طلاب القضايا العادلة

طه خليل

قال لنا المعلمون الشيوعيون : إن الشيخ الأكبر كارل ماركس أو احد تلامذته قال: إن انتصار أية قضية عادلة في العالم هو انتصار لقضيتنا . كان ذلك في الثمانينات.
لذلك تركنا قضيتنا –ونحن مرتاحي الضمير – ورحنا نبحث عن أية قضية عادلة في العالم لندعمها ، وبذلك ارتحنا من عبء قضيتنا ومن لوم اللائمين من جماعتنا وفي نفس الوقت رحنا ندعم قضايا أخرى بطريقتنا وحسب أوقات الفراغ وما تقتضيه حالة الاقتراب بهذا القدر أو  ذاك من العيون السود التي تناضل في صفوف  ” أية قضية عادلة في العالم”
لقد حفظنا أسماء كل مقاتلي ومناضلي الجبهة الساندينية في نيكاراغوا ، وكل حركات الثوار الماويين في المكسيك وعلقنا صوراً كبيرة لــ زاباتا في غرفنا الوسخة الضيقة في أحياء دمشق الفقيرة ، الغرف التي كانت تفوح منها روائح الجوارب وعرق البطة ( كان علينا كثوار أن نشرب كثيراً ) وكذلك العرق المتصبب من تحت إبط الشباب الذين كانوا يكبتون شهواتهم أمام قطعان النساء الجميلات في كليات جامعة دمشق ، فما كنا نلتقي بزميلة تقترب منا للحب، حتى كنا نفاتحها بدعم أية قضية عادلة في العالم مثلنا، فكن يتطيرن منا ومن وجوهنا الثورية وذقوننا التي تبدو كما لو أنها مغسولة بزيت محرك السيارات ، وهكذا كنا نخسر الجميلات اللواتي لم يأبهن لا بقضايانا العادلة ولا بقلوبنا التي كانت ترتجف في الخفاء ، لقد كانت ذقوننا إشارات رعب جعلت زميلاتنا يسخرن منا ومن كل القضايا في العالم، العادلة منها وغير العادلة .
صديقنا عبدالباسط الذي كان طالباً معنا بكلية الآداب، آمن بهذه المقولة كثيراً ووجد بسرعة قضية في العالم يدعهما، وينتصر لها، لتنتصر هي، وتكون بالتالي نصراً لقضيته، أنخرط مع مناضلي تلك القضية ليلاً نهاراً، في النهار وبدلاً من أن يداوم في مدرجات قسم اللغة العربية وقاعاتها راح يواظب على الجلوس على طاولة من طاولات مقصف كلية الآداب ويجمع من حوله المناضلين والمناضلات من تلك القضية ويطرح عليهم آخر نظرياته في الثورة والثورة المضادة ، وينّظر في مسائل القومية والوطنية وحركات اليسار في العالم العربي وانحسار حركة التحرر الفلسطينية ومنظماتها المتعددة ، نايف حواتمه برجوازي صغير وسمير غوشه متعامل مع الأنظمة العربية وأبو عمار رمز للرجعية والتخلف …الخ . ووحده الحكيم جورج حبش من سيعيد فلسطين من البحر إلى النهر .
أقنعنا صديقنا عبدالباسط أيام حرب بيروت أن  نتبرع بالدم للمقاومة الفلسطينية في بيروت، ورغم شحة دمائنا فأننا لم نبخل على عبدالباسط  بما تبقى فينا من دماء ، فقد كنا قرويين وأبناء فلاحين ضعيفي البنية هزيلي الأجساد نشكو جميعاً من فقر في الدم، حيث أننا لم نكن نأكل وخلال سنوات طويلة إلا شوربة العدس وبعض البصل اليابس، وما تنتجه دجاجات أمهاتنا ، لكن انتصار أية قضية في العالم هي انتصار لقضيتنا كما كان يقول تلامذة الشيخ لينين وحفيده الكردي الممسوخ خالد بكداش زعيم الشيوعيين العرب كما كانوا يطلقون عليه وكما كان دائم الحديث في لقاءاته  عن الدورية الامنية التي جاءت لتعتقله وهو يرتدي بيجاما ، حتى ظننا أن الكرملين ستحتفظ ببيجامته إلى جانب ضريح لينين .
