فكاهي” يثير السخرية السوداء ويجلب المرء إلى الضحك، أو إلى الابتسام على الأقل. السؤال الذي سيقفز أمامه مباشرة: نكتة؟ في بغداد؟ كيف يكون ذلك، وصور السيارات المفخخة نراها يومياً على شاشات التلفزيون؟ ما الذي يجعل العراقيين والبغداديين بالذات يروون النكتة، وهم لا يملكون حتى الوقت الكافي لإحصاء قتلاهم؟
إنه أمر غريب حقاً، فحتى اليوم كان المصريون هم الفنانين الذين لا ينافسهم أحد في رواية النكتة. لم يكن العراقيون ولا عاصمتهم بغداد، مصدراً لرواية النكتة في البلدان الناطقة بالعربية. تاريخهم يقول إنهم لم يظهروا يوماً عن مثل هذا الميل الحاضر لرواية النكتة، بل على العكس، العراقيون، والبغداديون بالذات هم أكثر ميلاً للحزن الذي كانوا يبثونه حتى في أغانيهم. من ينسى تلك القطع الخشبية الصغيرة التي عُلقت في أكثر من مكان على جدران الحانات في بغداد السنوات الماضية، والتي خُط عليها بخط عريض وواضح: “الغناء ممنوع”. لم يمنع أصحاب الحانات زبائنهم من الغناء بسبب معرفتهم بقبح ونشاز أصوات السكارى الذين يبدأون النشاز بعد احتسائهم الكأس الأولى من العرق القاتل (أكثر من 60% كحول)، بل لأن الأغاني تلك التي اكتظت بشكوى السكران من الحياة وهجران الحبيب وفقدانه، كانت تنتهي إلى نتيجة واحدة: البكاء، ليس بكاء المغني لوحده وحسب، بل بكاء زبائن الحانة جميعاً. واليوم؟ فتش عن مصدر النكتة في الوطن العربي، ستجدها تأتي من مكان واحد في المقام الأول: من بغداد، وليس من القاهرة، أشهر عواصم العرب مصدراً للنكتة!
المفارقة هي أن حتى تلك البحوث الجديدة التي تبحث بدراسة انتشار ظاهرة النكتة في العراق، لا يخلو بعضها من عنصر الطرافة، التي لا تخلو من جدية طبعاً، كما في البحث الطويل الجاد الذي قدمه أحد المختصين بعلم الاجتماع من العراقيين. فحسب دراسته التي نشرها على أحد مواقع الانترنيت، ربط الباحث ظاهرة انتشار النكتة بظاهرة انتشار المخدرات في العراق، خصوصاً الحشيش والحبوب المخدرة بكل أنواعها، حجته التي يوردها في البحث هم المصريون. فحسب قوله لم يكن المصريون أكثر الشعوب العربية ميلاً لرواية النكتة، لو لم يكونوا أيضاً أكثرهم ميلاً لتدخين الشيشة. الحشيش كما هو معروف يمنح المرء نوعاً من الراحة، الاسترخاء، على عكس ما كانت حال العراقيين، الذين، بحسب الباحث، “لم يكونوا مشهورين بعصبيتهم وميلهم العدواني وحسب، بل كانوا مشهورين أيضاً بشرب الخمرة، وأية خمرة؟” (كذا!)، وهو يقصد ماركات العرق الثلاث التي أدمن شربها نسبة كبيرة من العراقيين: “عرق المسيّح” (والذي أُطلق عليه الأسود)، و”عرق العصرية” (الذي أُطلق عليه الأبيض)، و”عرق الزحلاوي”، هذه الأنواع حوت جميعها على نسبة كبيرة من الكحول، طعمها مرّ، بطعم العلقم، العرق العراقي “القاتل” لم يشجع شاربيه على العدوانية وحسب، بل غالباً ما ألقى بهم في كآبة مريرة. في السنوات الأخيرة، ومع صعود المدّ الإسلامي وتردي أحوال المعيشة، انحسرت الحشيشة في مصر وانحسرت معها الرغبة برواية النكتة، على عكس بغداد التي اختفى منها العرق “القاتل” مع اختفاء الديكتاتور، وحلت محله الحشيشة مع الحرية “الأميركية” الجديدة!
