هيثم حسين
في زمن التيه، في زمن البحث عن سبُلٍ تدلّ على منافذ نجاة مأمولة، في زمنٍ لا يعود فيه للغَرقى أيّ اعتبار، هؤلاء المغرَقين في بحرٍ لا قرار له، هو بحر كان يفترض به أن يكون سبيلاً من تلك السبل المرتجاة في التخليص إلى العالم الآمن، إلى حيث الهدوء والاستقرار، والتعثّر بالذات المضيّعة، في بلاد تسوَّر بالضياع، في محاولة لتبديده، كما يُدَّعى ذلك، حتّى لَقد يصحّ أن نطلق على هذا العصر، في هذا المكان، حيث نقيم، عصر الضياع، في حين يُسمَّى العصر نفسه عند الآخرين، بعصر العلم أو التكنولوجيا..
من أين نأتي..؟!
إلى أين نمضي..؟!
ونحن المحاصَرون بأحلامنا الكبيرة، وآلامنا الكثيرة، نحن الهامدون وسط عالم يضجّ كلّ يوم بالجديد، أمّا جديدنا لهذا العالم هو تصدير الضياع، اللجوء حيث يسكن، هرباً إليه منه..
كأنّي بالكاتب عندما يعنون مجموعته القصصيّة هذه بـ”الضياع”، ويثبّت ذلك، يبتغي لَعْنه، القضاء عليه، بعثرته، محاولاً إبدال المواقع، ومن ورائه إرباك الساعين إلى الدفع بالمهاجرين، الذين يصنّفون كقطيع يُوضَع في عنابر مخصّصة للحيوانات، في رحلة البحث عن المنفى الصغير، رغم أنّ المنافي الكبرى تتقوقع في ذواتنا، والغربة الأقسى ترتحل معنا، وبالتالي نزع رائحة، هؤلاء المهجّرين، الإنسانيّة منهم، كي لا يُكتَشفوا على أنّهم بشرٌ، رغم الشكّ الذي يتخلّل التوصية المطلَقة، المغلَّفة ببسمة هازئة، دون أن يُترك لهم هواء ليقتاتوا عليه في جحرهم البحريّ..
أقول، إنّ الكاتب ينطلق من مأساة تعمّ؛ من مآسٍ تشلّ كلّ الطاقات، ابتداء من العامّ الذي تنفطر له القلوب، وانتهاء بالأسى الذي يخلّفه سوء التربية في أنفس الأطفال، ونحن ضمناً، عندما اقتُلعت تلك الطفولة من داخلنا، وانتُزعنا من براءتها انتزاعاً، إذ كان الأطفال يُتركون، وما يزال قسم منهم، نهباً للتربية البرّيّة، أو الشارعيّة، فيكون البريء غشيماً مضحوكاً عليه، والطيّب مغفَّلاً مغرّراً به، أمّا الجناة فهم وحدهم مَن يستحقّون المضيّ في غيّهم، دون أن يتجرّأ أحد، على السؤال: “مَن سبى الحلم وأرخى الهمّ بحقدٍ علينا..؟! ومَن رمى أيّامنا بالقهر، بالغدر، بأغلال السجون..؟!”.. لنُلقى حيث نضيع، لنَبقى كما أُريد لنا في لجّة الضياع، تصفقنا الأمواج، تصرعنا الحيتان في تلاعبها وتسلّيها بنا.. حتّى لا يكون كلّ شيء برسم البيع، منذوراً له.. في مخطّط التمييع القيَميّ المُشتَغل عليه بحقدٍ موغَلٍ فيه، مُعمٍ صاحبَه الذي لا يفسح لنفسه مجالاً كي يرى ما يجب أن يُرى..
النهايات تأتي مفاجئة أحياناً، فاجعة أحياناً أخرى، تثير التساؤلات في عرضها للمُشكل من الأمور، تبقيها مثارة، لأنّ تنوّع الإجابات يغني ما قد نصطلح عليه بالحلول، لكن لا الترقيعيّة التي تقبّح في محاولتها التجميل، بل الجذريّة التي لا يكتمل من دونها أمرٌ، ولا يستوي كذلك، كما لا يخفى تأثير الحوار المسرحيّ في قصصه، وفيه إشراك للقارئ بتوسيع مجال الحوار، في دعوة إلى ذلك.. كما أنّه يلجأ، في بعض الأحيان، إلى تطعيم لغته القصصيّة بكلمات عامّيّة، أو أمثال شعبيّة.. وهذا ليس عيباً، لأنّه يندرج في سياق البحث عن لغة وسطى لا تتعالى على القارئ، ولا تبتعد عنه..
