الفنجان وأصل الحكاية

أفين احمد / ديريك  

لم تكن قط  قارئة للفنجان ، وإن برعت في حالات كثيرة وبالأخص معه واذهلته ، نعم .. ولدرجة صار هو يستلذ ويصغي باهتمام شديد وهو يراقب طريقة تناولها للفنجان ومن ثم تحريكها يمنة ويسرة للبقايا في القعر لتتخذ شكلها إن في قاع الفنجان او اطرافها ، وفي الواقع فقد كانت تذهله بادائها الصوتي وطريقة تفكيكها للجداريات لابل وحتى ارضية الفنجان ، نعم .. لقد اصبح الامر شبه عادة كما جلستهما معا في زاوية ذلك المقهى القابع في اعلى الجبل والمطل على منظره الساحر لهذا الجزء من المدينة وفي أسفله نهر مشجر الجانبين  ، وفي لجة انشغالها بتأملاتها ورعة جمال هذه السفوح الجبلية وسحر بقايا الغيوم المتباعدة وهي في ذهول ، وكأنها تكتشف أرض العجائب والجمال ، وهي التي لم تتوقع مطلقا – لابل والأصح – لم تتخيل مطلقا وجود بيئة  وبجمال يضاهي جمال ذلك الوادي الذي يقسم قريتها الصغيرة من المنتصف ، ولشدة انسجامها مع المشاهد الرائعة فقد بدت عنياها كجهاز تدور وتلتف ومن ثم تستكشف الجمال في كل شيء لابل حتى من اللاشيء وان بدت بعضها كصدى لاصوات اجسام لا مرئية ، نعم ! 
وفي الواقع لم يسلم منها أي تفصيل صغير ، وعيناها أضحيتا كرادر ثاقب تستكشف لابل تسعى لتلتقط  كل شيء ، عصفور صغير ، شجرة ضخمة ، ورقة شجر غريبة ، مجرى النهر واصطدامها بالصخور ، قرص الشمس الذي تحول لناري اللون ، بقايا الغيوم المتناثرة حول قرص الشمس والوادي الممتد بين سفحي الجبل ، كانت تتمتم بهدوء في سرها وبذهول تام وكأنها ترغب في التقاط لا لا إصطياد كل هذا الجمال ، أما هو فقد كان   يتطلع فيها بصمت ، يتأمل جمال عينيها وكأنهما حبتا بندق  وقد تسللا هروبا من الشجرة لتستقرا في عينيها ، يتأمل ملامحها الشرقية بوله شديد ، اغرم بابتسامتها الطفولية ، وهو في داخله يقول وبصمت شديد : يبدو أنني قد وجدت اخيرا ضالتي التي ظللت ابحث عنها طويلا  ضالته ، كان ينظر إليها بعمق ويكاد ان يخترق كينونتها وجدا وان يطوقها هياما بنظراته  الحادة ، نعم ! كان يحرقها بنظراته الى حد الحرج ، نعم نعم إنه يحرقها توهجا بتلك النظرات التي تخترق المسامات لتعبر  كل حواجزها ، وتتسلل مع بريق عينيه وكسهام نارية تسعى لتخترق كل مسامات جسدها ، وهنا وكمن هزها من العمق مشاعر جياشة ، أخذت تبحث في كل شيء ما يمكن ان تبعد العبث عن جسدها ، وسط كل هذه الإختراقات البصرية رغم مخيالها ! رغم أنها كادت ولأكثر من مرة ان تحد من جبروت ممانعتها ، وبين تغافل وتجاهل ، وتمريرة ببسمة لا مبالية ، الى همسة  وقد تصنعت فيها براءة مزعومة ، ولوضع حد لإنهيار خطوط دفاعاتها ، لم تر اي منفذ أومخرج سوى اللجوء الى براعة التصرف فكانت الفكرة المثالية ، اجل هي ذاتها الفكرة وفنجان القهوة المحتسية وبقاياها المغلية