هيثم حسين
لم تعد الحرب الحديثة، كما كانت، حرباً بالسلاح والمواجهة الميدانيّة فقط، بل بات أهمّ ما في المواجهةِ، ما قبلها ذاته، لأنّه يهيّئ الأرضيّة التي سيتواجه عليها المرء مع العدوّ، وهذه الساحة التي يُشتغَل عليها بنصب كمائن، وتمويه فخاخ معدّة بإتقان ولؤم كي تودي بمَن هي منصوبة لهم، بهؤلاء الذين يعزّ عليهم تصيّدهم في الميدان الذي يحتاج إضافة إلى ذلك أموراً يصعب توافرها بسهولة، ويعجز عن اكتسابها ببساطة، لأنّها بدورها مقرونة مع شروط أخرى..
لم تعد الحرب الحديثة، كما كانت، حرباً بالسلاح والمواجهة الميدانيّة فقط، بل بات أهمّ ما في المواجهةِ، ما قبلها ذاته، لأنّه يهيّئ الأرضيّة التي سيتواجه عليها المرء مع العدوّ، وهذه الساحة التي يُشتغَل عليها بنصب كمائن، وتمويه فخاخ معدّة بإتقان ولؤم كي تودي بمَن هي منصوبة لهم، بهؤلاء الذين يعزّ عليهم تصيّدهم في الميدان الذي يحتاج إضافة إلى ذلك أموراً يصعب توافرها بسهولة، ويعجز عن اكتسابها ببساطة، لأنّها بدورها مقرونة مع شروط أخرى..
حتّى لو توقّفت العمليّات الحربيّة، فإنّ المواجهة مستمرّة على مختلف الصعُد، ويكون غير المباشر أكثر تأثيراً في حالات كثيرة، ومن ذلك الهالة الدعائيّة التي يعمل أيّ عدوّ على بثّها لتعظيم نفسه، وإظهاره أعداءَه سُذَّج يستحيل عليهم مقارعته، لا في ميدان المعركة ولا في أيّ ميدان آخر، وتضخيم الأساطير التي تتغنّى بفرادته وعظمته، وتحتكر كلّ فضيلة له، مع إلصاق كلّ رذيلة ونقيصة بعدوّه، إنّها جزء ممّا يُصطلَح عليه، بالغزو الثقافيّ، أو الحرب الشاملة ثقافيّاً..
ما أريد التركيز عليه، هو الفلمُ التركيّ الذي أصفه بـ: الفلم المؤامرة، “وادي الذئاب ـ العراق”، وهو المدعوم من الاستخبارات التركيّة على أعلى مستوى، والإنتاج الأضخم في تاريخ السينما التركيّة، بحسب ما يقال عنه.. وقد جاء ردّاً على العمليّة التي قام بها الأمريكان في بداية الحرب على العرق ضدّ أحد عشر جنديّاً تركيّاً في السليمانيّة، إذ اعتبرها الأتراك يومذاك إهانة للشرف التركيّ ونيلاً من هيبة الدولة.. الفلم من تأليف بهادر أوزدنر، سيناريو وإنتاج راجي شاشماز، إخراج سردار آكار، بطولة وتمثيل مجموعة كبيرة من الفنّانين الأتراك والعرب والعالميّين، من تركيا: عدد كبير في مقدّمتهم: نجاتي شاشماز، من أمريكا: بيلي زان – (الذي يلعب دور خطيب روز الملياردير في فلم تايتانك)-، ومن سوريا: غسّان مسعود، جهاد عبدو.. وغيرهم كثيرون.. وقد مُثِّل الفلم في ولاية عنتاب في تركيا، باعتبار الجغرافية نفسها جغرافيّة كردستانيّة، حيث مجريات الفلم كلّها تدور في العراق، خاصّة في شمال بغداد (المناطق السنّيّة)، وكركوك، وإقليم كردستان العراق…
فمن جهة ترعى تركيا وتدعم إنتاج السينما بالملايين، وتؤمّن عرض ما يطرح سياستها في أكثر الأمكنة جمهوراً وتأثيراً في صنع القرار، ومن جهة أخرى تضع كلّ ثقلها لتمنع فلماً كرديّاً من العرض هنا وهناك، في صالات العرض، أو في المهرجانات..
