نصر محمد / ألمانيا .
-الشِّعرُ هو ولادة بما يصاحبها من وجع وألم ، وما يتلوها من فرحة بالخلق والإبداع ، الشِّعرُ لصيقٌ بالوجدان والوجود .
-تأخذُنا خطواتنا نحوَ ابتسامة حرفه المُعلَّقِ في خلجات قلمه ، ما عُدنا نذكر خلجات المكان ، فقط نرافق الصمتَ مع كل صرخاتِ الورق ، نرنو نحوَ اللا مسافة ، نحاولُ قطفَ المعاني من الشجرة ذاتها المُتَّكئةِ على راحة الانعتاق ، نحوَ عباراته الموغلة في حدائق الروح ، فتطوِّقُنا استفهامات بطعم الإحساس ، و وشوشة قصيدته تبسط كفَّها لتغرفَ النشيدَ النابضَ في أعماقنا ، فنتشاركُ في أبجدية مرقَّمه ، و نتأبَّطُ السفرَ نحوَ عاطفته بينَ مسرَّة و ألم ، بينَ واقع وحلم .
-صدر مؤخراً ديوان ( كتاب اللمحات ) للشاعر السوري صقر عليشي عن اتحاد الكتاب العرب ، و هو الكتاب العاشر للشاعر في ترتيب مجموعاته الشعرية .
يحوي الكتاب بين دفَّتيه ثلاثين لمحة على امتداد مائة وثلاثين صفحة من القطع المتوسط .
-ليلة أمس أمضيتُ وقتاً طيِّباً مع ديوان ( كتاب اللمحات ) للشاعر صقر عليشي ، أرسلتها لي الصديقة الشاعرة والكاتبة ميرفت أحمد علي .
-قبل إن أدخلَ إلى عالم القراءة من بابها الواسع ، عليَّ أنْ أعرِّفَ القارئَ بالشاعر صقر عليشي .
-الشاعر صقر عليشي يعدُّ واحداً من جيل الثمانينيات في الشعر السوري ، لكنه يشكِّلُ حالة فريدة ، لا تشبه أحداً و لا يشبهها أحدٌ ، لغته الشعرية سلسلة وبسيطة ، وسخرية نادرة لم يتناولها في الشعر إلا القلائلُ من المُغامرين ، قصائده لها نكهةٌ خاصةٌ ، يُوظِّفُ المفردة البسيطة فيمنحُها طاقات إضافية ، لتأتي تراكيبه الشعرية مدهشة ، يعتمد على اليومي والمألوف ليصوغ شعراً غنياً بالصور باحثاً في التفاصيل من معنى وراء معنى .
-صقر عليشي: شاعر وناشر سوري، مواليد (1957)، عين الكروم (إحدى قرى سهل الغاب في ريف حماة)، من أبرز شعراء جيل الثمانينيات في سورية، عضو اتحاد الكتاب العرب، مؤسس مجلة الينابيع، ودار الينابيع، تناولت تجربته الشعرية دراسات وأبحاثاً وأطروحات أكاديمية، جُمِعَ أغلب نتاجه في إصدار (الأعمال الشعرية) 2008، صدر له (بعينيكِ ضعت، قصائد مشرفة على السهل، الأسرار، قليل من الوجد، أعالي الحنين، عناقيد الحكمة، أحاول هذا الكلام الوثير، معنى على التل)، أصدر مؤخراً: (أسطورة فينيقية)، عن الهيئة العامة السورية للكتاب، له 4 مخطوطات شعرية تحت الطبع،
-سأبدأ قراءتي المتواضعة بهذه الشذرات للشاعر صقر عليشي .
لم أتركِ الحزنَ يقعي وحيداً
على الباب
جئتُ إليه و أدخلته
و جلسنا معاً حول طاولة
و جلبتُ الشرابَ
… …. ….
لم اطأدعِ الأفق
خالي الوفاض
و أرسلتُ طيري يؤانسه
وسرحتُ في سهله ناظري
وتركتُ له في القصيدة
فصلَ الخطاب
… … …
لم أكشَّ الفراشة عن مفرادتي
لم أتناولْ بسوء لها اثراً
ولم أتَّهم جانِحيها بوهنٍ
سلوها
تركتُ لها أن ترفرفَ مزهوَّةً
وكنتُ حريصاً على نشر لألائها
في الكتاب
-في هذه المجموعة لوحات ملوَّنة عن مواقفه الفلسفية والأدبية والنقدية والإنسانية بلغة بسيطة ، فالشاعر يحاورُ قاماتٍ أدبية وشعرية كالمعرِّي والمتنبي وعُروة بن الورد ، تتَّسم هذه الحواراتُ بالطرافة والجدية .
