في الحرب مساحة شخصية كذلك

فراس حج محمد| فلسطين

1
في الحرب، كما هو حادث الآن، أحاول أن أجد كل يوم مساحة شخصية، أبعد فيها- ولو من باب الوهم- عن الأحداث التي تدور فيّ، ومن حولي، وعلى شاشات الإضاءة كلها الصغيرة والكبيرة.
أتربع في سريري وحيداً، لا أنظّم شيئا، أترك الوقت يمرّ هكذا دون هدف أو غاية أو نية لقتله أو تعبئته بأي شيء مفيد، ألوذ إلى تلك “الفيديوهات” القصيرة، أستمع لكثير من النكت، من الحكم، من الموسيقى، من الأغاني، أراسل النساء أحياناً، فأرسل لإحداهنّ مقطعا أذكرها بعلاقة ما أو موقف ما. لا تبادلني تلك النساء الرسائل. مشغولات مثلي بشيء ما، هربا من الحرب أو غوصا بها. أو ربما يغصن مثلي في مساحاتهنّ الشخصية البيضاء. هل تترك الحرب لأحد مساحة بيضاء؟
في الحرب- كما هو حادث الآن- يقلّ الأصدقاء كثيرا، لا أحبّ أن أتحدث إلى الآخرين، أحب ألا أستمع إلى الأخبار، فقط أستلقي على ظهري، أحدق في سقف غرفتي، لا أرى شيئا سوى ما يضجّ في أفكاري، ويصطرع في داخلي. تعود رغما عني مشاهد الحرب، الأشلاء، الدمار، سحب الدخان، تهاوي الأبنية، صراخ الأطفال، صور من استشهدوا في العدوان.
2
في هذه الفترة اليومية الروتينية من مساحتي الشخصية، أتذكر كثيرا من أصدقائي في قلب العاصفة، في قلب غزة، أتابع من صار شهيدا من الكتّاب والشعراء والفنانين والمثقفين، كثيرون صاروا شهداء. تخطفتهم يد الموت الطويلة. لا أستطيع أن أتصل بهؤلاء الأصدقاء الباقين على قيد الحياة المؤجلة، أو حتى مراسلتهم، أخشى من شيء ما. فقط بصمتٍ، أتفقد صفحاتهم الفيسبوكية الشخصية، أطمئنّ أنهم ما زالوا هنا، لم ينعهم أحدٌ بعد، لكنهم صامتون لم يكتبوا شيئا. كيف يكتبون وهم بلا كهرباء أو اتصال أو إنترنت؟ بل كيف يعيشون وهم تحت القصف، بلا ماء، ولا غذاء؟ شهداء مع وقف التنفيذ. هذه الحقيقة المرة التي نعيشها جميعا.
في الفترة الأخيرة، في ظل الحرب طبعاً، قبل أيام فقط، كدتُ أكون في عداد القتلى، خطأ في التقدير وفي المعلومات، لو خطت بنا السيارة لفة عجل واحدة إضافية لانفتحت علينا الرشاشات. كنت برفقة ولديّ، أحدهما هو من يقود السيارة، والآخر طفل جالس في المقعد الخلفي، التقطناه عن طريق عودته من المدرسة ليكون رفيقنا في رحلتنا، هو وحقيبته المدرسية. بين كل ثانية وأخرى كاد الموت ينفلت من فوهات البنادق المصوبة تجاهنا. رحمة الله الواسعة أجلتنا إلى حين.
3
في غزة، لا تؤجل الحرب أحدا. أتابع في هذا الوقت ما لم تقله الفضائيات، الحكايات الشخصية، القصص التي تفتح مسارب الدمع غصبا عن كل هذا التجلُّد الذي نتصنّعه ونحن نتحدث عن الشجاعة والقوة والصمود في وجه التنين النازي. أحب أن أتحدث عن هذا الجانب كثيراً. أنفق وقتا طويلا مع ضيوف الحرب الذين يزورونني. نبدع في التحليل والتصوير وإعادة رسم المشاهد والسيناريوهات. لكن ثمة ما هو ضائع في استوديوهات التحليل الإخبارية؛ الناس والقصص.
كل يوم في الحرب تأتيك قصة أبلغ من سابقتها، قصة يوسف الأبيضاني الحلو اللي شعره كيرلي. هذه قصة مبكية، ليس لأن يوسف أبيضاني وحلو وشعره كيرلي فقط، بل لأن كثيرين مثل يوسف أبيضانيون و”حلوين” وشعرهم كيرلي، وربما كانوا سمرا وشعرهم ليس “كيرلي” لكنهم “حلوين” بالتأكيد. كل الشهداء جميلون، “كأنّ أجملهم بالموت قد فتنوا”، فقد تخير الموت أجمل “الحلوين”، فيا لله كيف “اختار واسطة العقدِ”؟ كل شهيد واسطة عقد أبيه وأمه وأسرته. يا للحسرة وقد ذهب العقد كله، بواسطته وحباته، وحبله. هذه الحرب فعلت فعلها.