كُتب عن هذا الفلم،”وادي الذئاب ـ العراق” من جوانب مختلفة، منها ما هو داعم للفلم الذي يقدّم سياسة تركيّة، ومنها ما هو معارض له أشدّ المعارضة، باعتباره معادياً لأمريكا وسياستها في المنطقة، ومخطّطها التفتيتيّ الذي تصرّح به ممارساتها، لذلك تغيّبت نقاط هامّة عن هذه الكتابات، خصوصاً تلك التي تتعلّق بالجانب الكرديّ، وكيف يتمّ تقديم صورة الكرديّ في الفلم، ولصالح مَن يعمل، وهل له قرار في كلّ ما يُلقَى فيه، ويلاقيه، وغيرها أسئلة مبطّنة، نماذج ممثّلة، يطرحها الفلم بذكاء، وتبسيط ليكون التأثير مضاعفاً.. كما مُنع الفلم من العرض في بعض البلاد العربيّة، هنا وهناك، وقد عُرض في سوريا في أكثر من مكان، جامعة حلب منها..
تظهر صورة الكرديّ، وتُظهَّر في الفلم على أكثر من ثلاثة محاور:
– مع الأتراك. – مع الأمريكان. – مع المسلمين.
مع الأتراك: متمثّلة ومتجسّدة في صورة (عبد الحيّ)، الاسم الذي لا يخفى صداه الإسلاميّ، باعتباره من خير الأسماء، من مجموعة (الـ: عُبِد)، هذا الذي هو ثالث اثنين من المافيا، التي هي ذراع الاستخبارات التركيّة الرئيس في عملياتها المشبوهة، يقدَّم على أنّه النموذج المثاليّ للكرديّ المقيم في تركيا، وأنّه يدعم رؤساءه، ويساندهم حتّى بدمه، كونه في دولة تركيا العلمانيّة التي تحفظ للكلّ حقوقهم، وتفرض عليهم واجباتهم، تجاه هذا الانتماء الذي يجبرون عليه، وذلك عندما يصف أحد عناصر العصابة، عندما تجرحه رصاصة، الأكرادَ صفاتٍ غير لائقة، إذ يتكلّم لا شعوره، يقول: كلّ هذا بسبب الأكراد – كلّ الأكراد. د/104) فينتخي على أثرها (عبد الحيّ) الكرديّ ظلّ التركيّ، ويؤنّبه على ذلك، متسائلاً: أنا منهم أيضاً، ليتدارك ذاك الموقف قائلاً: “إنّك مختلف يا عبد الحيّ..”. ليكتفي عبد الحيّ بالتعليق: كلّ شيء بدِئ من هنا هكذا..
صحيح هو مختلف عنهم، طالما هو يعمل ضدّ مصلحة قومه، ولكنّه رغم ذلك، يبقى الكرديّ؛ مكمن الخطر الذي يجب الحذر منه، وهو باعتباره تحت الوصاية والمراقبة، يبقى مؤجَّل الالتفات إليه، وهو المدجَّن والمنظِّر في المدرسة الأتاتوركيّة، “ضيا كوك ألب” آخر معاصر، يفتدي قيم الجمهوريّة، عسكريّاً مافيويّاً ينفّذ الأوامر كما هي.. معادياً قومه ليحظى بعطف عدوّه، إنّه كمَن يسرق الخبز من أبيه ليطعم عدوّه، وهؤلاء أوّل مَن يجب أن يُقتلوا عندما يكون الأوان مناسباً، وعندما لا تستجدّ حاجة إليهم، لأنّ مَن يخون أهله لا شكّ سيخون الغير أيضاً، وهذا لا خلاف عليه من وجهتي النظر المتخالفتين..
