ذات يوم قادم

إبراهيم محمود

ذات يوم قادم، قال لي بابا طاهر الهمذاني: انظرني. أردتُ التصوف برباعياته، لأن الذين تكلموا لغتنا أورثوني صداعاً لا بُرء منه.. وسوف يكون لك ماض ٍ حافلاً بالصداعات والتصدعات .
ذات يوم قادم، قال لي ملا الجزيري: تابعني. لقد بلغتْ صرختي عنان السماء، ولم يحمِني تصوفي من الكيديات المتبادلة ممن يكونون قسمُهم: الكردية، بتبعات صدوعها الروحية.. وسوف تؤمّن لك، أنت ” ماضياً غنياً بالأوجاع وما لا عين رأت ولا أذن سمعت جهة الدوامات.
ذات يوم قادم، قال لي شرف خان بدليسي، بعظمة لسانه: ضع عينك في عيني، وتابعني إلى الآخر. تلومونني يا كتّاب لأنني تحدثت عن تخاصمات هؤلاء الذين تزعموا جماعاتهم، والشقاق ميزتهم، وربط نسَبهم بالآخرين، ولم أسلم من قيلهم وقالهم الصادمين.. وسوف تعيش أنت ماضياً حافلاً بالقلق والسهر والحمى ما حييتَ. 
ذات يوم قادم، أعلمني أحمد خاني بكل وقاره، وأنا أستغرق في خيالاتي المعذبة والمعتادة، قائلاً:
اصغ إلي جيداً. إنهم يأتون على ذكْري دائماً، هؤلاء الذين يعنينا أمرهم، الصالح والطالح فيهم.. أأعجبك ذلك؟ اكتب عن ذلك، حتى قبري ضاق علي.. وسوف يكون لك ماض ٍ، يضيف أوجاعاً إلى أوجاع، كونك أنت في جمعهم وهم مِزَق!
ذات يوم قادم، قال لي جكرخوين، ربما قبل فترة محدودة على ما أذكر: دقق معي. عشتُ سنوات وسنوات وأنا أردد حسرتي الكردية عما تعاني كرديتنا من تنافرات أولي أمرها، ورحلت ولم تفارقني أدخنة تنابذات رموزها اللقبية. طبعاً، سوف يكون لك ماض منكود يا ابراهيم محمود.
ذات يوم قادم، قال لي شيركو بيكه س، وهو متوتر: اصغ إلي لو  سمحت: هؤلاء الذين قلتُ فيهم الكثير كردياً، ورسمتُ أنين أوجاعهم، كنت أخفي أوجاعي النارية داخلي، وما زلت أعانيها.. وكن على بيّنة، أن ماضيك الذي تفكّر فيه، سيجرك إلى أتونه وإن بلغتَ سدرة المنتهى.
ذات يوم قادم، قال لي من لم يكشف لي وجهه ولا اسمه، وأنا محشور في حفرة ضيقة، وبعظام عارية: لا بد أنك تسمعني.. كتاباتك لم تشفع لك، شأن من سبقوك، وهأنذا أذكّرك بما سمعته، وأنت حي، ولا بد أنني أنا نفسي، موعود بماض لا يؤتنَس به، إنما مجهول آتيه في ربقة فانيه.!!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أعلنت منشورات رامينا في لندن، وبدعم كريم من أسرة الكاتب واللغوي الكردي الراحل بلال حسن (چولبر)، عن إطلاق جائزة چولبر في علوم اللغة الكردية، وهي جائزة سنوية تهدف إلى تكريم الباحثين والكتّاب المقيمين في سوريا ممن يسهمون في صون اللغة الكردية وتطويرها عبر البحوث اللغوية والمعاجم والدراسات التراثية.

وستُمنح الجائزة في20 سبتمبر من كل عام، في…

في زمنٍ تتكسر فيه الأصوات على صخور الغياب، وتضيع فيه الكلمات بين ضجيج المدن وأنين الأرواح، يطل علينا صوتٌ شعريّ استثنائي، كنسمةٍ تهبط من علياء الروح لتفتح لنا أبواب السماء. إنه ديوان “أَنْثَى عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ” للشاعرة أفين بوزان، حيث تتجلى الأنوثة ككائنٍ أسطوري يطير فوق جغرافيا الألم والحنين، حاملاً رسائل الضوء، ونافخاً في رماد…

ماهين شيخاني

كان مخيم ( برده ره ش ) يرقد بين جبلين صامتين كحارسين منسيّين: أحدهما من الشمال الشرقي، يختزن صدى الرياح الباردة، والآخر من الغرب، رمليّ جاف، كأنّه جدار يفصلنا عن الموصل، عن وطنٍ تركناه يتكسّر خلفنا… قطعةً تلو أخرى.

يقع المخيم على بُعد سبعين كيلومتراً من دهوك، وثلاثين من الموصل، غير أن المسافة الفعلية بيننا…

إدريس سالم

 

ليستِ اللغة مجرّد أداة للتواصل، اللغة عنصر أنطولوجي، ينهض بوظيفة تأسيسية في بناء الهُوية. فالهُوية، باعتبارها نسيجاً متعدّد الخيوط، لا تكتمل إلا بخيط اللغة، الذي يمنحها وحدتها الداخلية، إذ تمكّن الذات من الظهور في العالم، وتمنح الجماعة أفقاً للتاريخ والذاكرة. بهذا المعنى، تكون اللغة شرط لإمكان وجود الهُوية، فهي المسكن الذي تسكن فيه الذات…