إبراهيم محمود
من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً تشخيص الحالة النفسية، لمن يحضر جلسة مناقشة أطروحة دكتوراه جامعية، والتي تستغرق ساعات عدة ” أربع ساعات وسطياً ” ، وما في ذلك من وجوب التزام الهدوء والصمت، وفي الوقت نفسه، تكون المتابعة لحيثيات المناقشة قائمة، أو على الأقل، يكون التسمُّر في المكان، كما يتطلبه الوضع المتعلق بجو المناقشة . وعلي أن أضيف هنا، إن شعوراً بثقل الزمن ووخز ثوانيه، أحياناً يتلبس المدعو أو الحاضر، مع قلق وتوتر، عندما يكون هناك اهتمام بالموضوع، عموماً، أو متابعة له، ويتضاعف هذا الشعور، لحظة معرفة حية فيه .
هو ما حصل معي، حين حضرتُ جلسة مناقشة أطروحة جامعية لطالبة مجدَّة، ووجدتني مقدّماً لها ما من شأنه كتابة رسالتها الجامعية، وما فيها من تحديات على صعيد المنهج، ومن جهة المادة بالذات. طالبة كُردية من هولير” سارا زيد محمود ” وموضوعها: الخطاب السردي في روايات مها حسن “، ومها حسن كاتبة وروائية كردية سورية، تعيش الآن في فرنسا، ولها ” 13 ” رواية، وتتميز بخاصية المغامرة في الكتابة الروائية، وما لها من علاقة بانتمائها الاجتماعي والسياسي ” ككردية ” والنوعي كامرأة، وفي مصهر الرواية بالذات.
تهيبت الحضور بداية، وأنا في دهوك، سوى أن تقديري لجهود طالبتنا المجتهدة، ومعرفتي لشخصيتها البحثية، على مدى شهور، وهي لا تتردد في السؤال عن كل شاردة واردة، بهذا الصدد، في أوقات مختلفة، عزّز لدي ذلك الانطباع المأثور وهو جدارتها بأن أكون حاضراً جلسة المناقشة، من ناحية، ولما في دعوتها من تقدير بالمقابل، من ناحية أخرى .
اعتمدت سارا المنهج البنيوي التكويني لغولدمان، في الخطوط العامة، وليس تماماً، أو ليس باعتماد نقاط من منهجه” كما في حال رؤية العالم- العالم الداخلي- الخارجي.. إلخ ” ومزجه مع منهجيات أخرى ألسنية وسيميائية، وما في ذلك من خطورة جهة عملية الإخلاص للعنوان نفسه.
وأكثر من هذا وذاك طبعاً، ما يخص طريقة تقييم المناقشين في اللجنة ورئيس الجلسة، والمشرف…إلخ، واختلاف كل منهم عن الآخر، وفي مثل إجراء كهذا، يضع الطالبة في وضع لا تُحسَد عليه، ناحية تبعات طريقة كتابة الموضوع، وآليات الكتابة منهجياً…إلخ .
وهو ما تلمستُه في مجمل المناقشات التي تركزت في الغالب، على المفردات الخاصة بالمنهج.
جرت المناقشة في ” كلية الهندسة – قاعة د. شيركو بابان ” ليوم الأحد ” 12-11/ 2023 “
وتألفت لجنة المناقشة من الأساتذة الدكاترة: لطيف محمد حسن عضواً ومشرفاً- وعن الأعضاء في المناقشة: حسن حمزة حمود ” من بغداد ” وقد أرسل ورقة المناقشة، معتذراً عن الحضور، لأسباب مرضية- صالح ملا عزيز- عشتار داود محمد-هازا عباس علي. وكان الأستاذ الدكتور ياديكار لطيف جمشير رئيساً للجلسة ..
لقد سجلتُ أهم النقاط التي ترتبت على مناقشة رسالة سارا، حيث تباينت في أهميتها من الناحية العلمية، وما في ذلك من إبراز الشخصية العلمية للمناقش والمشرف نفسه وكذلك رئيس الجلسة.