وصورة الكرديّ هنا، تأتي نفياً لأيّ قضيّة كرديّة في تركيا، وتعتيماً على ثورات متلاحقة لم تهدأ طيلة سنين طويلة، وكأنّ الكرد بالفعل قد نالوا كلّ مطالبهم، ألا وهي المختصرة هنا بالاندماج مع الواقع التركيّ المفروض عليهم، وترقيتهم إلى مستوى الطموح؛ الإنسان التركيّ الهنيء بتركيّته، وغيره، الكرديّ حصراً، التعيس المنكوب بعدم استطاعة الترقّي إلى رتبة الشرف هذه..”التركيّة”، “التترّك طوعاً وحبّاً”..
أمّا الصورة الأخرى: مع الأمريكان: فإنّها تكون صورة الذليل مع مُذلِّه، المأمور مع آمره، يبدو سام؛ المارشال الأمريكيّ صاحب اليد المطلقة في العراق، غير مؤتمَرٍ من أيّ سلطة، مزاجيّاً دون هدف، إلاّ المال، صليبيّاً بعيداً عن رسالة المسيح في المحبّة والسلام، مهووساً لا يثق بأحد، متشرّباً للدماء غير مرتوٍ أبداً، شريكاً لطبيب يرسل الأعضاء البشريّة السليمة التي يقتطعها من أجساد العراقيّين إلى أمريكا وكندا وإسرائيل.. والدول هذه، ذات العلاقات الاستراتيجيّة مع تركيا، إسرائيل في البداية تتمتّع بأمتن العلاقات معها، مُقحمة ومذكورة لتوسيع الجبهة إسلاميّاً وعربيّاً، كون أمريكا وإسرائيل غير مرغوبتين من قبلهما، على الأقلّ إعلاميّاً، هذا ما يتحايلون بذلك على الشعوب التي تنقاد لما يقال لها.. وتبدو الصورة موغلة في التشفّي عندما يُظهر الجنود على أنّهم يقتلون من أجل القتل نفسه، تلذّذاً فيه، وإذا ما تصادف تواجد ذي ضمير بينهم، فإنّه يصفَّى كذلك، لأنّ الرحمة والعداوة لا تجتمعان.. هكذا يصوَّر الأمر تركيّاً..
والصورة الثالثة: يصوَّر فيها الكرد على أنّهم مسلمون، مقتدون بجدّهم صلاح الدين، الذي كان يُؤْثِر دينه على قوميّته، لا بل ولم يكن ليذكر شيئاً عن قوميّته، التي كانت مقصاة من قبله، لأنّ أولويّة الدين والانتصار له تلغي كلّ ما عدا ذلك.. ويذكر خنجره المتوارث منذ أكثر منذ ألف سنة رمزاً، وهدية من خاطب عربيّ مسلم إلى خطيبته المسلمة، ليقتل بها البطل التركيّ، قائد العصابة، المارشال سام، في نهاية الفلم، تأكيداً على الانتصار المحتوم الذي سيتحقّق تحت القيادة التركيّة، لتكون الأدوات إسلاميّة مجتمعة تحت راية الدين، مستعيدين بذلك مجد الإمبراطوريّة العثمانيّة، مبدين كذلك، أنّ اندحار الصليبيّين ونهايتهم بخنجر صلاح الدين المسلم نفسه، ولكن بقوّة تركيّة هذه المرّة، متجلببة بعباءة الدين، مغطّية على غير الترك بهذه الحجّة، ماحية أصولهم، خالقة أصلاً بديلاً، يصفونه الأرفع على الإطلاق، فهنيئاً لحامله. كما يحلو لهم القول المكرّر. وهذا ما أكّده الفلم في مشهد محاولة قتل المارشال الأمريكيّ، والذي كان البطل التركيّ قد أعدّ له بإتقان، لولا أن تدخّل والد الطفل القتيل على أيدي الأمريكان، لينفّذ عملية انتحاريّة، انتقاماً لولده البريء، ليحول دون القضاء عليه..