كنا نسخر من الاغنياء ومن ابناء الاقطاعيين، رغم تخلفنا الواضح وتمدنهم ، كنا لا نقترب منهم الا للسخرية منهم أو لتقريع آباءهم، وكانو لطيفين ودودين يتفهمون ” انتقاداتنا ” الثورية لذويهم ، الا اننا لم نكن نقتنع بسكوتهم ، كنا نختلق المشاكل لنقاطعهم أو لنتشاجر معهم وغالبا ما كنا نجد الف حجة لضربهم أو لابعادهم على الاقل عن أجوائنا البروليتارية والثورية .كان الوسخ وعدم الاستحمام من رموز ثوريتنا ، وهوية النضال الاكثر وضوحا.
في معارض الكتب كنا لا نشتري الا من الكتب التي تطبعها دار التقدم بموسكو ، وكانت مجلدات لينين العشرة بمثابة افتتاحية لمكتباتنا وبيوتنا وغرفنا البائسة ، لم يبق طالب منا الا واقتنى مجلدات لينين العشرة ، وكتاب راس المال وذكريات خالد بكداش في الكومنترن، وكان رفاقه يقولون لنا : لولا الرفيق ابو عمار لفشل الكومنترن وانتصرت الأحزاب البورجوازية  وأحزاب الاشتراكية الدولية ، وكنا نهمس في سرنا : يا لحسن حظ البروليتاريا والعالم  لوجود أبي عمار ، وكنا نحاول تصور العالم دون ابي عمار فلم نستطع ، فالدنيا كانت ستكون مجرد كوارث  وامبريالية عالمية وظلم واستغلال.. شكرا لوجودك في الكومنترن يا أبا عمار أيها الرفيق الغالي .. وأجل … ثم أجل.. ثم ثم أجل !
يوما بعد يوم راح صديقنا عبدالباسط ينتقد ابي عمار وينتقد الشيوعيين ويهمس أحيانا بان الاتحاد السوفييتي لا يقوم  بواجبه كما يلزم ، وان ستالين قتل تروتسكي ظلما وعدوانا وعلينا إعادة الاعتبار لنهج ترو تسكي ، وفضح البريجنيفية والتحريفية  في الحركة الشيوعية العالمية  وكان كثيرا ما يستشهد بآراء الرفيق الجديد الحكيم جورج حبش .
لم تمر أيام قلائل حتى كان صديقنا الثائر يسقط صريع الحب حين لم تبادله الرفيقة الثورية في ” القضية العادلة ” الحب بل صدته ولم تظهر له إلا الجفاء، بل كثيرا ما كانت تسخر من لكنته العربية الممزوجة بكردية بوطية، فهو كان يقول لمخيم اليرموك : مخيم يرميك ، على عادة البوطيين في كسر وتليين حرف الواو،ويوما بعد يوم لانت عزيمة صديقنا وراح يقلل من جلساته في مقصف الكلية، ومن مشاركته في مظاهرات مخيم اليرميك ، حتى انتهى به المطاف في المصح ، ومن هناك سمعنا أن احد أقربائه قد دبر له فيزا من فرنسا، وغادر إلى باريس  ليعمل في مطعم هناك ويدير نقاشات الحزب الشيوعي الفرنسي وهو واقف امام المغسلة يغسل الصحون للبرجوازية الفرنسية المقيتة ، وقيل مؤخرا انه مات بحادث سيارة مدبر بعد أن شعرت المخابرات الفرنسية انه على قاب قوسين أو أدنى من القيام بثورة شعبية تحرق الأخضر واليابس، وتنسي العالم ثورة الباستيل.