لكن سواء اتفق المرء مع هذه الفرضية أم لا، يظل الأمر مدعاة للتفكير، ماذا حدث للعراقيين بالفعل، وما الذي جعل رواية النكتة تتحول عندهم فجأة إلى فن شعبي واسع الانتشار، فما أن يلتقي المرء صديقا أو قريبا أو يتصل به تلفونياً، حتى يسأله إذا كان قد سمع آخر نكتة؟ في زمن الديكتاتورية لم تكن النكات قليلة وكانت تنحصر روايتها بين فئة قليلة وحسب، بل أن الموضوع الذي كانت ترتكز عليه دار على مواضيع محدودة، على أقلية قومية أو سكان منطقة أخرى أو على شخصية معينة، حسب التوجه السياسي العام. سنوات طويلة مثلاً ظلت النكات المتداولة ضد الأكراد هي السائدة، ولكن عندما دخل الأكراد في تحالف مع السلطة، تحولت النكات ذاتها ضد عشائر الدليم (يمكن مقارنة ذلك بالنكات على سكان جزر فريزينلاد الألمانية). ومن كان يأمل بوجود نكات ضد الديكتاتور صدام حسين (كما هي الحال عادة تحت سيطرة أي ديكتاتور في العالم)، سيخيب ظنه، لأن الخوف كان قابعاً آنذاك في نفوس الناس، لدرجة أن أحداً لم يجرؤ على التفكير برواية نكتة عن الديكتاتور. وإذا ما ظهر صدام في إحدى النكات، فإنه ظهر كشخصية ثانوية، أو بصفته معلقاً ذكياً في دور من يعطي الدروس! لأجل ذلك اشتهرت في عهد صدام شخصيتان، ذاع تداول النكات عنهما على اللسان الشعبي، وهما شخصية نائب رئيس الجمهورية في زمن صدام، (عزت الدوري) والمطرب الشعبي سعدي الحلي، الأول اشتهر بغبائه وتدني مستواه التعليمي، اذ كانت مهنته الأصلية بيع للثلج، قبل أن يصعد نجمه الحزبي وللمفارقة فبالرغم من أنه ما يزال على قيد الحياة، يعيش متخفياً لم تعد شخصيته تشكل موضوعاً في النكات الجديدة، هناك سياسيون آخرون أكثر معاصرة منه اليوم نافسوه في السذاجة والغباء، أما الثاني، سعدي الحلي، فقد اشتهر بشكله “القبيح” وأغانيه المبتذلة الكلمات غالباً. كانوا يطلقون عليه مطرب سواق الشاحنات “Brummi Singer”، أما النكات التي رُويت عن سعدي الحلي فكانت أكثر علنية، لم تشكل خطراً على رواتها، نكات موضوعها الغلمان وهي ظلت متداولة بين الناس حتى بعد سقوط بغداد، لكن إلى فترة زمنية قصيرة فقط، قبل أن يزدهر مجد النكات الجديدة (في شهر نيسان الماضي وفي مؤتمر “إلى أين يسير العراق؟” في حيفا، فاجأني الأميركي مايكل، أحد المشاركين في المؤتمر والذي عمل سنتين في مجلس الإدارة المدنية لباول بريمير في العراق، برواية نكات “فاحشة” مضبوطة عن سعدي الحلي).
اليوم، وبعد أكثر من أربع سنوات من الاحتلال، ازدهرت النكات وزاد عددها، نجدها على صفحات الجرائد، وعلى صفحات الانترنيت، يتداولها الناس شفوياً، ويرسلها الأصدقاء بعضهم الى بعض في رسائلهم الألكترونية. نكات لا تحصر نفسها بالضحك على طائفة واحدة أو تقتصر على طائفة أو دين، نكات ليست بالضرورة تضحك من موضوع فاحش، كما جرت العادة في الماضي، كلا، لم تعد النكات تركز نفسها اليوم في موضوع معين. إنها نكتة تضحك من كل المواضيع، تنظر للعالم بسخرية، وكأن ما يدور حولها تمثيلية استعراضية على الجميع معرفتها، وكأن الناس تُحذر بعضها البعض، تشجعها على عدم الوقوع في الهاوية، هاوية التشاؤم، بل تحضها على الخروج من المعضلة بالضحك عليها، كما يحدث في الأدب. الويل لمن يقع في شرك الكارثة التي تحدث أمامه، وكأن الناس وهي تروي كوارثها على شكل مفارقات ونكات تُضحك، تريد أن تؤكد على تضامنها. على اتفاق الناس غير المعلن فيما بينهم، أن الكارثة التي تطل بوجهها علينا، تعنينا جميعاً، وأن من ينظر لها بنظرة تشاؤمية سيُسلم نفسه للموت لا محالة. لماذا لا نضحك عليه، إذا كانت المصائب تحدث في كل الأحوال؟ لماذا لا نحولها إلى حكايات مسلية، تدعونا للتمعن في معناها؟ انظروا إلى صدام حسين، السلطان الذي لا ينازعه أحد على سلطانه (إلى حين مجيء السلطان بوش الابن)، صاحب القصور والرفاهية الباذخة، انظروا إليه، كيف انتهى إلى جحر صغير يحتضن حقيبة صغيرة فيها بضعة آلاف من الدولارات، في المكان الذي رعى فيه أغنام زوج أمه وهو صغير. أو انظروا إلى أحمد الخلايلة الزرقاوي، الذي بدأ حياته شاباً نزقاً وخماراً، قبل أن يتحول إلى شيخ ديني وزعيم للإرهاب، انظروا إليه، إلى أين انتهت حياته؟ في حقول “هبهب”، هبهب المشهورة بحقول العنب، هبهب التي اشتهرت بتصنيعها عرق “الهبهب” الذي يُصنع في البيوت، العرق الرخيص؟ أحداث تثير الضحك في النهاية، أحدث تجعلنا نفكر، نسأل أنفسنا، قبل أن نسأل بعضنا البعض، لماذا يحدث ما يحدث وبالطريقة المضحكة هذه؟ وكأن الناس تعرف، أن النظر لما يحدث بصفته تمثيلية استعراضية تهكمية هو وسيلتها الوحيدة للدفاع عن نفسها، وسيلتها الوحيدة لعدم الهروب إلى الأمام، وسيلتها الوحيدة لعدم دفن رأسها في الرمال، وكأن ما يحدث هناك يخص أحداً غيرها. المصيبة التي تحدث في بغداد تخص الجميع، وهذا ما تقوله النكات، فهي نكات تضحك من المسلم والمسيحي، من الشيعي والسني، من الأرثوذوكسي والآشوري، من الكردي والعربي، من التركماني والكردي، من الصابئي واليزيدي، من الكلداني والأرمني، من السياسي ورجل الدين، من نائب البرلمان ومن الحرس الخاص، من البائع في الشارع والموظف الحكومي، من القواد والسياسي، من الصحفي والعاهرات، من رجال الدين والسفاحين، من الإنسان و…الحيوان! كل ما يدب على أرض العراق من أحياء، وكلما زاد الوضع سوءاً في بغداد، زادت احتمالات النكتة عند الناس هناك. إنها طريقتهم المباشرة التي اختاروها بالنظر للعالم، أنها رد فعلهم السريع، فماذا تبقى لهم، للخروج من الكارثة غير الفكاهة السوداء. ما يجري في الخارج يشبه في تفاصيله تمثيلية استعراضية تهكمية، تجرى أمام أعين الناس، ومثلما لا يحتاج الروائي اليوم في العراق إلا أن يرمي حجراً في أي مكان في بغداد فيقع على قصة، لا يحتاج المرء إلا أن يعاين حواليه، ما أن يغادر بيته ويمشي في شوارع بغداد، لتقع عيناه على مشهد يدعوه للتفرج عليه، مشهد يمكن أن يكون كل شيء.
منظر رقم واحد: مجموعة من سكان المحلة التي يقع فيها بيتهم خرجوا سوية في وقت واحد ما أن سمعوا صوت انفجار قنابل قادم من بعيد. في الوهلة الأولى لا يُعرف ماذا حدث، لماذا خرج هؤلاء على شكل فرق منظمة، وكأنهم اتفقوا على الخروج في تلك اللحظة، مثل كلاب بافلوف، ما أن سمعوا أصوات الانفجار؟ لكن ما أن يتكرر المشهد في اليوم نفسه أو في اليوم الثاني، وما أن يشاهد هؤلاء عائدين من مكان القصف ومعهم غنائمهم، حتى يعرف المرء أن بعض العائلات التي تسكن الشارع عقدت أحلافا فيما بينهم: يخرجون نساء ورجالاً صغاراً وكباراً إلى أي مكان يُقصف صدفة، لكي يجمعوا كل ما يمكن أن يعثروا عليه هناك، من الحديد والأثاث والأقمشة، كل شيء حتى المواد السامة، لكي يبيعوها لاحقاً، أحياناً يقومون بذلك، في وقت ما يكون القصف مستمراً!
منظر رقم اثنين: طابور سيارات كبير أمام إحدى محطات البنزين ينتظر التزود عبثاً بالبنزين، تقترب فجأة سيارة يطل سائقها برأسه (من الشباك)، ويخبرهم عن محطة بنزين أخرى قريبة فيها ما يكفي من البنزين، فجأة يصعد كل سائق إلى سيارته ويبدأون بسباق لكي يصل كل واحد منهم قبل الآخر للمحطة المقصودة. لكن ما أن يفرغ المكان حتى يرى المرء السائق ذاته يقترب من محطة البنزين، ليملأ الخزان على راحته.
منظر رقم ثلاثة: الدكان الصغير الذي كان ذات يوم عند زاوية الشارع، والذي كان يبيع ذات يوم الشمع، اختفى فجأة، يسأل الزائر الجديد، فيُقال له، إن الحاج فلان أغلق دكانه هذا وانتقل إلى مركز السوق الرئيسي، عنده الآن سوبر ماركت كبير، ويسكن فيلا في حي المنصور الراقي. كيف؟ من بيع الشمع؟ نعم من بيع الشمع واللمبات النفطية الصغيرة، كيف لا يحصل ذلك وتزدهر تجارته وأصبحت الكهرباء ذكرى تعود للماضي؟ ليس هو وحده من اثرى فقد أثرى معه أيضاً باعة آخرون: بائع البريمزات التي أصبحت بديلاً عن الطباخ الكهربائي، بائع صناديق الخشب لحفظ الأطعمة (ثلاجات خشبية)، وكل أصحاب المهن المهملة الصغيرة.