كما يحرص الفلم ومن بدايته، أن يكون الكردُ الهمجَ أينما كانوا، فعندما تقترب السيّارة التي تقلّها العصابة التركيّة، من حدود إقليم كردستان، ويستهزئ زعيم العصابة بألوان لعلم الكرديّ، ويوقفها البيشمركة الكرد للتفتيش، لينزل الثلاثة وينفّذوا ببساطة، بعد جدال مع البشمركة، عملية تصفية الجنود، خاصّة عندما يطلب أحد البشمركة من زعيم العصابة التركيّة أن ينبطح بعد إهانته التي وصف البشر بالرخيصين، (عندما قال إنّه قادم للتجارة، – تجارة البشر – أخبروني أنّ البشر هنا رخيصون د.11)، لينقضّ عليهم مع زميليه، التركيّ والكرديّ (عبد الحي)، فيتركونهم قتلى غير جديرين بحماية حدود ما يقولون إنّها دولتهم..
أين صورة الكرديّ الكرديّ في الفلم والواقع..؟!
جهد الفلم ألاّ يظهر صورةً مستقلّة للكرديّ الحرّ في أرضه ووطنه، وإن أظهر في أكثر من مرّة صورة الرئيس البارزانيّ معلَّقة على جدار مكتب القائد الكرديّ المأمور أمريكيّاً، إلاّ أنّ هذا لا يعكس اعترافاً بالسيادة، بل غُيّبت الصورة المستقلّة، لغايات أبعد من سينمائيّة، وهذا ما لا يخفى على أيّ متابع، ولأنّهم يستثقلون ذلك جدّاً، كي لا يشكّل حلماً متذوّقاً على الشاشة، فيسعى الكرد بالتالي إلى تحقيقه واقعاً، ولأنّ ذلك من المستحيلات الثلاث، في عرف الدول الثلاث، التي بقيت منكرة لأيّ شراكة كرديّة في الوطن الذي ينتمون إليه، ويضحّون في سبيله أكثر من أبنائه أنفسهم..
أُريْدَ لهذا الفلم المؤامرة، أن يكون عالميّاً، وذلك باحتوائه على مجموعة من الممثّلين العالميّين، لكي يوهم أنّ هذا الخلاص المطروح من وجهة نظرٍ تركيّة، هو أيضاً اتّفاق عالميّ، وهو الأنسب بقيادة المافيا التي تتقن عملها، ولا تفوتها فائتة، كما يحاول تبرئة الإرهاب، وحصره في جانب الانتقام لقتلِ طفلٍ بريء أو هتك حرمة، أو ما شابه، بل والإيهام أنّ ذلك كلّه هو ردّ فعل بسيط، على قتل وإجرام ملحق بالضحايا، على أيدي ثلّة من المرضى النفسيّين.. ويلعب الفلم على وتر حسّاس جدّاً، وهو تذكية وإثارة مشاعر المسلمين والعرب وغيرهم من المتديّنين، بإظهار بشاعة التعذيب الممارَس في سجن أبي غريب، ومن ذلك، مشهد يصوّر جنديّة أمريكيّة تجرجر رجلاً يصلّي وتلقي به عارياً بين العراة، لتسعد بالمنظر مع رفاقها الذين يضحكون وينتشون معاً لذلك..
يركّز الفلم المؤامرة، على التبشير بالفكرة الجديدة القديمة، الدين الإسلاميّ، واللعب على وتره، من خلال قوّة أواصر الأخوّة التي يشدّها ويمتّنها الإسلام نفسه، ولا حاجة إلى أيّ شيء آخر قد ينتّن صفو هذه الأخوّة، من أهداف أو طموحات بدولة أو استقلال.. كما تحاشى الفلم أن يغوص في الخلاف العراقيّ الطائفيّ، لم يتطرّق إلى ذكر الشيعة لا بخير ولا بشرّ، لأنّ منطقتهم بعيدة عن التأثير على الأتراك، وامتدادهم معدوم في تركيا، بل الهاجس والخوف كلّه في الشمال، وشماله..