أشير هنا بداية، إلى قراءة ورقة الدكتور حسين، من قبل رئيس الجلسة، وكيف أنها تميزت بتجريد الأطروحة من كل ما له صلة بما هو منهجي، وحتى على الصعيد اللغوي، وجانب الارتباك في الكتابة، أي عدم إحاطة الطالبة بالمنهج، سوى أنه في النهاية أشار إلى مدى أهمية الأطروحة وتثمينها، وما في ذلك من تناقض مع ما تقدم .
وربما أمكن القول، بالنسبة للآخرين، أنهم أكّدوا بداية على أهمية موضوع سارا، وجرأة الشخصية البحثية لديها، وليكون التركيز على العائد إلى المنهج واضطراب المفاهيم فيه، مثلاً، ما يخص العلاقة بين الراوي، والسارد، المؤلف الضمني والقارئ، الخطاب والخطاب والسردي..
وما كان يجب على سارا الالتزام به، بصدد اعتماد الدقة في استعمال آليات النقد، والرجوع إلى المصدر الأساسي، وليس نقلاً عن آخر، بخصوص ” جيرار جينيت ” صاحب العتبات، أو ” باشلار ” في جماليات المكان، وغيرهما.
وبعيداً عن الاسترسال في الموضوع حيث إن الذي أحاول إظهاره هنا، هو ما يستحق النظر فيه:
أولاً، تلمست تنويراً لمتطلبات المنهج، ووجوب اليقظة في استعمال كل شارة عائدة إليه.
إن خلطاً بين أي عنصر لمنهج ما، وآخر، يخرج الموضوع عن سياقه، ومن خلال العنوان بالذات، وحيث لم يكن هناك توحيد للمصطلح، ليحصل عدم بناء الموضوع كما متوخى .
ذلك ما تابعتُه بدقة، وما لذلك من تأثير فعلي على كتابة الموضوع وجعْله في مستوى اسمه.
سوى أن الذي تبيّن لي، وبوضوح تام، وكوني متابعاً لجوانبه، وأكثر من ذلك، على صعيد الكتابات الخاصة بالمرأة : الفكرية والروائية، هو أن أعضاء لجنة المناقشة، بما فيهم المشرف، لم يتعرضوا لمادة الموضوع، وما فيها من مأثرة اجتماعية، سياسية، تاريخية وجمالية إجمالاً.
أي ما يخص الكاتبة مها حسن، وهي في ” 13 ” رواية لها، والجهد المبذول من قبل سارا في قراءتها، بما فيها من تنوع عوالم، واختلاف أمكنة وأزمنة، وتغيّر فعل السرد نفسه، وسعي سارا إلى محاولة الإحاطة بكل هذه المتغيرات في بنية الكتابة لدى مها حسن، وربطها قدر استطاعتها بمفاهيم منهجية غولدمانية وجينيتية وباشلارية، تحرراً من ربقة المنهج الواحد.
بقي العالم الروائي المتعدد المناخات والسياقات الفنية، بتداخلات السرود فيه أشبه بـ” حقْل بكْر ” إن اعتمدنا هذه العبارة القديمة الجنسانية الطابع، ولم تجر الفلاحة فيها، ومكاشفة ” تربتها ” الدلالية، حيث تشكّل مها حسن من خلال رواياتها موضوعاً ثرياً في تمثّله الروائي لما هو اجتماعي، سياسي، وثقافي، وعلى صعيد الانتماء القومي والجندر نفسه .
نعم، مها حسن، بقيت، على وجه العموم في حكم الغياب، رغم أن المنهج يجري اعتماده لجعل العالم هذا مفهوماً، ولا أبعادَ للمنهج دون الأخذ بالمادة الحية الموصولة بالموضوع الموسوم.
أكثر من ذلك، لاحظت، أنه لم يجر ” احترم ” شخصية الروائية، كونها اعتمدت طريقة كتابة لا تتناغم مع تصورات فكرية أو ذوقية أو اجتماعية للذين ناقشوها، ذلك يسيء إلى جوهر الموضوع بالذات. إذ تطلَق أحكام تخص المناقش وحده، وتصادر على شخصية الروائية .