منظر رقم أربعة: أعداد كبيرة من الماشية تسرح وحدها عند تلال القمامة الواقعة على أطراف الحي، في الماضي كان المكان الذي تسرح فيه الكلاب السائبة، لا ينافسها على فريستها أحد هناك، وأقله أن تكون من الماعز والنعاج! اختفى الكلأ الذي تتغذى فيه الماشية إذن، وحلت القمامة محله، فهل ستتحول النعاج إلى كلاب سائبة في العراق؟
منظر رقم خمسة: رجل في الستين من عمره ينزل من ليموزين أبيض كبير أمام فندق من خمسة نجوم في المنطقة الخضراء، تتأبط ذراعه فتاة شابة في بداية العشرين من عمرها يحيط به وبها فريق كبير من الحماية. من هو هذا الرجل الذي يتحرك مثل مسؤول كبير؟ أنه المليونير فلان متعهد القمامة الأميركية، كان يعمل حارساً للسفارة البريطانية في العهد البائد، وبعد الاحتلال تحول إلى متعهد القمامتين: القمامة الأميركية والقمامة البريطانية في وادي الرافدين عفواً بلاد “ييلقمامتين”.
منظر رقم ستة: جنود عراقيون يفتشون ضمن الخطة الأمنية الجديدة عربة تجرها الحمير، خوفاً من أن تكون العربة أو الحمار مفخخين.
منظر رقم سبعة: دلالون (سماسرة) يعرضون عند بوابة الطب العدلي جثثاً مجهولة ترقد في المشرحة على أولئك الذين لم يعثروا على جثث أحبة لهم، سقطت صرعى في الحرب اليومية في بغداد، لكي يكون عندهم على الأقل قبر يزورونه ويبكون عليه.
المناظر التي يُمكن أن يحصي المرء العشرات منها، ليست هي وحدها التي تثير السخرية السوداء، بل هي تسمية سكان بغداد للأشياء أيضاً، تسميتهم لكل تلك البضائع التي دخلتهم للمرة الأولى، أو لموديلات السيارات التي أدخلت اليهم للمرة الأولى، تلفونات الموبايل التي كانت في زمن صدام حسين مثلها جهاز الفاكس والانترنيت، حلماً بعيد المنال، حيازتها كانت من الممكن أن تقود للسجن أو الموت (سيُتهم بالتجسس للعدو)، دخلت إلى حياة العراقيين وهي تحمل أسماء لا تخلو من الفكاهة المذكورة أعلاه. فهذا الموبايل اسمه “علاوي” لأن رأسه صغير، وجسمه ضخم، مخروطي الشكل يشبه شكل رئيس الوزراء الأسبق آياد علاوي، أو سيارات المرسيدس موديل “أم دمعة”، لأن منظر اللمبتين الأماميتين يشبه دموعاً تسيل!
ولكي نعرف إلى اي مدى وصلت السخرية عند العراقيين، علينا أن نروي النكتة التالية:
شاب يجلس مع أمه أمام التلفزيون ويرى صور سجناء عراقيين تكوموا على بعضهم في المشهد، فيسأل أمه، هل تريني هناك؟ فتقول له، أين أنت؟ لا أرى أحداً، فيجيبها، كيف لا ترين، أنا المؤخرة الثالثة إلى اليمين!
شعب يرى نفسه وقد تحول على طريقة المثل الأسباني “مؤخرة في الهواء”، ماذا ننتظر منه غير أن يرى العالم كله على شكل تمثيلية استعراضية تهكمية تثير الضحك “الأسود”؟ أليست تلك هي الوسيلة الوحيدة التي بقيت أمامه، لكي يحتفظ لنفسه بدور البطولة في المسرحية الهزلية هذه التي تدور أمامه وأمام أنظار العالم جميعاً، حتى إذا عرف أن مجرد التفكير بذلك بكونه البطل الذي لا ينازعه أحد على دوره ـ هو مجرد نكتة!
أو لنتخيل هذا المشهد: ألبس دشداشة يقتلني كردي، ألبس سروالا يقتلني عربي، ألبس الزي العسكري تقتلني المقاومة، ألبس ملابس مدنية تقتلني الميلشيات، أخرج عارياً يقتلني البرد، الله في عون العراقيين!