يركّز أيضاً على أنّ مشكلة العراق هي في عدم إنصاف التركمان المسلمين في كركوك، والمبالغة بأعدادهم، ، واعتبارهم أبناء الوطن التركيّ، المواطنين المثاليّين، الذين يجب أن يُحمَوا من كلّ بطش يتعرّضون له، ويوهم الفلم كذلك، على أنّه لا خلاص إلاّ مع تركيا وبقيادتها.. لا خلاص إلاّ بالالتفاف والتجمّع إسلاميّاً بقيادة تركيا التي ستكون مسلمة هنا، كما هي مُعلمنة هناك ، وهي في جوهرها لا هذه ولا تلك، إنّها ليست إلاّ أتاتوركيّة طوباويّة، ترى الجميع راعاياها وهي الراعية..
هكذا تطرح تركيا عبر فلمها، وجهة نظرها للحلّ الشامل في المنطقة..
نبقى في نظر مَن تابع فلم “وادي الذئاب” كذلك، حتّى نبدع فلماً عن “جبل الصقور”، يقدّم الإنسان الكرديّ الذي يحبّ الحياة لنفسه ولغيره، الإنسان الذي يتمسّك بقيمه دون انجرار أو تبعيّة أو إمّعة لا تليق به..
ما أريد التركيز عليه، هو الفلمُ التركيّ الذي أصفه بـ: الفلم المؤامرة، “وادي الذئاب ـ العراق”، وهو المدعوم من الاستخبارات التركيّة على أعلى مستوى، والإنتاج الأضخم في تاريخ السينما التركيّة، بحسب ما يقال عنه.. وقد جاء ردّاً على العمليّة التي قام بها الأمريكان في بداية الحرب على العرق ضدّ أحد عشر جنديّاً تركيّاً في السليمانيّة، إذ اعتبرها الأتراك يومذاك إهانة للشرف التركيّ ونيلاً من هيبة الدولة.. الفلم من تأليف بهادر أوزدنر، سيناريو وإنتاج راجي شاشماز، إخراج سردار آكار، بطولة وتمثيل مجموعة كبيرة من الفنّانين الأتراك والعرب والعالميّين، من تركيا: عدد كبير في مقدّمتهم: نجاتي شاشماز، من أمريكا: بيلي زان – (الذي يلعب دور خطيب روز الملياردير في فلم تايتانك)-، ومن سوريا: غسّان مسعود، جهاد عبدو.. وغيرهم كثيرون.. وقد مُثِّل الفلم في ولاية عنتاب في تركيا، باعتبار الجغرافية نفسها جغرافيّة كردستانيّة، حيث مجريات الفلم كلّها تدور في العراق، خاصّة في شمال بغداد (المناطق السنّيّة)، وكركوك، وإقليم كردستان العراق…
فمن جهة ترعى تركيا وتدعم إنتاج السينما بالملايين، وتؤمّن عرض ما يطرح سياستها في أكثر الأمكنة جمهوراً وتأثيراً في صنع القرار، ومن جهة أخرى تضع كلّ ثقلها لتمنع فلماً كرديّاً من العرض هنا وهناك، في صالات العرض، أو في المهرجانات..
كُتب عن هذا الفلم،”وادي الذئاب ـ العراق” من جوانب مختلفة، منها ما هو داعم للفلم الذي يقدّم سياسة تركيّة، ومنها ما هو معارض له أشدّ المعارضة، باعتباره معادياً لأمريكا وسياستها في المنطقة، ومخطّطها التفتيتيّ الذي تصرّح به ممارساتها، لذلك تغيّبت نقاط هامّة عن هذه الكتابات، خصوصاً تلك التي تتعلّق بالجانب الكرديّ، وكيف يتمّ تقديم صورة الكرديّ في الفلم، ولصالح مَن يعمل، وهل له قرار في كلّ ما يُلقَى فيه، ويلاقيه، وغيرها أسئلة مبطّنة، نماذج ممثّلة، يطرحها الفلم بذكاء، وتبسيط ليكون التأثير مضاعفاً.. كما مُنع الفلم من العرض في بعض البلاد العربيّة، هنا وهناك، وقد عُرض في سوريا في أكثر من مكان، جامعة حلب منها..
تظهر صورة الكرديّ، وتُظهَّر في الفلم على أكثر من ثلاثة محاور:
– مع الأتراك. – مع الأمريكان. – مع المسلمين.
