حين يغني محمد شيخو في أعالي قاسيون

  كرم يوسف
keremyusiv@hotmail.com
 
لم أكن أتصور يوماً ما، أني سأتخلى عن إحدى أمنياتي في اكتشاف شوارع ومنازل أخرى في مدينتي قامشلي، أو أن يتسلق الكسل عوالم الاكتشاف فيَّ.، دون أن أحدد تاريخاً لزيارة مدينة أخرى في سورية، لأكتشف ولادتها الطبيعية في عينيّ..، ولكن الذي حدث أنّي تخليت عن هذا الأمنية، وعن أمنيات أخرى أجمل..!

كثيراً ما سمعت عن مدن تكبر مدينتي، وكثيراً ما سمعت عن مدنٍ أكثر كثافة من مدينتي، أو أقدم من مدينتي عمراً، لكن حبي لمدينتي كان حاجزاً أمام تصديق كل الأشياء التي تجعل من مدينتي أصغر حجماً، كثافةً، قدماً…
بقيت على هذه الحال ، حتى زيارتي المؤخرة، والمفاجئة إلى العاصمة دمشق ، حيث كنت مضطراً، وعلى غير عادات الزيارات السابقة، لأن أعتمد على نفسي في سبيل تسيير غرض زيارتي، دون أن أعتمد على أحد، لأضيع بين الميكروباصات ، ولتكون يدي على قلبي، خشية تجاوز العنوان الذي أقصده، حسبما دون لي الأصدقاء، على ورقة صغيرة كانت في يدي…
رغم كل هذا، كنت مصرّاً على أن مدينتي الشمالية هي أكبر من كل المدن، إلى أن تمت رحلتي الأخيرة إلى قاسيون، لتتكسر كل هواجسي التي كنت مصرّاً عليها أمام كِبَر العاصمة دمشق، حيث أضواء المدينة تمتدّ إلى ما لانهاية ، في تلك اللحظة كان علي الاعتراف بأنّ مدينتي صغيرة بالنسبة إلى العاصمة دمشق..
بعد وصولنا إلى آخر نقطة يقصدها الناس مشياً على قاسيون ، هدنا التعب ، اضطرنا لاستراحة قصيرة ، وكعادتي في كل مساء، فتحت مجلد أغاني محمد شيخو في الموبايل ، لتكون هذه لحظة أكثر دهشة وغرابة من اكتشافي الأول لصغر مدينتي ..!
 كانت لحظة يصعب عليّ أن أتلقّى إحساسها دفعة واحدة، محمد شيخو، وقاسيون، هذا الأمر الذي لم أفكر به، أن أستمع لمحمد شيخو، وهو يغني بالكوردية في دمشق، بل وعلى ثرى قاسيون، أحسسته لم يغن لي فحسب، بل لكل الدمشقيين ، والخلفاء الأمويين، والأيوبي صلاح الدين، لا بل يغني بالكوردية إلى البنائين الذين بنوا أول منزل و أول قصر لأول حضارة في دمشق ، أيا ً كانوا……!
قست من جديد مساحة دمشق ، بحسب نغمة أوتار محمد شيخو ، وحاولت إحصاء ملايين الأضواء تلك في بحّات صوت محمد شيخو ، دون أن أنجح، ودون أن أتخلى عن محاولاتي، لأصير أسير فرحة أكبر من قلبي الذي يحسّ بها.
مع محمد شيخو الذي استمعت إليه مع أبي، وكل أعمامي، وأخي الكبير، وكلّ من هم أكبر مني ، ثم لاحقاً مع مجايليّ، صار الاستماع إليه عندي عادةً ، بل إدماناً، وترى، هل يستطيع الإنسان أن يتخلى عن عاداته، أو ينفك من قبضة إدمانه ، وهو –أي” الإنسان: عادة!” ، كما رآه عبد الرحمن منيف، لذلك صرت أقيس الأمكنة بمدى مناسبتها لغناء محمد شيخو..
صارت دمشق أجمل من قبل ما كانت عليه قبل لحظات،قبل أن يغني فيها محمد شيخو بالكوردية ، صارت كلّ النساء اللواتي غنى لهن في تلك اللحظات ، بالنسبة لي دمشقيات ، وصارت في تلك اللحظات عندي الأحياء التي اشتاق إليها محمد شيخو أحياء دمشق، لأنه طالما كان عندي إحساس بأن محمد شيخو يغني للمدينة التي أسكنها أنا ، و لا يتغزل إلا بأنثى مدينته التي هي مدينتي أنا …

مع نسمات قاسيون التي كانت تلفّ جسد أغنيات محمد شيخو مهما حاولت أن أرفع من صوت الموبايل ، كان لا بدّ لي من الاعتراف بأنّني في هذه الزيارة الأخيرة، لم أسافر إلى دمشق، بقدر ما سافرت في صوت محمد شيخو في دمشق ، ناسياً تعب تسع ساعات قطعتها ذهاباً، وسأقضيها إياباً إلى ومن دمشق، وكأنيّ أسهمت – للمرة الأولى –  في إقامة حفل موسيقي فني- له- بعد كل هذه السنوات من غيابه……!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…