اما صديقنا عماد فقد كان قادما للتو من احد الأحزاب الكردية، منشقا ،  وكان دائم الافتخار أمامنا بأنه هو من اكتشف نتانة الأحزاب الكردية وبانه هو من قال لهم وصرخ في وجههم : انتم بورجوازيون عملاء للامبرياليه ولا يليق بي أن اناضل في صفوف احزابكم، كنا نفتح افواهنا مدهوشين أمام جرأة عماد وبعد نظره، وعندما لاحظ ذلك راح يمثل علينا دور المختار، وآغا الطلاب الجامعيين ، فكل من لا يعرف الرفيق عماد أو لم يجلس معه سيشعر بنقص حاد في مخزونه الثقافي والفكري، وهكذا صار عماد عماد جلساتنا واسشاراتنا بشؤون الأحزاب الكردية وشجونها ، كانت له علاقات متشعبة ، وكان لا يسمح لنا بالوصول إلى كل مناطقه ، وكنا نعرف بالتالي أية حدود علينا أن نقف عندها عندما نكون بمعية المناضل عماد ، حتى انه عندما كان يطلب منا أن نغادر غرفنا الوسخة، ليشارك هو وصديقة من مناضلات القضايا العادلة  في اجتماع سياسي بمفردهما ، كنا نفرح ونحن نترك لهما الغرفة ، وفي اليوم الثاني كنا نختلق ألف حجة لنفتخر أمام زملائنا قائلين : بالأمس لم أكن في غرفتي ، كانت مشغولة طيلة النهار، الرفيق عماد وإحدى الرفيقات ( من إحدى القضايا العادلة ) كانا يعقدان اجتماعا مطولا .
أما المناضل عماد والمناضلة عندما كانا يفتحان الباب لنا ايذانا بان الاجتماع قد انتهى ، كان يرسم المناضل عماد على وجهه أمامنا علامات الضيق والانزعاج والتأفف ، هامسا : يا أخي علينا أن نقرأ غرامشي جيدا ، فلديه بعض الأشياء الظريفة ، دائما أقول لكم اقرؤوا النبي الأعزل والنبي المسلح لتروتسكي إلا أنكم تتكاسلون ، يعني مو معقول أن نقضي أنا والرفيقة يوما كاملا في نقاشات فارغة حول آراء انطونيو غرامشي  ونظرية الثورة في الثورة .. انتم لا تقرأون ابدا ، وكان يرسم على وجهه علامات عدم الرضى من الرفيقة التي كانت تشاركه الاجتماع الطويل ذاك ، وكنا نهز رؤوسنا : نعم أيها الرفيق فعلا نحن مقصرون في قراءة غرامشي ومؤلفات الرفيق ترو تسكي، وانشاءلله في اجتماعكم القادم لن تخرجوا من الغرفة الا مرفوعي الرؤوس وعلامات النصر ترتسم على وجهيكما.
عماد هذا ترك كليته الهندسية ، وكان في السنة الرابعة، واختار له اسما حركيا هو تيكوشر .. يا الله كم كان الاسم طويلا ..! وكم كان غريبا وموحيا.. وكم كان ذا وقع ثوري على أفئدتنا , كيف لم نفطن مثله على اختيار اسم لنا ، اسم يلعلع ثورية ويسارية و وطنية، بقينا على أسمائنا القديمة التي اختارها لها ذوونا المتخلفون : احمد، عبدالباقي، طه، محي الدين الخ ، وحده عماد سبقنا واختار له الاسم المناسب، كنا نتدرب ليلا على حفظ اسمه ، فقد كان يغتاظ كثيرا ويعنفنا أن اخطأ احد وذكر اسمه القديم .
تيكوشر هذا وبعد أن انتهت كل اجتماعات القضايا العادلة ، دبر له احد المهربين فيزا أوربية وسافر هو الآخر إلى بلاد الجرمان وراح من هناك يكمل نضالا ته الثورية، ويفتح جبهة عالمية واسعة ضد الامبريالية والصهيونية والرجعية ودول النفط واليمين الأوربي ، وقال لنا احد القادمين مؤخرا من بلاد الجرمان :أن الرفيق تيكوشر يعمل الآن نادلا في بار للبيرا في مدينة ميونخ ويكتب كل يوم مقالة للانترنيت الكردي داعيا الأحزاب الكردية للتآلف ونبذ الفرقة ، شاتما الطاغية عبدا لله أوجلان الذي لا يحترم الرأي والرأي الآخر على قولة قناة الجزيرة, وينصح حزب العمال الكردستاني باللين والرفق، ونبذ الكفاح المسلح، واللجوء للنظرية الخامسة التي قام بتأليفها تحت سقف البيرة الألمانية الجنوبية،  وقيل أيضا بأنه يحضر لكتابة مذكراته أيام ” النظال السري ”  على قولة المرحوم أبو حلا .
