رضوان حسين
تزوّج حمو، الوحيد لأخواته الخمس والاصغر فيهم، وهو في الرّبيع السّابع عشر من عمره، عن قصة حبٍّ معلنةٍ، من “منجة” ، بنت الجيران الجميلة. أحبّ جميعُ سكان القرية الصغيرة حمو؛لم يكن مُدلّلَ أخواته وأمّه فقط، وذلك لطيبته، ونبله وكرمه وشجاعته، ووفائِه عهودَه. يقول دائماً ” كلمتي و رأسي سيان”، وأيضاً هو فنانٌ مبدعٌ بالعزف على الطمبور، وقد حفظ الكثير من الاغاني التراثيّة الكورديّة.
سمعها تغني في إحدى ليالي الّسمر الصّيفيّة الاعتياديّة في القرية، في البيادر، صوتُها انغرز في قلبه كسهمٍ مربوطٍ بحبلٍ، أحسّته بنشوةٍ، فطارت روحُه هائمةً إليها. راحَ يسترقُ النظر إلى الفتيات، وهن يرقصنّ ويرددنّ الأغنية الرّاقصة عن ” منجة”، ذهب ليأخذ طمبوره بسرعة، وعاد إليهنّ وهو يعزف لهن أرق الالحان، ومنجة تغني، والبنات يرددن.
هكذا كانت بداية الحبَ بين حمو ومنجة، أصبح حمو الرّجل الوحيد في حياة منجي، وحمو أعلن للجميع أنّها محبوبته، وسيتزوجها، وليس هناك امرأة في القرية غيرها، أمّا بقية النّساء فهنّ إما أخواته أو بمقام أمّه.
حكى الجميع عنهم، عن حبهم، بالطبع بالسوء، لأنهم لا يستحونَ ويعلنون عن حبهم، ولأننا نستحي من الحبّ ونفتخر بالكراهية، وليس من عادات الأباء والأجداد أن يجهروا حبّهم!
عندما سألها والدُها: – هل صحيحٌ أنّك تحبّين حمو؟
– ردت بثقٍة وبشكلٍ قاطعٍ: نعم يا أبي، أنا لم أخطىء، ولم نعمل أيّ حرامٍ ، إن حبّنا من عند ربّ العالمين، وهل نستطيع مخالفة إرادة الله ؟
– ولكن، مازلتم صغاراً .
– نعم يا أبي، سنتزوج حينما يأتي الميعاد المناسب!
شارك كلّ أهل القرية بعرسهم المهيب، ورقصوا لمدة سبعة أيامٍ، أصبحا رمزاً للحبّ المعلن الطّاهر، وتحوّل الحبّ من العيب إلى الفخر والعزّ، في القرية، وكانت كنعمةٍ وهبةٍ إلهيّة.
مثلما كان حبّهم غير اعتياديٍّ و بمثابة أسطورة القرية، بقي كذلك زواجهم، إذ ازداد تعلّقهم ببعض، وكبر حبّهم. قالت منجي في إحدى المرات: من كثرة حبّي لك، أخاف ألا يتحمله قلبي، وينفجر صدري في يومٍ ما.
لا يفترقان إلا في حالات اضطراريّة، يمشيان معاً وهي تتأبطه، بعكس نساء القرية اللاتي يمشينّ وراء أزواجهن، أو ينتظرنّ أن ينهي الرجال أكلهم، ثم يأكلنّ، أما هما، منجي وحمو، يأكلان دائماً في صحنٍ واحدٍ، وكلٌّ منهما يقرّب للثّاني اللقمة الأشهى، وعندما يغيب حمو تنتظره في الشّباك المُطّل على الطّريق، تلمحه من بعيدٍ، تركضُ إليه، وتنتنظره عند الجسر.
عندما عرفت منجة أنّها حامل، صرخت من الفرح وقفزت إلى احضان زوجها، ومع مرور الأيام، يمنعها حمو من العمل، ويشتري كلّ ما تريد، ويسألها كلّ ساعةٍ: “تريدين شيئاً؟” والجوابُ دائماً: “لا أريد شيئاً إلا أنت، وأن يأتي ابننا بسلامٍ.