من لا يضحك، إذا عرف، أن النكات التي نرويها هنا هي ثلاثة نماذج طريفة من مئات النكات تنطلق اليوم من بغداد؟ صحيح أن الشعوب تختلف عموماً في درجة فهمها للنكتة، أو في درجة إلقائها لها، وأن الضحك له علاقة بخلفيتهم الثقافية وتربيتهم العامة، لكن من الصعب الاعتقاد أن أحداً (حتى في ألمانيا) لن يضحك للنكتة القادمة من بغداد. فعندما يسمع المرء نكتة قادمة من بغداد، لا يهمه الموضوع الذي تدور عليه النكتة، بقدر ما سيهمه المكان الذي جاءت منه، وحده التصور، أن هناك مَن يروي النكتة في بغداد اليوم، هو تصور “فكاهي” يثير السخرية السوداء ويجلب المرء إلى الضحك، أو إلى الابتسام على الأقل. السؤال الذي سيقفز أمامه مباشرة: نكتة؟ في بغداد؟ كيف يكون ذلك، وصور السيارات المفخخة نراها يومياً على شاشات التلفزيون؟ ما الذي يجعل العراقيين والبغداديين بالذات يروون النكتة، وهم لا يملكون حتى الوقت الكافي لإحصاء قتلاهم؟
إنه أمر غريب حقاً، فحتى اليوم كان المصريون هم الفنانين الذين لا ينافسهم أحد في رواية النكتة. لم يكن العراقيون ولا عاصمتهم بغداد، مصدراً لرواية النكتة في البلدان الناطقة بالعربية. تاريخهم يقول إنهم لم يظهروا يوماً عن مثل هذا الميل الحاضر لرواية النكتة، بل على العكس، العراقيون، والبغداديون بالذات هم أكثر ميلاً للحزن الذي كانوا يبثونه حتى في أغانيهم. من ينسى تلك القطع الخشبية الصغيرة التي عُلقت في أكثر من مكان على جدران الحانات في بغداد السنوات الماضية، والتي خُط عليها بخط عريض وواضح: “الغناء ممنوع”. لم يمنع أصحاب الحانات زبائنهم من الغناء بسبب معرفتهم بقبح ونشاز أصوات السكارى الذين يبدأون النشاز بعد احتسائهم الكأس الأولى من العرق القاتل (أكثر من 60% كحول)، بل لأن الأغاني تلك التي اكتظت بشكوى السكران من الحياة وهجران الحبيب وفقدانه، كانت تنتهي إلى نتيجة واحدة: البكاء، ليس بكاء المغني لوحده وحسب، بل بكاء زبائن الحانة جميعاً. واليوم؟ فتش عن مصدر النكتة في الوطن العربي، ستجدها تأتي من مكان واحد في المقام الأول: من بغداد، وليس من القاهرة، أشهر عواصم العرب مصدراً للنكتة!
المفارقة هي أن حتى تلك البحوث الجديدة التي تبحث بدراسة انتشار ظاهرة النكتة في العراق، لا يخلو بعضها من عنصر الطرافة، التي لا تخلو من جدية طبعاً، كما في البحث الطويل الجاد الذي قدمه أحد المختصين بعلم الاجتماع من العراقيين. فحسب دراسته التي نشرها على أحد مواقع الانترنيت، ربط الباحث ظاهرة انتشار النكتة بظاهرة انتشار المخدرات في العراق، خصوصاً الحشيش والحبوب المخدرة بكل أنواعها، حجته التي يوردها في البحث هم المصريون. فحسب قوله لم يكن المصريون أكثر الشعوب العربية ميلاً لرواية النكتة، لو لم يكونوا أيضاً أكثرهم ميلاً لتدخين الشيشة. الحشيش كما هو معروف يمنح المرء نوعاً من الراحة، الاسترخاء، على عكس ما كانت حال العراقيين، الذين، بحسب الباحث، “لم يكونوا مشهورين بعصبيتهم وميلهم العدواني وحسب، بل كانوا مشهورين أيضاً بشرب الخمرة، وأية خمرة؟” (كذا!)، وهو يقصد ماركات العرق الثلاث التي أدمن شربها نسبة كبيرة من العراقيين: “عرق المسيّح” (والذي أُطلق عليه الأسود)، و”عرق العصرية” (الذي أُطلق عليه الأبيض)، و”عرق الزحلاوي”، هذه الأنواع حوت جميعها على نسبة كبيرة من الكحول، طعمها مرّ، بطعم العلقم، العرق العراقي “القاتل” لم يشجع شاربيه على العدوانية وحسب، بل غالباً ما ألقى بهم في كآبة مريرة. في السنوات الأخيرة، ومع صعود المدّ الإسلامي وتردي أحوال المعيشة، انحسرت الحشيشة في مصر وانحسرت معها الرغبة برواية النكتة، على عكس بغداد التي اختفى منها العرق “القاتل” مع اختفاء الديكتاتور، وحلت محله الحشيشة مع الحرية “الأميركية” الجديدة!