أشير هنا، إلى أن الدكتور المشرف، كان أكثر من شدد على هذه النقطة، جهة ” تسفيهها “، والإطناب في كيل المديح للمرأة في مجتمعنا.
كان في الإمكان الربط بين كتاباتها المختلفة، وإظهار ما إذا كانت متفاعلة مع بعضها بعضاً أم لا، وليس الرد عليها، وهي كاتبة رواية، واعتبارها شخصية سلبية، ومن خلال دعوى النسوية وخلافها.
وهو ما يدفع بي إلى القول إلى أن توجهات الروائية والفكرية لمها حسن مخالفة، بأكثر من معنى، لتوجهات أغلب أعضاء لجنة المناقشة، وخصوصاً، بالنسبة إلى تلك المشاهد التي تعكس ما هو إيروسي، وبشكل لافت، وصدمة المرئي فيها، ودلالته، بالنسبة ” يتنفس ” المحظورات، ومن منطلق ذكوري، حيث المرأة تحجَّب ككينونة، أو كجسد حي يعنيها ولا يعني الذكر أساساً.
إنه موروث الذاكرة الجماعية الذكورية الطابع، حتى بالنسبة للمرأة التي تعيش ” خواف ” أو ” فوبيا الأنثى كما دشّنت ذكورياً منذ زمان سحيق، وعزّزت عرفياً وحتى دينياً هنا وهناك .
تلك نقطة تسجّل على أعضاء اللجنة حيث لم يتطرقوا إلى عالم الرواية لدى مها حسن، إنما كانت النظرة أحادية جهة الرهان على المعتبَر منهجياً، من خلال مفهوم ” الخطاب الروائي “.
أشير هنا، وفيما يخص التعابير المتعلقة بالشخصيات، بكونها ورقية.. وتشديد الدكتور المشرف على أنها غير دقيقة، أي من صُلب الواقع، وهي حية وليست ورقية.. ذلك ابتعاد لافت عن المعنى والمتعلق بمفهوم الشخصية الروائية، حيث تكون من بناة خيال الكاتب، وتسطّر على الورق، أما أن تكون حية أو خلافها، فذلك عائد إلى مدى تمكن الكاتب من التعبير عن فكرته فنياً .
وإذا كان هناك من نقطة تستحق التسمية في المحصلة، فهي في تأكيد عموم أعضاء لجنة المناقشة، والمشرف في الواجهة، على أن سارا تميّزت بشخصية بحثية فعلية، وما فيها من عناد، رغم أنه عناد يجب أن يُحدَّ منه، لحظة التعامل مع ما هو علمي على صعيد المنهج.
ولعل الاتفاق على مثل هذه العلامة الفارقة، تأتى من خلال تقدير ضمني، وإن لم يُسم تماماً، على الجهد المبذول من قبل سارا في كتابة موضوعها، وهي إزاء كم لافت من الروايات ومرفقاتها من روايات أخرى، وقراءات مطلوبة لتتنور لحظة التعرض لها منهجياً.
وربما من هذا المنطلق، مُنحت درجة ” جيد جداً “. وهي تستحقها بجدارة كما توقعتها، وأخبرت سارا بذلك، قبل الإعلان عن النتيجة .
من جهتي، أبارك لسارا هذا الجهد المثمر، وهذه النتيجة، وأعتقد أنها بذلك تستطيع أن تباشر بناء حياتها الكتابية، حيث تكون الكاتبة القارئة والمشرفة على نفسها وما يشغلها فكرياً وفنياً، ويبقى للدرس الذي تمثّل في قائمة الملاحظات التي سمعتها من أعضاء لجنة المناقشة، وهي تناقش، وتستفسر، وتجيب عند سؤالها عن أي ملتبس، كما كان أحد الأعضاء يرى ذلك، يبقى له اعتباره الزماني والمكاني .