ثمة صدفة غير جميلة، الحلو الأبيضاني اللي شعره كيرلي، اسمه يوسف. يوسف الفلسطيني الغزاوي الذي مات وحيداً، تخلى عنه إخوته، يريدونه أن يموت لكي يمدحوه. وها هم يمدحونه في كل جغرافيا العرب. لكنهم لم ينقذوه. يوسف غير محظوظ باسمه، ضحية اسمه وموقعه وجماله. ذهب يوسف وبقيت قصته وجملة أبيه وأمه. أخشى أن يأتي زمان ويقال: كان هنا شعب جبار قاوم التنين، كان شعبا “حلو وأسمر وزنده قوي” قتله المحيطون فيه. لم يقتل بسبب العدوان التوراتي عليه وحسب. بل قتله إخوته يا يوسف، يا أبيضاني ويا حلو، ويا “بو شعر كيرلي”.
4
في هذه المساحة الشخصية كنت أحاول أن أنسى. أفكر بالكتابة، ماذا سأقول؟ فلا شيء جديد. في حرب سابقة (2014/ 2015) كتبت ديوان شعر، استمرت تلك الحرب (51) يوماً، وأخذت أكتب باستمرار، فصارت الكتابة ديوانا كاملا “مزاج غزة العاصف”. في هذه الحرب كتبت فقط قصيدة قصيرة أسميتها “تعويذتان للزمن الفلسطيني”. القراءة حظها معدوم، لا رغبة لي في شيء، أريد أن أسمع، أزجي الوقت، أقتله ليمضي، وتتتابع أيامه، لأصحو وقد توقفت الحرب. 
عدتُ إلى بعض مشاريع الكتابة النائمة المجمّدة. أخشى أن تقتنصني الفوهات العمياء قبل أن أنجز شيئا، فقد نجوت من براثنها قبل أيام. إذاً، لا بد من أن أنجز شيئا، وإن كان تافهاً لأواجه الموت به. كثيرون مثلي أجلهم الموت لظرف آخر، عليهم أن يعملوا قبل أن يموتوا.
ديوان مؤجل، بعنوان “في أعالي المعركة” أعود للعمل عليه. ديوان لكل القصائد التي كتبتها في فلسطين والشهداء والحرب. المعركة طويلة ولدت قبل أن يولد أبي رحمه الله، وأخشى أن أموتَ أنا قبل أن تموت هذه المعركة المشتعلة منذ خمسة وسبعين عاماً. ما الحلّ غير الصواريخ ومجابهة الموت بالموت؟ أيصلح أن يكون الشعر حلاً؟ أحيانا أراني- ومعي كل من يرى ذلك- كم نحن ساذجون وأميون وتافهون. شعر يقابله الموت! أي تفاهة في هذا المنطق؟
على مشارف الحرب، قبل أن تبدأ بأيام صدر كتابي “في رحاب اللغة العربية”، لا وقت لغير الحرب والشهداء، نُشر تقرير عن الكتاب، على نطاق ضيق. ثمة مادة حول الكتاب طلبت مني محررة صحيفة “الحدث الفلسطيني” الشاعرة رولا سرحان تأجيل نشره. بالفعل كنت خجلا مترددا عندما أرسلته للنشر. “ليس الوقت وقت هذه الموضوعات” على الأقل عندنا في فلسطين، وفي صحفنا ومنابرنا الخاصة. فإذا تأجل كثير من الفعاليات العربية أو ألغيت بسبب الحرب، فكيف لنا نحن الفلسطينيين أن نفكر خارجها؟ أخجل من الحديث خارج الحرب. 
ثمة كتاب آخر صدر ولم أعلن عنه، خجلا من الحرب. كتاب “سر الجملة الاسمية”. الخجل يلفني وأنا ألتفت لخصوصياتي، فماذا ستساوي هذه الكتب أمام معركة المصير المفتوحة في غزة. أفكر في السؤال القديم الجديد لماذا نكتب نحن الشهداء مع وقف التنفيذ؟
5
أعدّل في نظريتي كثيرا أقلبها رأسا على عقب. أرى الموت مهزوما بالفن والشعر والموسيقى والأدب. ألتفت بفعل الحرب إلى “جمهرة الشعراء الفلسطينيين الشهداء”، منذ عبد الرحيم محمود شهيد معركة الشجرة، إلى علي فودة- شاعر الرصيف- شهيد معارك المقاومة في لبنان، إلى الشاعرة الشهيدة الغزاوية هبة أبو ندى. 
هبة شاعرة شابة، جميلة الجملة، ذات إصدار واحد- هذا ما تقوله صفحتها على الفيسبوك- رواية “الأكسجين ليس للموتى”. لا إصدار آخر لهبة. لكنها كانت تشارك بأنشطة الثقافة الغزاوية والافتراضية.