لكن سواء اتفق المرء مع هذه الفرضية أم لا، يظل الأمر مدعاة للتفكير، ماذا حدث للعراقيين بالفعل، وما الذي جعل رواية النكتة تتحول عندهم فجأة إلى فن شعبي واسع الانتشار، فما أن يلتقي المرء صديقا أو قريبا أو يتصل به تلفونياً، حتى يسأله إذا كان قد سمع آخر نكتة؟ في زمن الديكتاتورية لم تكن النكات قليلة وكانت تنحصر روايتها بين فئة قليلة وحسب، بل أن الموضوع الذي كانت ترتكز عليه دار على مواضيع محدودة، على أقلية قومية أو سكان منطقة أخرى أو على شخصية معينة، حسب التوجه السياسي العام. سنوات طويلة مثلاً ظلت النكات المتداولة ضد الأكراد هي السائدة، ولكن عندما دخل الأكراد في تحالف مع السلطة، تحولت النكات ذاتها ضد عشائر الدليم (يمكن مقارنة ذلك بالنكات على سكان جزر فريزينلاد الألمانية). ومن كان يأمل بوجود نكات ضد الديكتاتور صدام حسين (كما هي الحال عادة تحت سيطرة أي ديكتاتور في العالم)، سيخيب ظنه، لأن الخوف كان قابعاً آنذاك في نفوس الناس، لدرجة أن أحداً لم يجرؤ على التفكير برواية نكتة عن الديكتاتور. وإذا ما ظهر صدام في إحدى النكات، فإنه ظهر كشخصية ثانوية، أو بصفته معلقاً ذكياً في دور من يعطي الدروس! لأجل ذلك اشتهرت في عهد صدام شخصيتان، ذاع تداول النكات عنهما على اللسان الشعبي، وهما شخصية نائب رئيس الجمهورية في زمن صدام، (عزت الدوري) والمطرب الشعبي سعدي الحلي، الأول اشتهر بغبائه وتدني مستواه التعليمي، اذ كانت مهنته الأصلية بيع للثلج، قبل أن يصعد نجمه الحزبي وللمفارقة فبالرغم من أنه ما يزال على قيد الحياة، يعيش متخفياً لم تعد شخصيته تشكل موضوعاً في النكات الجديدة، هناك سياسيون آخرون أكثر معاصرة منه اليوم نافسوه في السذاجة والغباء، أما الثاني، سعدي الحلي، فقد اشتهر بشكله “القبيح” وأغانيه المبتذلة الكلمات غالباً. كانوا يطلقون عليه مطرب سواق الشاحنات “Brummi Singer”، أما النكات التي رُويت عن سعدي الحلي فكانت أكثر علنية، لم تشكل خطراً على رواتها، نكات موضوعها الغلمان وهي ظلت متداولة بين الناس حتى بعد سقوط بغداد، لكن إلى فترة زمنية قصيرة فقط، قبل أن يزدهر مجد النكات الجديدة (في شهر نيسان الماضي وفي مؤتمر “إلى أين يسير العراق؟” في حيفا، فاجأني الأميركي مايكل، أحد المشاركين في المؤتمر والذي عمل سنتين في مجلس الإدارة المدنية لباول بريمير في العراق، برواية نكات “فاحشة” مضبوطة عن سعدي الحلي).
اليوم، وبعد أكثر من أربع سنوات من الاحتلال، ازدهرت النكات وزاد عددها، نجدها على صفحات الجرائد، وعلى صفحات الانترنيت، يتداولها الناس شفوياً، ويرسلها الأصدقاء بعضهم الى بعض في رسائلهم الألكترونية. نكات لا تحصر نفسها بالضحك على طائفة واحدة أو تقتصر على طائفة أو دين، نكات ليست بالضرورة تضحك من موضوع فاحش، كما جرت العادة في الماضي، كلا، لم تعد النكات تركز نفسها اليوم في موضوع معين. إنها نكتة تضحك من كل المواضيع، تنظر للعالم بسخرية، وكأن ما يدور حولها تمثيلية استعراضية على الجميع معرفتها، وكأن الناس تُحذر بعضها البعض، تشجعها على عدم الوقوع في الهاوية، هاوية التشاؤم، بل تحضها على الخروج من المعضلة بالضحك عليها، كما يحدث في الأدب. الويل لمن يقع في شرك الكارثة التي تحدث أمامه، وكأن الناس وهي تروي كوارثها على شكل مفارقات ونكات تُضحك، تريد أن تؤكد على تضامنها. على اتفاق الناس غير المعلن فيما بينهم، أن الكارثة التي تطل بوجهها علينا، تعنينا جميعاً، وأن من ينظر لها بنظرة تشاؤمية سيُسلم نفسه للموت لا محالة. لماذا لا نضحك عليه، إذا كانت المصائب تحدث في كل الأحوال؟ لماذا لا نحولها إلى حكايات مسلية، تدعونا للتمعن في معناها؟ انظروا إلى صدام حسين، السلطان الذي لا ينازعه أحد على سلطانه (إلى حين مجيء السلطان بوش الابن)، صاحب القصور والرفاهية الباذخة، انظروا إليه، كيف انتهى إلى جحر صغير يحتضن حقيبة صغيرة فيها بضعة آلاف من الدولارات، في المكان الذي رعى فيه أغنام زوج أمه وهو صغير. أو انظروا إلى أحمد الخلايلة الزرقاوي، الذي بدأ حياته شاباً نزقاً وخماراً، قبل أن يتحول إلى شيخ ديني وزعيم للإرهاب، انظروا إليه، إلى أين انتهت حياته؟ في حقول “هبهب”، هبهب المشهورة بحقول العنب، هبهب التي اشتهرت بتصنيعها عرق “الهبهب” الذي يُصنع في البيوت، العرق الرخيص؟ أحداث تثير الضحك في النهاية، أحدث تجعلنا نفكر، نسأل أنفسنا، قبل أن نسأل بعضنا البعض، لماذا يحدث ما يحدث وبالطريقة المضحكة هذه؟ وكأن الناس تعرف، أن النظر لما يحدث بصفته تمثيلية استعراضية تهكمية هو وسيلتها الوحيدة للدفاع عن نفسها، وسيلتها الوحيدة لعدم الهروب إلى الأمام، وسيلتها الوحيدة لعدم دفن رأسها في الرمال، وكأن ما يحدث هناك يخص أحداً غيرها. المصيبة التي تحدث في بغداد تخص الجميع، وهذا ما تقوله النكات، فهي نكات تضحك من المسلم والمسيحي، من الشيعي والسني، من الأرثوذوكسي والآشوري، من الكردي والعربي، من التركماني والكردي، من الصابئي واليزيدي، من الكلداني والأرمني، من السياسي ورجل الدين، من نائب البرلمان ومن الحرس الخاص، من البائع في الشارع والموظف الحكومي، من القواد والسياسي، من الصحفي والعاهرات، من رجال الدين والسفاحين، من الإنسان و…الحيوان! كل ما يدب على أرض العراق من أحياء، وكلما زاد الوضع سوءاً في بغداد، زادت احتمالات النكتة عند الناس هناك. إنها طريقتهم المباشرة التي اختاروها بالنظر للعالم، أنها رد فعلهم السريع، فماذا تبقى لهم، للخروج من الكارثة غير الفكاهة السوداء. ما يجري في الخارج يشبه في تفاصيله تمثيلية استعراضية تهكمية، تجرى أمام أعين الناس، ومثلما لا يحتاج الروائي اليوم في العراق إلا أن يرمي حجراً في أي مكان في بغداد فيقع على قصة، لا يحتاج المرء إلا أن يعاين حواليه، ما أن يغادر بيته ويمشي في شوارع بغداد، لتقع عيناه على مشهد يدعوه للتفرج عليه، مشهد يمكن أن يكون كل شيء.
منظر رقم واحد: مجموعة من سكان المحلة التي يقع فيها بيتهم خرجوا سوية في وقت واحد ما أن سمعوا صوت انفجار قنابل قادم من بعيد. في الوهلة الأولى لا يُعرف ماذا حدث، لماذا خرج هؤلاء على شكل فرق منظمة، وكأنهم اتفقوا على الخروج في تلك اللحظة، مثل كلاب بافلوف، ما أن سمعوا أصوات الانفجار؟ لكن ما أن يتكرر المشهد في اليوم نفسه أو في اليوم الثاني، وما أن يشاهد هؤلاء عائدين من مكان القصف ومعهم غنائمهم، حتى يعرف المرء أن بعض العائلات التي تسكن الشارع عقدت أحلافا فيما بينهم: يخرجون نساء ورجالاً صغاراً وكباراً إلى أي مكان يُقصف صدفة، لكي يجمعوا كل ما يمكن أن يعثروا عليه هناك، من الحديد والأثاث والأقمشة، كل شيء حتى المواد السامة، لكي يبيعوها لاحقاً، أحياناً يقومون بذلك، في وقت ما يكون القصف مستمراً!
منظر رقم اثنين: طابور سيارات كبير أمام إحدى محطات البنزين ينتظر التزود عبثاً بالبنزين، تقترب فجأة سيارة يطل سائقها برأسه (من الشباك)، ويخبرهم عن محطة بنزين أخرى قريبة فيها ما يكفي من البنزين، فجأة يصعد كل سائق إلى سيارته ويبدأون بسباق لكي يصل كل واحد منهم قبل الآخر للمحطة المقصودة. لكن ما أن يفرغ المكان حتى يرى المرء السائق ذاته يقترب من محطة البنزين، ليملأ الخزان على راحته.