مع الأتراك: متمثّلة ومتجسّدة في صورة (عبد الحيّ)، الاسم الذي لا يخفى صداه الإسلاميّ، باعتباره من خير الأسماء، من مجموعة (الـ: عُبِد)، هذا الذي هو ثالث اثنين من المافيا، التي هي ذراع الاستخبارات التركيّة الرئيس في عملياتها المشبوهة، يقدَّم على أنّه النموذج المثاليّ للكرديّ المقيم في تركيا، وأنّه يدعم رؤساءه، ويساندهم حتّى بدمه، كونه في دولة تركيا العلمانيّة التي تحفظ للكلّ حقوقهم، وتفرض عليهم واجباتهم، تجاه هذا الانتماء الذي يجبرون عليه، وذلك عندما يصف أحد عناصر العصابة، عندما تجرحه رصاصة، الأكرادَ صفاتٍ غير لائقة، إذ يتكلّم لا شعوره، يقول: كلّ هذا بسبب الأكراد – كلّ الأكراد. د/104) فينتخي على أثرها (عبد الحيّ) الكرديّ ظلّ التركيّ، ويؤنّبه على ذلك، متسائلاً: أنا منهم أيضاً، ليتدارك ذاك الموقف قائلاً: “إنّك مختلف يا عبد الحيّ..”. ليكتفي عبد الحيّ بالتعليق: كلّ شيء بدِئ من هنا هكذا..
صحيح هو مختلف عنهم، طالما هو يعمل ضدّ مصلحة قومه، ولكنّه رغم ذلك، يبقى الكرديّ؛ مكمن الخطر الذي يجب الحذر منه، وهو باعتباره تحت الوصاية والمراقبة، يبقى مؤجَّل الالتفات إليه، وهو المدجَّن والمنظِّر في المدرسة الأتاتوركيّة، “ضيا كوك ألب” آخر معاصر، يفتدي قيم الجمهوريّة، عسكريّاً مافيويّاً ينفّذ الأوامر كما هي.. معادياً قومه ليحظى بعطف عدوّه، إنّه كمَن يسرق الخبز من أبيه ليطعم عدوّه، وهؤلاء أوّل مَن يجب أن يُقتلوا عندما يكون الأوان مناسباً، وعندما لا تستجدّ حاجة إليهم، لأنّ مَن يخون أهله لا شكّ سيخون الغير أيضاً، وهذا لا خلاف عليه من وجهتي النظر المتخالفتين..
وصورة الكرديّ هنا، تأتي نفياً لأيّ قضيّة كرديّة في تركيا، وتعتيماً على ثورات متلاحقة لم تهدأ طيلة سنين طويلة، وكأنّ الكرد بالفعل قد نالوا كلّ مطالبهم، ألا وهي المختصرة هنا بالاندماج مع الواقع التركيّ المفروض عليهم، وترقيتهم إلى مستوى الطموح؛ الإنسان التركيّ الهنيء بتركيّته، وغيره، الكرديّ حصراً، التعيس المنكوب بعدم استطاعة الترقّي إلى رتبة الشرف هذه..”التركيّة”، “التترّك طوعاً وحبّاً”..
أمّا الصورة الأخرى: مع الأمريكان: فإنّها تكون صورة الذليل مع مُذلِّه، المأمور مع آمره، يبدو سام؛ المارشال الأمريكيّ صاحب اليد المطلقة في العراق، غير مؤتمَرٍ من أيّ سلطة، مزاجيّاً دون هدف، إلاّ المال، صليبيّاً بعيداً عن رسالة المسيح في المحبّة والسلام، مهووساً لا يثق بأحد، متشرّباً للدماء غير مرتوٍ أبداً، شريكاً لطبيب يرسل الأعضاء البشريّة السليمة التي يقتطعها من أجساد العراقيّين إلى أمريكا وكندا وإسرائيل.. والدول هذه، ذات العلاقات الاستراتيجيّة مع تركيا، إسرائيل في البداية تتمتّع بأمتن العلاقات معها، مُقحمة ومذكورة لتوسيع الجبهة إسلاميّاً وعربيّاً، كون أمريكا وإسرائيل غير مرغوبتين من قبلهما، على الأقلّ إعلاميّاً، هذا ما يتحايلون بذلك على الشعوب التي تنقاد لما يقال لها.. وتبدو الصورة موغلة في التشفّي عندما يُظهر الجنود على أنّهم يقتلون من أجل القتل نفسه، تلذّذاً فيه، وإذا ما تصادف تواجد ذي ضمير بينهم، فإنّه يصفَّى كذلك، لأنّ الرحمة والعداوة لا تجتمعان.. هكذا يصوَّر الأمر تركيّاً..