-فيقول في لمحة المعري :
لو أنَّ المعرِّيَّ أدارَ عنايته
لحديثي و نُصحي
لَعاشَ طليقاً
ولم يتغضنْ به العمر
وهو رهين المحابس
… … …
لو كانَ يقرأ شِعري
لما ظلَّ في الهم والبؤس
جالس
… … …
في صباي أتيتُ إليه
جلبتُ زبيباً وتيناً معي
أبنتُ له من خفي الأمور
بشرح جليٍّ و مُحكم
وحاولتُ إقناعه ما استطعتُ
بأن لا لزومَ لما ليسَ يلزم
و أنَّ النساءَ
جمالٌ لوجه الجمال
ومن دونهنَّ يكون الكلام
حسيراً و دامس
… … …
لكنه لم يثقْ بحداثة سني
وغادرته وهو جهم اللغات
وعابس … اااالخ
-صقر عليشي يمتلك ثقافة واسعة ، يمتلك مجموعة من المبادئ والقيم ، وعملَ على ترجمتها شِعراً ، استطاع من خلالها أن يبنيَ علاقته مع اللغة .
-يقول في إحدى لمحاته :
أريدُ الكلام بأجنحةٍ
في القصيدة
كيف تُحلِّقُ متعتنا عالياً
دونها
وكيف تطير المعاني
إلى أفق من ذهب ؟!
-أيضاً يستحضر الشاعر صقر عليشي في مجموعته الجمادات كالجبل ، الغبار ، الريح ، السماء فيقول في لمحة عن الريح :
إنها الريح
تهتزُّ هذي القصيدة
إن عصفتْ
ويهتزُّ منزل جدي
القديم
… … …
إذا سافرت
لا تقول إلى أين ؟
إن غضبت
أخذت بالهزيم
لكم مرغتْ أنف الافق بالأرض
فأربدَّ وهو كظيم
… …. …
ولها رأيها الفلسفي
استقلت به عن ( أثينا )
( ولم أختلف معها )
وكم طلعَ الصبح
وهي تكيلُ شتائمها ، علناً
للهدى واليقين
… … …
قد يكون النسيم
حفيداً لها
سمعتُ سباباً توجهه نحوه
تداعبه وتناديه ، يا بنَ الذين …
-وأيضاً يستحضرنا الشاعر صقر عليشي التاريخ إلى جانب استحضار بعض الرموز الأثيرة مثل : أبانا آدم ، نوح .. إلخ
فيقول في لمحة عن أبينا آدم :
لم يكن جدُّهُ القرد
أستغفرُ اللّٰهَ
هذي من الشائعات
لم يعشْ أي جد له
في مجاهل إفريقيا
أو على شجر الجوز في الهند
يقفز من فوق أغصانها
العاليات
لم يشاهد لأجداده ذنباً
يتدلون منه هناكَ
… … …
و أثناءها
كان في جنةٍ
عرضها
عرض هذي السموات والأرض
يمرح بين الظلال وحيداً
يغطي له سوءة ورق التين
يخصف منه
و ما كان صاحبَ علم غزير
كان يعرف أسماء
يعرفها الآنَ طفلٌ صغير
إنما كانَ صاحبَ ذوق رفيع
وتغريه تفاحة
ليغير وجه المصير
-القصيدة في ديوان ( كتاب اللمحات ) .
( ليسَ أداة في يد الشاعر ، ليس كلمات يلوح بها فيثير الناس أو يرضي مشاعرهم و يداعب رغباتهم ، الشعر هو نسغُ الزمان والمكان ، يغذبهما ويثريهما بما يبيت فيهما من حياة ) .
فيقول الشاعر في لمحات من الشعر :
أريد الكلام بأجنحة
في القصيدة
كيف تحلِّق متعتنا عالياً
دونها
وكيف تطير المعاني
إلى أفق من ذهب ؟
… … …
ليأتِ الكلام بأجنحة النسر
أما أحب
يجوب بها في الفضاء البعيد
يصيد العلا
والرؤى
والرتب …اااالخ
-وفي لمحته الأخيرة ، لمحة عن الحنين يقول :
هذا حنين
زادَ عن حدنا
وقلبَ الأفق علينا
وفاضَ
وقد محا منا على كيفه
فما تبقى
غير واهي البياض
كم خُلِقَ الحنينُ
من نهنهٍ !!
ليس على خلق الحنين
اعتراض
( الحنينُ اعتراض على الحاضر ، توقٌ إلى مكان ما ، واستعجال بوجوب تحقيقه لاحقاً ، لأن الزمن يتجه إلى الأمام ، وما في الحنين يكون نظير مأساة ، أو محنة ) .
-وفي الختام : إنَّ كتاب لمحات للشاعر السوري صقر عليشي يستحق القراءة العميقة ، باعتبار قصائده تشبه روحه وعمق مسيرته الحياتية الصعبة .