منظر رقم ثلاثة: الدكان الصغير الذي كان ذات يوم عند زاوية الشارع، والذي كان يبيع ذات يوم الشمع، اختفى فجأة، يسأل الزائر الجديد، فيُقال له، إن الحاج فلان أغلق دكانه هذا وانتقل إلى مركز السوق الرئيسي، عنده الآن سوبر ماركت كبير، ويسكن فيلا في حي المنصور الراقي. كيف؟ من بيع الشمع؟ نعم من بيع الشمع واللمبات النفطية الصغيرة، كيف لا يحصل ذلك وتزدهر تجارته وأصبحت الكهرباء ذكرى تعود للماضي؟ ليس هو وحده من اثرى فقد أثرى معه أيضاً باعة آخرون: بائع البريمزات التي أصبحت بديلاً عن الطباخ الكهربائي، بائع صناديق الخشب لحفظ الأطعمة (ثلاجات خشبية)، وكل أصحاب المهن المهملة الصغيرة.
منظر رقم أربعة: أعداد كبيرة من الماشية تسرح وحدها عند تلال القمامة الواقعة على أطراف الحي، في الماضي كان المكان الذي تسرح فيه الكلاب السائبة، لا ينافسها على فريستها أحد هناك، وأقله أن تكون من الماعز والنعاج! اختفى الكلأ الذي تتغذى فيه الماشية إذن، وحلت القمامة محله، فهل ستتحول النعاج إلى كلاب سائبة في العراق؟
منظر رقم خمسة: رجل في الستين من عمره ينزل من ليموزين أبيض كبير أمام فندق من خمسة نجوم في المنطقة الخضراء، تتأبط ذراعه فتاة شابة في بداية العشرين من عمرها يحيط به وبها فريق كبير من الحماية. من هو هذا الرجل الذي يتحرك مثل مسؤول كبير؟ أنه المليونير فلان متعهد القمامة الأميركية، كان يعمل حارساً للسفارة البريطانية في العهد البائد، وبعد الاحتلال تحول إلى متعهد القمامتين: القمامة الأميركية والقمامة البريطانية في وادي الرافدين عفواً بلاد “ييلقمامتين”.
منظر رقم ستة: جنود عراقيون يفتشون ضمن الخطة الأمنية الجديدة عربة تجرها الحمير، خوفاً من أن تكون العربة أو الحمار مفخخين.
منظر رقم سبعة: دلالون (سماسرة) يعرضون عند بوابة الطب العدلي جثثاً مجهولة ترقد في المشرحة على أولئك الذين لم يعثروا على جثث أحبة لهم، سقطت صرعى في الحرب اليومية في بغداد، لكي يكون عندهم على الأقل قبر يزورونه ويبكون عليه.
المناظر التي يُمكن أن يحصي المرء العشرات منها، ليست هي وحدها التي تثير السخرية السوداء، بل هي تسمية سكان بغداد للأشياء أيضاً، تسميتهم لكل تلك البضائع التي دخلتهم للمرة الأولى، أو لموديلات السيارات التي أدخلت اليهم للمرة الأولى، تلفونات الموبايل التي كانت في زمن صدام حسين مثلها جهاز الفاكس والانترنيت، حلماً بعيد المنال، حيازتها كانت من الممكن أن تقود للسجن أو الموت (سيُتهم بالتجسس للعدو)، دخلت إلى حياة العراقيين وهي تحمل أسماء لا تخلو من الفكاهة المذكورة أعلاه. فهذا الموبايل اسمه “علاوي” لأن رأسه صغير، وجسمه ضخم، مخروطي الشكل يشبه شكل رئيس الوزراء الأسبق آياد علاوي، أو سيارات المرسيدس موديل “أم دمعة”، لأن منظر اللمبتين الأماميتين يشبه دموعاً تسيل!
ولكي نعرف إلى اي مدى وصلت السخرية عند العراقيين، علينا أن نروي النكتة التالية:
شاب يجلس مع أمه أمام التلفزيون ويرى صور سجناء عراقيين تكوموا على بعضهم في المشهد، فيسأل أمه، هل تريني هناك؟ فتقول له، أين أنت؟ لا أرى أحداً، فيجيبها، كيف لا ترين، أنا المؤخرة الثالثة إلى اليمين!
شعب يرى نفسه وقد تحول على طريقة المثل الأسباني “مؤخرة في الهواء”، ماذا ننتظر منه غير أن يرى العالم كله على شكل تمثيلية استعراضية تهكمية تثير الضحك “الأسود”؟ أليست تلك هي الوسيلة الوحيدة التي بقيت أمامه، لكي يحتفظ لنفسه بدور البطولة في المسرحية الهزلية هذه التي تدور أمامه وأمام أنظار العالم جميعاً، حتى إذا عرف أن مجرد التفكير بذلك بكونه البطل الذي لا ينازعه أحد على دوره ـ هو مجرد نكتة!
——
المستقبل