في هذه المساحة الشخصية تأخذني الشهيدة إلى صفحتها. صديقة افتراضية عندي، لم أنتبه لوجودها، ككثيرين غيرها، مثلها ومثلهنّ. أقرأ كثيرا في صفحتها الشخصية، ثمة ما يوجع القلب هناك. 
هبة تتخذ من الكتابة الهادفة شعاراً: “إن الكتابة كالصيامِ، فلا تكونُ بغير نية”، هذا بيت يتيم ليس له ثانٍ، جعلته هبة شعارها في صفحة الفيسبوك. تتابع الحرب، والشهداء، وتكتب عنهم، لم تكتب عن يوسف “الحلو الأبيضاني اللي شعره كيرلي”، لأن الصواريخ لم تمهلها لتكتب عنه، يرحلان معاً في اليوم ذاته، “شهيدة وشهيد”.
صورة (بروفايل) هبة، تكاد تكون صورتها الوحيد في صفحتها، وهي المتداولة على نطاق واسع في أخبار النعي لدى الأصدقاء، بالكاد تعثر على صورة أخرى. شاعرة غير استعراضية، تعتمد النص والكتابة هوية. 
مع واحدة من صورها وهي واقفة مشغولة بإلقاء النص في أمسية شعرية، كتبت ندى بمرافقة الصورة: “لماذا نكتُب الأشعارَ؟ فتجيب:
“للحزنِ المعشعشِ في تفاصيل الحمائم.
لحقٍ في الأغاني ليسَ يسقطُ بالتقادم!
وللأحلام!
حيثُ الكلُّ في وطني برغمِ الموتِ حالم!”
هكذا تكتب هبة عن الموت والكتابة معا في 25 يناير 2019، ما بين تاريخ الكتابة وتاريخ الشهادة ما يزيد عن أربع سنوات. رأت فيهما هبة الموت، فأجلها ليومها المشهود هذا. نعت صديقتها مريم التي اختلفت معها في الرأي فتتأسف كثيرا لذلك: “ارتاحت مريم من التعب ارتاحت للأبد، آسفة يا مريم على كل مرة اختلفنا بالرأي أنا وأنت آسفة كتير”. نعت مريم، وبعد يوم واحدٍ ينعاها أصدقاؤها، “شهيد يودع شهيدا”، وهكذا هي غزة. بل هكذا هي فلسطين.
في هذه المساحة الشخصية لهبة أبو ندى أيضا كتبت آخر ما كتبته مفعمة بالأمل الذي تريد أن “ترفع القبعة” له: “نحنُ في غزة عند الله بين شهيد وشاهد على التحرير، وكلنا ننتظر أين سنكون”. لقد اختار لها الحقّ أن تكون شهيدةً، لا شاهدة على التحرير، لكنّ ما كتبته سيكون شاهدا مؤكدا على التحرير.
6
اليوم (21/10/2023)، الحرب تدخل يومها الخامس عشر، اليوم هو يوم السبت، تزداد المساحات الشخصية الممحية من عوالم غزة، لتزداد مساحتنا نحن القابعين في الجهة المقابلة لهذا العالم المشويّ باللهيب الأمريكي. نحزن ولا نموت، ونكتب ونهرب، ونشتم الموت، ونلعن أمريكا والغرب. كم سيموت من الأصدقاء في قابل الأيام؟
إن توقفت الحرب، فمن نجا، فقد نجا بأعجوبة، فعليه أن يكتب تاريخ ميلاده من جديد، ليحتفل! هل فعلا سيحتفل؟ هل الحياة نعمة في ظل هذا الخراب؟ أي نعمة منتظرة والناس ستصحو لتعد القتلى، وتتفقد الجيران والأصحاب والأقارب؟
لا شك في أن الحياة أكبر من الموت. والعنقاء ستنهض من ركام الموت مرة أخرى، كما نهضت سابقاً، وسيولد ألف يوسف جديد أبيضاني وحلو وشعره كيرلي، وستنبغ ألف شاعرة على وقع الشاعرة الشهيدة هبة أبو ندى، وسيكثر الرسامون والفنانون، وستعود الحياة لتواصل مسيرتها، وستظل غزة شاهدة شهيدة، لكن سيظل الفلسطينيّ وحيدا، ليس له غير نفسه، فـ “ما حكّ جلدك مثل ظفرك، فتولّ أنت جميع أمرك”. وليس لأحد الحق في القرار سوى هذا الفلسطيني المعبأ بالحرب والشظايا، يقاوم كل حين بالمتاح من الحياة، كما يقاوم بالمتاح من السلاح، كما أنه أيضا يقاوم بالمتاح من الكتابة والشعر والفن والموسيقى.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…