هل درجت العادة على أن يكون التقديم لكتابٍ ما، أيّاً كان، تقريظيّاً..؟! أم هكذا تَعورف..؟!
قد نتّفق مع الكاتب في بعض المطروح من الآراء والتنظيرات، كما قد نختلف معه، وهذا يكون إغناء للمناقَش، لا اغتناء عن الآراء الأخرى..
في قصّة “الحرّيّة الزرقاء” مثلاً، يختم الكاتب بتعريفه للحرّيّة، على أنّها: “مخلوق هلاميّ أزرق اللون يشبه البحر، السماء، السراب، يجوب الفراغ منذ الأزل، يموت إذا وطِئ الأرض، ولا يعيش إلاّ إذا كان بعيداً عن الجاذبيّة الأرضيّة.. والجاذبيّة الإنسانيّة”.. إنّه تصوَّر روحيّ للحرّيّة.. إلى أيّ حدٍّ تُلوّن الحرّيّة، إلى أيّ حدٍّ نوافق الكاتب في توصيفه وتعريفه هذا، أين اللون الأحمر من الحرّيّة التي تتباهى بالانتماء إلى مثل هذا اللون..؟! أين هي من التحدّي..؟!
إنّ “الضياع”، صرخةُ رفضٍ للضياع، محاولة تحدٍّ له، لفكّ العقد المنعقدة على بعضها، دون انتشاء بلذّة الألم، دون يأسٍ بانتهاءِ حبٍّ لا يموت، وإن ماتت القصيدة التي تُزدهر باكتشاف الطاقة التي يولّدها الحبّ، مثل “غوته”، الذي قال: إنّه أصبح شاعراً عندما أحبّ.. هكذا يكون كلّ محبّ، لكنّ الفصول لا تحافظ على إيقاعها، ولا تفي الليالي بوعدها، لأنّ الواقع لا يماري، ولا يمنح جوائز ترضية مجّانيّة..
كذلك، دون تقمّص شخصيّة “اللصّ الخفيّ”، الذي لا يريد الطفل في داخلنا أن يتعرّف عليه، دون ثأر لطفولتنا التي لا تكفّ عن الوخز كرباً على الأحلام المسروقة، دون أن نخجل من دموع يجب أن يراها العالم، بعيداً عن حبس تلك الدموع التي قد يعاب على البعض ذرفها، خاصّة عندما يقال في السياق: “أنت رجل.. أليس عيباً أن…”.
يجب أن يدمع الرجال، دمعاً.. وعندما يتطلّب الأمر، دماً، لابدّ من ذلك..
عارٌ ألاّ يدمع الرجال..!!
عارٌ ألاّ يحلم الرجال..!!
ــــــ
– مقدَّمة المجموعة القصصيّة التي صدرت حديثاً للقاصّ محمّد علي علي بعنوان “الضياع”.
إلى أين نمضي..؟!
ونحن المحاصَرون بأحلامنا الكبيرة، وآلامنا الكثيرة، نحن الهامدون وسط عالم يضجّ كلّ يوم بالجديد، أمّا جديدنا لهذا العالم هو تصدير الضياع، اللجوء حيث يسكن، هرباً إليه منه..
كأنّي بالكاتب عندما يعنون مجموعته القصصيّة هذه بـ”الضياع”، ويثبّت ذلك، يبتغي لَعْنه، القضاء عليه، بعثرته، محاولاً إبدال المواقع، ومن ورائه إرباك الساعين إلى الدفع بالمهاجرين، الذين يصنّفون كقطيع يُوضَع في عنابر مخصّصة للحيوانات، في رحلة البحث عن المنفى الصغير، رغم أنّ المنافي الكبرى تتقوقع في ذواتنا، والغربة الأقسى ترتحل معنا، وبالتالي نزع رائحة، هؤلاء المهجّرين، الإنسانيّة منهم، كي لا يُكتَشفوا على أنّهم بشرٌ، رغم الشكّ الذي يتخلّل التوصية المطلَقة، المغلَّفة ببسمة هازئة، دون أن يُترك لهم هواء ليقتاتوا عليه في جحرهم البحريّ..