والصورة الثالثة: يصوَّر فيها الكرد على أنّهم مسلمون، مقتدون بجدّهم صلاح الدين، الذي كان يُؤْثِر دينه على قوميّته، لا بل ولم يكن ليذكر شيئاً عن قوميّته، التي كانت مقصاة من قبله، لأنّ أولويّة الدين والانتصار له تلغي كلّ ما عدا ذلك.. ويذكر خنجره المتوارث منذ أكثر منذ ألف سنة رمزاً، وهدية من خاطب عربيّ مسلم إلى خطيبته المسلمة، ليقتل بها البطل التركيّ، قائد العصابة، المارشال سام، في نهاية الفلم، تأكيداً على الانتصار المحتوم الذي سيتحقّق تحت القيادة التركيّة، لتكون الأدوات إسلاميّة مجتمعة تحت راية الدين، مستعيدين بذلك مجد الإمبراطوريّة العثمانيّة، مبدين كذلك، أنّ اندحار الصليبيّين ونهايتهم بخنجر صلاح الدين المسلم نفسه، ولكن بقوّة تركيّة هذه المرّة، متجلببة بعباءة الدين، مغطّية على غير الترك بهذه الحجّة، ماحية أصولهم، خالقة أصلاً بديلاً، يصفونه الأرفع على الإطلاق، فهنيئاً لحامله. كما يحلو لهم القول المكرّر. وهذا ما أكّده الفلم في مشهد محاولة قتل المارشال الأمريكيّ، والذي كان البطل التركيّ قد أعدّ له بإتقان، لولا أن تدخّل والد الطفل القتيل على أيدي الأمريكان، لينفّذ عملية انتحاريّة، انتقاماً لولده البريء، ليحول دون القضاء عليه..
كما يحرص الفلم ومن بدايته، أن يكون الكردُ الهمجَ أينما كانوا، فعندما تقترب السيّارة التي تقلّها العصابة التركيّة، من حدود إقليم كردستان، ويستهزئ زعيم العصابة بألوان لعلم الكرديّ، ويوقفها البيشمركة الكرد للتفتيش، لينزل الثلاثة وينفّذوا ببساطة، بعد جدال مع البشمركة، عملية تصفية الجنود، خاصّة عندما يطلب أحد البشمركة من زعيم العصابة التركيّة أن ينبطح بعد إهانته التي وصف البشر بالرخيصين، (عندما قال إنّه قادم للتجارة، – تجارة البشر – أخبروني أنّ البشر هنا رخيصون د.11)، لينقضّ عليهم مع زميليه، التركيّ والكرديّ (عبد الحي)، فيتركونهم قتلى غير جديرين بحماية حدود ما يقولون إنّها دولتهم..
أين صورة الكرديّ الكرديّ في الفلم والواقع..؟!
جهد الفلم ألاّ يظهر صورةً مستقلّة للكرديّ الحرّ في أرضه ووطنه، وإن أظهر في أكثر من مرّة صورة الرئيس البارزانيّ معلَّقة على جدار مكتب القائد الكرديّ المأمور أمريكيّاً، إلاّ أنّ هذا لا يعكس اعترافاً بالسيادة، بل غُيّبت الصورة المستقلّة، لغايات أبعد من سينمائيّة، وهذا ما لا يخفى على أيّ متابع، ولأنّهم يستثقلون ذلك جدّاً، كي لا يشكّل حلماً متذوّقاً على الشاشة، فيسعى الكرد بالتالي إلى تحقيقه واقعاً، ولأنّ ذلك من المستحيلات الثلاث، في عرف الدول الثلاث، التي بقيت منكرة لأيّ شراكة كرديّة في الوطن الذي ينتمون إليه، ويضحّون في سبيله أكثر من أبنائه أنفسهم..