في ليلةٍ حالكةِ الظّلام، كان الطّقس في الخارج غيرَ مفهومٍ، حتى الشّيطان نفسه لا يستطيع معرفة ما إذا كان الشتاء قد حلّ أم ما يزال الخريف المتأخر. الظلام دامسٌ جداً، في كلّ مكان، وعندما تبتعد عن الفانوس تعتقد بأنّ عينيك قد اقتلعت؛ تنظر وتنظر ولا ترى أيّ شيء سوى الخطوط المضيئة من البرق بين الفينة والأخرى، كما لو قد وضعوه في برميلٍ مليءٍ بالزفت. المطر يهطل بغزارةٍ، ينسكب على الأرض مع زمجرةٍ، وصفير الرياح الباردة والحادة التي تنخر العظام بشكل رهيب وعويلها ،مع أصوات البرق، كانت وكأنّ ساحرة شريرة مايسترو في أوركسترا تناغم أصوات الطبيعة المخيفة .أما على الأرض تنغرز الأرجلُ في الطّين بشدّة تحت الأقدام، باختصار، إنها ليلةٌ يستمتع بها اللّصوص والمجرمون، لكن ليست ليلة مناسبة لولادة منجة، والتي أتاها الطّلق في الساعة الثانية ليلاًمع بداية الرّعد.
هرع حمو لعند الدّاية، وقع مرتين، كسر الفانوس الذي استدلّ به، لكنّه عرف بيت الداية، “أرجوك يا يادي، منجة بحاجتك”. أسرعت الدّاية، وهي تتمسّك بحمو إلى أن وصلوا إلى البيت، أمرت الداية بأن يخرج، وأن ينادي للخالة حليمة، أتت حليمة مع كنتها، وجميعهن صاحبات خبرة، تأخرت الولادة، وحمو على نارٍ في الغرفة المجاورة، ينتظر صراخ المولود، بدأ حمو بالدعاء وقراءة كلّ ما يعرفه من الآيات والأدعية، ثمّ انتقل الى بقية الانبياء عيسى وموسى… يتراجاهم ، ولكن لم يساعدوه، خرجت الداية وقالت “إنّ الولادة معسرة، ويمكن أننا سنحتاج الى الطبيب”.
في القرية لا توجد سيارات، فقط عند أحدهم جرارٌ زراعيٌّ، كان الوقت عندئذٍ نهاراً، أصبحت الرؤية واضحة، ولكن المطر والرياح حلفوا أن يتباروا.
دخل حمو إلى بيت صاحب الجرار، ونزل على ركبتيه وقال: “داخلٌ عليك وعلى أولادك أن تنقذ منجة، نحن بحاجة الى طبيب”.
فهم الحجي إبراهيم القصة، وبدون تردّد قال له: “سأذهب، ولكن ليكن بعلمك، لن يصل الجرار الى البلدة وستنغرز المركبة في الطين، ناهيك عن فيضان النّهر، ولكن سأعمل كلّ جهدي .
عندما رجع الى البيت، قالت الداية لحمو: “إنها تريدك”. دخل إليها وهو يقبل يدها ورأسها ووجها، “هل أنتِ بخير؟”، ابتسمت ابتسامةً صفراء حزينة، وأمسكت بيده، وبعد ساعة قالت له: “أنا آسفة جداً يا حبيبي، أنا احبك”. وأغلقت عينيها إلى الأبد.
حمو تمدّد بجانب سريرها ووضع يده تحت رأسها، كانت عيونها مفتوحةً، لم يدرك حمو ما حوله، لم يكن نائماً لكن لم يدرك أيّ شيءٍ حوله. لم تستطع النساء إزاحته من عندها، في المساء استنجدنّ ببعض الرجال، لكنه لم يستجب إلى اليوم الثاني، حيث قام حمو دون أيّ كلامٍ، وقامت النساء بتجهيز منجة للدّفن. بعد الدّفن رجع إلى البيت مع الجميع، لكنّه لم يقبل الدعوة للعشاء، أخذ من البيت قطعة خبز وذهب الى المقبرة، قسم الخبز، أكل نصفه وأعطى النّصف الثّاني للقبر. ثم ضاع، لا أحد يعرف إلى أين ذهب.
بعد سنة لقاه أحد رجال القرية في المدنية يمشي بثيابٍ رثةٍ، يلحق به الأطفال ويرمونه بالحجارة والفواكه، وينادونه بحمو دينو (المجنون)، وهو يمشي بعيون فارغة دون أن يدركَ العالمَ حوله.
دبي 21.02.2023