والمترسبة في ارضية  الفنجان بهياكلها وتشكلات رسومها ، اجل ادركت بانها الطريقة الوحيدة للتهرب من صمته ، والذي يخفي في باطنه وهج وان سعى ان يظهر خامدا .. ولعلها ! او هكذا بدا لها ! نعم لعلها قد تكون وجدت وسيلة ما فتتخذه دثارا ولو وهميا تجعله حاجزا تتقي به من نظراته ووهج تلهفها ، و .. التقطت الفكرة سيما وعيناها التقطت قاع فنجانه ، إذن ! هي الطريقة الوحيدة للهروب سواء من صمته ، او الإحتماء وهما في حضنه .. إذن أظنه هو الأنسب الزعم في قراءة ذاك الفنجان ، وجعله قاعدة ارسال حقيقي وان غلفته تحت بند قراءة الفنجان ، اجل ولما لا ؟! فقد كانت تدرك جيدا بأن جداريات الفنجان ولوحتها المرسومة ما هي سوى بقايا بنٍ مطبوخ وقد تبعثر في تلك الفسحة البيضاء المحوطة ، و .. طرحت الفكرة .. وافق الشاب على الفكرة رغم قناعته التامة بأنها غريبة عن عالم التنجيم والبصارة ولا تفهم فيها شيئاً ، وبحنكته ادرك بانها تتهرب من نظراته الفاتنة بمصائده المتتالية و … بحنكتها البارعة ،  و … هي القارئة فعلا للوحات وبقايا القهوة في قعر الفنجان وماهية رسوماتها ، وقبلا فقد كانت قد استدرجته في احاديث متنوعة ، وكان هو يسترسل بعفوية ويسهب بعمق في تفاصيل امور عديدة مما كان يختلج في دواخله .. وهو في الواقع كان يفسر تصرفاتها ! لابل ظن بأن ماتفعله هي وبكل بساطة انما تتهرب منه ، و .. لجأت هي الى حنكتها والقهوة وبقايا قعر الفنجان وايهامات التشكل فيها ، واستعانت بكل طاقة أومنسوب خزنتها ذاكرتها ان لأسلوب وطرق قارئات الفنجان او فحوى احاديثهن ، هذه الامور التي كانت هي في الاصل  تعرف طرائق غالبيتهن اللاتي تستخدمن حتى ذات العبارات وان تميزت كل واحدة منهن بأسلوبها المميز . و .. تحدثت وزادت وهي تسترسل على ذات النسق  لتوهمه أنها بالفعل بارعة ومحترفة فيما تفعله ، واخذت تبدع في موائمة كلامها مع نبرتها رغم يقينها الكامل بلا جدوى كل ماتقوله وانما هو مجرد استرسال لتخدعه ، وهي تستخلص افكارها ببعض من تلاطيش حديث لوقائع استقتهاىمن بعض تفاصيل كانت قد استطاعت هي ان تنتزعها منه ، وبالفعل كاد ان يقع في فخها وان تستدرجه هي بكل بساطة ، ولكنه وكمن انتبه فاخذ يناور ويراوغ ويتجاوب حينا ويعود ويناور و .. ادرك بانها فعلا قد استطاعت وبذكائها باتت تعلم عنه ربما أكثر من نفسه ، وان أدرك هو ايضا بانها مهما حاولت الهروب والإختفاء منه فلن تنجو هي مطلقا من فخاخ قلبه الذي بات بها ولها عاشقا .. وباتت مقتنعة تماما وهو مثلها بأن الفال في الواقع هو حديث يحكى بمغاز لها اوجهها ولكنها في الاصل وكما هي المبتدأ والنهاية فيها تتلخص بأن كل الحكاية ليست سوى نطق وعلى هديها يتم التأسيس لنمط جديد يسوده الهناء والهدوء بسكينته المعتادة .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…