ليلى نصير توقظنا على نص تشكيلي لا يكتمل و ترحل

غريب ملا زلال 

إذا كانت المرأة السورية قد ظلمت عبر التاريخ في كل الميادين ، فكان لا بد من الظلم أن يلاحقها حتى في الجانب الإبداعي ، و منها على نحو أكثر الفنانات التشكيليات منهن ، و على الأخص تلك الرائدات في هذا المجال و اللواتي لا تقل أعمالهن كقيمة جمالية عن أعمال الرجال في الزمن ذاته ، فلم ينصفهن النقد و لا التوثيق نذكر منهن : إقبال ناجي قارصلي ( 1925-1969 ) ، و خالصة هلال ( 1940 ) ، ضحى القدسي ( 1944 ) ، لجينة الأصيل ( 1946 ) ، و زهيرة الرز ( 1938 ) ، و هند زلفة ( 1942 ) ، و ميسون جزائري ( 1946 ) ، و هالة مهايني ( 1947 ) ، و سهام منصور (1949 ) و أخريات ، إضافة إلى ليلى نصير ( 1941 ) التي سنقف عندها في قراءتنا هذه .
تمتد سيرة ليلى نصير التشكيلية إلى أكثر من نصف قرن ، فهي المتخرجة من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام ( 1963 ) و من حينه و هي تعزف اللون و الخط ، الظل و الضوء ، و تخرج لنا بسيمفونيات عذبة ، و هي من أهم الفنانات التشكيليات في سورية ، كما أنها من النساء الأوائل إن لم تكن أولهن في كسر الجدار الإسمنتي الذي بني في حينه و ما يزال بين الرجل و المرأة ، فلبست البنطال و دخلت المقاهي ، و فرشت الأرصفة ، فهي ترفض كل ما كان حكراً على الرجال و رمته من الذاكرة ، و هذا بحد ذاته شكلاً من أشكال التمرد على المألوف و الذي سينعكس حتماً في أعمالها ، فهي لا تتخلى عن حريتها التي تمارسها في مختلف مناحي الحياة ، حتى وهي 
 تقترب من ريشتها فتتخلى عن كل ما يمكن أن يقيدها من خواتم و أساور ، بل و تخلع حذاءها أيضاً ، لتبقى طليقة ، حرة .
 تعتبر نصير أحد رواد الفن التشكيلي في سورية ، قضاها و مازالت في التجريب ، فعمليات البحث و التجريب عندها لم تتوقف فخاضت في الواقعية بإيقاعاتها الكثيرة ، كما أنها قاربت كل من السيريالية و التجريدية و قد نجد عندها و في عمل واحد آثار أكثر من إيقاع ،لكن تبقى التعبيرية بكل معزوفاتها الأقرب إلى ما يشغلها حيث الإنسان و أوجاعه و شقائه هي هاجسها ، التعبيرية التي يجعلها تقترب من القيم الجمالية بصفاء الحس ، و بفضاء تخيلي يشكل تناغماً عذباً مع دوائر تولداتها التي ستشكل فيما بعد القيمة الحيوية لحركة تجربتها الممتدة في عقود طويلة .تجربتها التي ستشكل مشهدها البصري في مختلف ظواهره دون تحديد أي أُطر داخلية أو خارجية لها .
نصير وبإحساسات خاصة تركز في أعمالها على الوجوه التي تحمل كل منها مجموعة قصصية كاملة و على نحو أخص العيون منها كونها مرآة للنفس الإنسانية ، و تتحدث بكل المكنونات و الموجعة منها على نحو أوضح ، فإنطلاقاً من ذلك تدمج نصير أشكال الإنسان بوصفه ذي طبيعة صوفية تأملية بالرغبة الملحة في التوحش على مدار المدى ، فالفكرة التي ترغب نصير إيصالها لا تختصر بشيء واحد ، بل بالأشياء جميعها ، فهي تنوي إطلاق النار على ما يجعل الإنسان لا إنساناً ، و بأن هذا الرأس المركب على كتفيه خلق كي يجمل الحياة لا أن يقذرها ، و إذا لم يكن كذلك فحينها على هذا الرأس أن يبدل برأس حيوان ، قد يكون هذا مشروعها أو تجربتها القادمةكما أوحت بذلك في أحد لقاءاتها و نتمنى أن يمد الله بعمرها لتحقق مشروعها الحلم و نعيش نحن معها حلمها .
نصير تبرز دور الخط و قد يكون هذا ما يدفعها إلى الإختزال في اللون حيث لونها ليس غنياً بما فيها الكفاية ، فتستعين بتقطيعات هندسية متنوعة الكثافة تنسجم مع تكوينات اللوحة و تبعد المتلقي من الإيهامات الساذجة و ما يرافقها من العلاقات البصرية المضللة ، أي أن نصير تمنح نصها الحرية المطلقة فهو مقبل على تأويل لانهائي ، كأنها توقظنا على نص لا يكتمل ، فكل قراءة ترسم مسارات لقراءات أخرى ، كل منها تشكل شبكة من العلاقات بين فواصلها قد لا تنسجم بالضرورة مع إيقاعات النص ذاته ، فهي أي نصير ترفض التوقف عند مقولة أو عند كلام قد يختصر نصها /عملها ، فما أنجبته هي تعيش المخاض المستديم ، في سعيها لبلورة نص /عمل خلق كي يعيش الأبد حيث اللازمن يغري أصابعها بالبحث عن آليات التمركز في فرضيات تسير بالضرورة نحو الإحالات و اللانهاية . 
من كل ذلك نستنتج أن ليلى نصير تعود إلى أعماق الإنسان بحثاً عن الإنسان ذاته في أنبل معانيه ، مع التماس التام بالروح بوصفه نبوءات حرة تدور في فلك الرؤيا بمداراتها الكثيرة ، فهي و في سياق الإنكباب على التجريب تختط لنفسها سبلاً تتمثل بسرد حكاياها من داخل حكايتها الكبرى و ذلك بتوظيف طاقاتها لأسطرة رؤياها للحياة و للإنسان . 
‏.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ا. د. قاسم المندلاوي