أقول، إنّ الكاتب ينطلق من مأساة تعمّ؛ من مآسٍ تشلّ كلّ الطاقات، ابتداء من العامّ الذي تنفطر له القلوب، وانتهاء بالأسى الذي يخلّفه سوء التربية في أنفس الأطفال، ونحن ضمناً، عندما اقتُلعت تلك الطفولة من داخلنا، وانتُزعنا من براءتها انتزاعاً، إذ كان الأطفال يُتركون، وما يزال قسم منهم، نهباً للتربية البرّيّة، أو الشارعيّة، فيكون البريء غشيماً مضحوكاً عليه، والطيّب مغفَّلاً مغرّراً به، أمّا الجناة فهم وحدهم مَن يستحقّون المضيّ في غيّهم، دون أن يتجرّأ أحد، على السؤال: “مَن سبى الحلم وأرخى الهمّ بحقدٍ علينا..؟! ومَن رمى أيّامنا بالقهر، بالغدر، بأغلال السجون..؟!”.. لنُلقى حيث نضيع، لنَبقى كما أُريد لنا في لجّة الضياع، تصفقنا الأمواج، تصرعنا الحيتان في تلاعبها وتسلّيها بنا.. حتّى لا يكون كلّ شيء برسم البيع، منذوراً له.. في مخطّط التمييع القيَميّ المُشتَغل عليه بحقدٍ موغَلٍ فيه، مُعمٍ صاحبَه الذي لا يفسح لنفسه مجالاً كي يرى ما يجب أن يُرى..
النهايات تأتي مفاجئة أحياناً، فاجعة أحياناً أخرى، تثير التساؤلات في عرضها للمُشكل من الأمور، تبقيها مثارة، لأنّ تنوّع الإجابات يغني ما قد نصطلح عليه بالحلول، لكن لا الترقيعيّة التي تقبّح في محاولتها التجميل، بل الجذريّة التي لا يكتمل من دونها أمرٌ، ولا يستوي كذلك، كما لا يخفى تأثير الحوار المسرحيّ في قصصه، وفيه إشراك للقارئ بتوسيع مجال الحوار، في دعوة إلى ذلك.. كما أنّه يلجأ، في بعض الأحيان، إلى تطعيم لغته القصصيّة بكلمات عامّيّة، أو أمثال شعبيّة.. وهذا ليس عيباً، لأنّه يندرج في سياق البحث عن لغة وسطى لا تتعالى على القارئ، ولا تبتعد عنه..
هل درجت العادة على أن يكون التقديم لكتابٍ ما، أيّاً كان، تقريظيّاً..؟! أم هكذا تَعورف..؟!
قد نتّفق مع الكاتب في بعض المطروح من الآراء والتنظيرات، كما قد نختلف معه، وهذا يكون إغناء للمناقَش، لا اغتناء عن الآراء الأخرى..
في قصّة “الحرّيّة الزرقاء” مثلاً، يختم الكاتب بتعريفه للحرّيّة، على أنّها: “مخلوق هلاميّ أزرق اللون يشبه البحر، السماء، السراب، يجوب الفراغ منذ الأزل، يموت إذا وطِئ الأرض، ولا يعيش إلاّ إذا كان بعيداً عن الجاذبيّة الأرضيّة.. والجاذبيّة الإنسانيّة”.. إنّه تصوَّر روحيّ للحرّيّة.. إلى أيّ حدٍّ تُلوّن الحرّيّة، إلى أيّ حدٍّ نوافق الكاتب في توصيفه وتعريفه هذا، أين اللون الأحمر من الحرّيّة التي تتباهى بالانتماء إلى مثل هذا اللون..؟! أين هي من التحدّي..؟!
إنّ “الضياع”، صرخةُ رفضٍ للضياع، محاولة تحدٍّ له، لفكّ العقد المنعقدة على بعضها، دون انتشاء بلذّة الألم، دون يأسٍ بانتهاءِ حبٍّ لا يموت، وإن ماتت القصيدة التي تُزدهر باكتشاف الطاقة التي يولّدها الحبّ، مثل “غوته”، الذي قال: إنّه أصبح شاعراً عندما أحبّ.. هكذا يكون كلّ محبّ، لكنّ الفصول لا تحافظ على إيقاعها، ولا تفي الليالي بوعدها، لأنّ الواقع لا يماري، ولا يمنح جوائز ترضية مجّانيّة..
كذلك، دون تقمّص شخصيّة “اللصّ الخفيّ”، الذي لا يريد الطفل في داخلنا أن يتعرّف عليه، دون ثأر لطفولتنا التي لا تكفّ عن الوخز كرباً على الأحلام المسروقة، دون أن نخجل من دموع يجب أن يراها العالم، بعيداً عن حبس تلك الدموع التي قد يعاب على البعض ذرفها، خاصّة عندما يقال في السياق: “أنت رجل.. أليس عيباً أن…”.
يجب أن يدمع الرجال، دمعاً.. وعندما يتطلّب الأمر، دماً، لابدّ من ذلك..
عارٌ ألاّ يدمع الرجال..!!
عارٌ ألاّ يحلم الرجال..!!
ــــــ
– مقدَّمة المجموعة القصصيّة التي صدرت حديثاً للقاصّ محمّد علي علي بعنوان “الضياع”.