العاشق السماوي

إبراهيم محمود

كل ليلة…
كل ليلة كعادته…
كعادته كل ليلة
وأنا أرصده بتلسكوب ِ خيالي
مسجّلاً كل حركة تسمّي فيه
تحولاته بين دورته الكاملة 
وانتهائه قوساً مصابة بالهزال
يتتبع القمر كل خطوة لها
وقد خطف لونه الذي استحال حليبياً
يلثمها بكل ضوئه النابض بهواه
من عليائه يشتهي النفاذ إلى مجالها الأرضي
يعتبرها في ” عليائها ” لا العكس
ليعيش دفق أنفاسه في جسمه الذي خف وزنه كثيراً
لا يكف عن التقاط صور سيلفي
يودعها مرتّبة
في هيئات مختلفة
في صفحته الفيسبوكية المرخَّصة سماوياً
كل لقطة تزيده صبابة
يسير في رِكَابها
في غاية التهذيب خجولاً
لئلا يزعج حفيف ثوبها على الحصى
دبيب خطوها على التراب
مرجحة ذراعيها في الهواء الهائم بها
يتحاشى إقلاق راحة نبضها الذي يدوزن روحها الكونية
لاثماً الهواء الذي يلامس آثار خطاها
مع كل لمسة شهقة تثير استغراب الحجر الأصم
***
كل ليلة هو حال القمر المدمن عشقَ طلتها
نفسِها الخميرة التي تهبُ عجينة الوجود سخونة وفتْح شهية
مذ وجِد 
وهو يفيض بحبه بياضاً 
يحيل إليه كامل السماء
بفرشاته الضخمة 
لا يترك أثراً لأي كائن سماوي
لينفرد بأطلس السماء
ويحسن التحرك في معايشة معشوقته 
ليال طوال يمضيها
حتى يستحيل خيطاً قوسياً ناحلاً
مشغولاً بمعايشتها
ساعياً إلى لفْت نظرها
يرميها بألسنة حليبية هي عرقه
نتْح روحه
زفير وجْده
لتنظر إليه 
ويغيب متوحداً في صفحة وجهها المرآوية المسكِرة
ناسياً متناسياً كل قوت يبقيه بقوامه الدائري
ليلازم حجرته في القبة السماوية
تؤاسيه النجوم والكواكب ومخلوقات درب التبانة
في عشقه الأبدي الأبعد من العذري
حتى يكتمل عوده
ليعيد الكرَّة وهكذا
لا يستطيع مفارقتها
من يمكنه التأريخ لعشقي الأبدي هذا؟
يسائل نفسه !
ينغمس بها
حين تغوص في الماء
ينزل إلى القاع 
ليراها كما هي بدعة الطبيعة
ليعيش دفق السَّكَر الأنثوي منها
في اضطراب الماء الساري
يغيب عن الوعي
حتى تخرِج حركة طارئة من نفَس مائي
إثر امتشاق جسمها من غمد مائي محموم
وقد نال منه الوهن على وقع غرامه المحظور نسَباً
***
القمر المعلق في السماء
المخلوق الذي أودَع روحه الفائضة في كامل السماء
وأسكبها في الهواء الهابط بها إلى حيث تكون
أي هوى أسكنه جنونَه شديد الخصوصية؟
أي محظور دفع به ليكون المنذور لحرمان مؤبَّد
للغة لا تحصر حروفها
تعجز عن إيفاء لحظة شغف فيه حقَّها؟
القمر العالق المعلَّق في هوى
يقوده من مكابدة إلى شقيقتها الأكثر إيلاماً
أي هوى أحادي المرام من نوعه
يعمّق مفارقة كونية
يخص عشق كوكب ناء جداً جداً
لجسد هائل الجاذبية أنثوي 
من لحم ودم وسر مغلق
يبقي القمر هناك هناك
بكلمة مرور – ربما- ذكِرت
ونسِيت إلى الأبد
ليظل المأخوذ بها
عصياً على ملازمة ولاء الطاعة لقانونه السماوي
ربما ليشغل أذهان كائنات في جهة كونية ما
وليفرد له مكاناً لا حدود لاستقصاءاته القمرية الطابع
ليكون للحب أكثر من وصفة كونية
أكثر من لسان
أكثر من ثمرة محرَّمة
وأجلَب لبدعة خيالات غير مسبوقة 
يرفع من منسوب ماء القصيدة المتلاطم الأمواج
ويوسّع في ضفاف المعاني
تناسباً مع هذا الحدث الاستثنائي كونياً

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غريب ملا زلال

شيخو مارس البورتريه وأتقن نقله، بل كاد يؤرخ به كسيرة ذاتية لأصحابه. لكن روح الفنان التي كانت تنبض فيه وتوقظه على امتداد الطريق، أيقظته أنه سيكون ضحية إذا اكتفى بذلك، ولن يكون أكثر من رسام جيد. هذه الروح دفعته للتمرد على نفسه، فأسرع إلى عبوات ألوانه ليفرغها على قماشه…

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…

 

نارين عمر

 

” التّاريخ يعيد نفسه” مقولة لم تُطلق من عبث أو من فراغ، إنّما هي ملخّص ما يحمله البشر من مفاهيم وأفكار عبر الأزمان والعهود، ويطبّقونها بأساليب وطرق متباينة وإن كانت كلّها تلتقي في نقطة ارتكاز واحدة، فها نحن نعيش القرن الحالي الذي يفتخر البشر فيه بوصولهم إلى القمر ومحاولة معانقة نجوم وكواكب أخرى…

محمد إدريس*

 

في زمنٍ كانت فيه البنادق نادرة، والحناجر مشروخة بالغربة، وُلد غسان كنفاني ليمنح القضية الفلسطينية صوتًا لا يخبو، وقلمًا لا يُكسر. لم يكن مجرد كاتبٍ بارع، بل كان حاملَ راية، ومهندسَ وعي، ومفجّر أسئلةٍ ما زالت تتردد حتى اليوم:

“لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟”

المنفى الأول: من عكا إلى بيروت

وُلد غسان كنفاني في مدينة عكا عام…