اما رفيقنا وزميلنا مروان فقد كان شاعرا، ولا نعرف بم كان يشعر وقتها ، الا انه كان يقول لنا انه يكتب الشعر ، كان المسكين يحلم حلما واحدا فقط : وهو أن ينشر احدى قصائده في مجلة الهدف الفلسطينية، والتي كانت تخصص على الأغلب الصفحة الداخلية من الغلاف الأخير للردود على رسائل القراء الاكراد ، وكم كانت فرحة الاكراد تعلو وتكبر وهم يقرأون اسماءهم في تلك الزاوية، حتى أن امين احد الاحزاب الكردية كان غالبا ما يتكرر اسمه هناك فقد كان يرسل لهم مقالات صغيرة لا تتجاوز العشرين سطرا : وينشرونها له في زاوية ردود القراء ، فكان رفاق حزبه يشترون كل ما تقع تحت ايديهم من اعداد المجلة ويوزعونها علينا في الجامعة قائلين بفخر واضح : خذوا اقرؤوا مقالة رفيقنا الامين العام ، وكنا نعرف اين هي  فنفتح على الفور على صفحة الغلاف الداخلي، لنرى اسم امينهم العام مذيلا تحت بضعة اسطر حول مفاهيم الماركسية اللينينية أو تعاضد الشعوب ، والاخوة العربية الكردية أو تحت بند : ” أن انتصار اية قضية عادلة في العالم هو انتصار لقضيتنا ” . وتحتها التوقيع : فلان الفلاني : امين عام الحزب الكردي الفلاني .كنا نهز رؤوسنا مرددين : نعم أن انتصار اية .. الخ ..!
وكان صديقنا الشاعر مروان يستبد به الغضب ، كان يرسل قصيدة لهم وينتظر اسبوعا بعد اسبوع نشرها الا انهم لم يحققوا حلمه، حتى طفح به الكيل يوما وهجم على طاولة جماعة الجبهة الشعبية في المقصف، وشتم الحكيم وغسان كنفاني وكل شهداء فلسطين ، وعندما قام الشباب الفلسطيني لتأديبه ، اقسم الطلاب الكرد انهم لن يمسوه بسوء ، بل هم من سيتكفل بالمهمة، واجتمعوا على الشاعر المسكين يصفعونه ويركلونه باقدامهم صارخين به : خائن عميل انت تخرب العلاقات الثورية الكردية الفلسطينية وتدمر الاخوة العربية الكردية، وكان الشاعر مروان لا حول ولا قوة له امام زخم الركلات الثورية ، ومن يومها ترك المسكين الشعر والجامعة، وقدم طلبا للتوظيف في احد الافران العامة بدمشق، واقسم انه لن يبيع الرغيف للطلاب الكرد الذين يسكنون بالقرب من ذاك الفرن حتى يعتذروا له، ويعترفوا له نادمين بانه لم يكن فعلا يقصد تخريب العلاقات الفلسطينية الكردية ولا كان يخطط للمس بالاخوة العربية الكردية، وانه لم يكن ينافس الامين العام الكردي في النشر في تلك المجلة الثورية.
قبل حوالي السنة التقيت بصديقنا مروان والذي تزوج من شامية وسكن الشام ، سالته عن وضعه الشعري، فقال : قل لي هل ما زالت مجلة الهدف تصدر ..؟ سالته أن كان يود النشر فيها  فقال : لا ولكن ابني يكتب الشعر ويريد أن ينشر قصائده .
بعد حادثة مروان وتفرق شمل المقاتلين الفلسطينيين، تفرق شملنا ايضا كحبات حمص تسقط على حجر. وقررنا دونما اعلان أن نحب.. ونلتفت قليلا إلى شؤون قلوبنا.. الا اننا كنا مكسورين تماما من الاعماق..!
 للحديث بقية
طه خليل
 tkhalil2@hotmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…