 

فنانون الكورد في غرب كوردستان عاشوا تحت كابوس الظلم والاضطهاد والاعتقالات و التهميش خلال فترة حكم الرئيس السوري الاسبق الطاغية حافظ الاسد الذي حكم سوريا بالحديد والنار اكثر من 30 سنة ثم جاء دور ابنه النازي الجبان بشار الاسد والاكثر ظلما والذي هرب من غضب الشعب ومع عائلته الى روسيا، وفي ظل…

ترجمة وتقديم : إبراهيم محمود

عدنان حسّان شاعر كردي، يستحق أن يكون شاعراً كردياً.ما أكثر رهانه على عفوية القلب، وبساطة التعبير، وسلالة الرؤية. لا أكثر من القلب نسيجاً لكلماته، ولا أكثر من الحب تلويناً لهذا النسيج، ولا أكثر من التناوب بين الحسي خارجاً، في العينين، الشفتين، الصدر، وحتى الشعر المرفق بالمشاعر والأحاسيس، والشعوري النفسي، ومقام الشوق…

غريب ملا زلال

فنان يلاحق الذات ويتمسك بها

العلاقة وطيدة بين الكتابة الأدبية والفن التشكيلي، وخاصة الشعر، الذي كان ومازال مرتبطا بالصورة أكثر من غيره من الأجناس الأدبية الأخرى. وأن يجمع فنان بين الكتابة الشعرية وعالم الصورة ممثلا في الفن التشكيلي لا يمكنه إلا أن يخلق تجربة فريدة من نوعها على غرار تجربة الشاعر والفنان السوري محمد…

جوان سلو

 

* الجدران الصامتة تعشق العزلة. فهي تثير فيها رغبة الإنصات، الجدران التي تحتفظ بين شقوقها الأسرار والهموم، هناك يجد الاكتئاب لنفسه موضع قدم كي ينشر شبكة أوهامه في روح صاحبها المعتزل الذي يؤكد من خلال بث أحزانه للجدران مقولة: إن للجدران آذان.

في زوايا ذلك الصمت المطبق تنمو الأفكار كالأشواك في الصحراء، يتحدث الألم مع…