أُريْدَ لهذا الفلم المؤامرة، أن يكون عالميّاً، وذلك باحتوائه على مجموعة من الممثّلين العالميّين، لكي يوهم أنّ هذا الخلاص المطروح من وجهة نظرٍ تركيّة، هو أيضاً اتّفاق عالميّ، وهو الأنسب بقيادة المافيا التي تتقن عملها، ولا تفوتها فائتة، كما يحاول تبرئة الإرهاب، وحصره في جانب الانتقام لقتلِ طفلٍ بريء أو هتك حرمة، أو ما شابه، بل والإيهام أنّ ذلك كلّه هو ردّ فعل بسيط، على قتل وإجرام ملحق بالضحايا، على أيدي ثلّة من المرضى النفسيّين.. ويلعب الفلم على وتر حسّاس جدّاً، وهو تذكية وإثارة مشاعر المسلمين والعرب وغيرهم من المتديّنين، بإظهار بشاعة التعذيب الممارَس في سجن أبي غريب، ومن ذلك، مشهد يصوّر جنديّة أمريكيّة تجرجر رجلاً يصلّي وتلقي به عارياً بين العراة، لتسعد بالمنظر مع رفاقها الذين يضحكون وينتشون معاً لذلك..
يركّز الفلم المؤامرة، على التبشير بالفكرة الجديدة القديمة، الدين الإسلاميّ، واللعب على وتره، من خلال قوّة أواصر الأخوّة التي يشدّها ويمتّنها الإسلام نفسه، ولا حاجة إلى أيّ شيء آخر قد ينتّن صفو هذه الأخوّة، من أهداف أو طموحات بدولة أو استقلال.. كما تحاشى الفلم أن يغوص في الخلاف العراقيّ الطائفيّ، لم يتطرّق إلى ذكر الشيعة لا بخير ولا بشرّ، لأنّ منطقتهم بعيدة عن التأثير على الأتراك، وامتدادهم معدوم في تركيا، بل الهاجس والخوف كلّه في الشمال، وشماله..
يركّز أيضاً على أنّ مشكلة العراق هي في عدم إنصاف التركمان المسلمين في كركوك، والمبالغة بأعدادهم، ، واعتبارهم أبناء الوطن التركيّ، المواطنين المثاليّين، الذين يجب أن يُحمَوا من كلّ بطش يتعرّضون له، ويوهم الفلم كذلك، على أنّه لا خلاص إلاّ مع تركيا وبقيادتها.. لا خلاص إلاّ بالالتفاف والتجمّع إسلاميّاً بقيادة تركيا التي ستكون مسلمة هنا، كما هي مُعلمنة هناك ، وهي في جوهرها لا هذه ولا تلك، إنّها ليست إلاّ أتاتوركيّة طوباويّة، ترى الجميع راعاياها وهي الراعية..
هكذا تطرح تركيا عبر فلمها، وجهة نظرها للحلّ الشامل في المنطقة..
نبقى في نظر مَن تابع فلم “وادي الذئاب” كذلك، حتّى نبدع فلماً عن “جبل الصقور”، يقدّم الإنسان الكرديّ الذي يحبّ الحياة لنفسه ولغيره، الإنسان الذي يتمسّك بقيمه دون انجرار أو تبعيّة أو إمّعة لا تليق به..
كيف نطرح نحن وجهة نظرنا..؟! على ماذا نتّكئ في طرحنا..؟! وهل لدينا برامجنا التي نستطيع بها خوض المواجهة في ميدان إثبات الكفاءة، في المعركة الحديثة، في مرحلة الحرب السينمائيّة التي نصوَّر حتّى الآن الهمج السُذّج فيها..؟!