إبراهيم محمود
مجرد إشارة
ماالذي يجعلنا نتحدث عن الحب، وبلغة الجمع لا المفرد؟ ألأن مجرد الحديث عن الحب، تسميته، الإشارة إليه حضوراً أو غياباً، تناوله أدبياً، أو في قصيدة، أو فلسفياً من زاوية معينة، أو كمفهوم فكري مختلف، يقوم على أساس جمعي؟ كيف ينشغل الفردي بمعناه، وفي نطاق الجمعي؟
نعم، نحن نحب، وأن يتحدث أحدنا بلغة الجمع، فلأنه ينسّب نفسه إلى جماعة، مجتمع، عالم لامتناه من العلاقات، وهذه تسمّي بشراً، وكائنات معلومة ومجهولة، وعوالم أخرى يجري تخيلها تتكفل لغة الأدب أو الفن بالإشارة إليها .
هل هناك من لا يحب؟ في النفي، كيف يمكن الإقامة في الحياة، لأن الحب هذا انفتاح على الخارج، التحرك في علاقات لا تتوقف في الجهات كافة، أكبر مما تصوغه اللغة نفسها، أوسع من كل الحدود المقامة، لأن الحب تدفق حالات الروح هنا وهناك.
كلٌّ منا يحب على طريقته. إنما ثمة قاسم مشترك، يصل بين الجميع، دونه ينعدم الحب كمفهوم.
مجرد صدى لما هو حسي
الحب هو أن يأخذ الآخر علماً بك بأنك تحب دون وجود عِقْد، فهو ليس شرطياً، بما أنك تخرج من ذاتك الفردية، وبها في الوقت نفسه تكون، ومن خلال أسلوبك في التعامل مع وسطك يتشكل لك حب معين لدى الآخر، وما الاستمالة إليه، وبالعكس، إلا إيذاناً بأن هناك شعوراً مركَّباً يصل بين اثنين ولا يؤطَّر.
ربما أمكن القول أن الحب هو كلمة السر، والمرور، وخميرة في عجينة أي علاقة، حيث لا شيء يمكن النظر أو التفكير فيه بعيداً عن مؤثرات الحب، عما يكون عليه الحب من تنوع.
في الحواس ثمة ما ينير الحب مفهوماً نفسياً وعلاقة: اللمس خاصية جلدية، لكن الشعور المترتب على لمس أي جسم في الخارج، عموماً، يُسمّي حباً، ويعززه. أليس اللمس لغة الاتصال الأولى في العالم لدى الرضيع وهو يرضع من ثدي أمه، وفي الوقت نفسه، بيده الصغيرة بالغة النعومة يقبض على ثديها، ليكون الفم الذي تكون لغته حسية” دون لغة “معْبراً لعلاقة أولى مع جسد أول هو برزخ الحياة وعمقها وروعتها بين الكائن والعالم، وفي داخل منا ثمة أمومة معينة دونها تستحيل الإقامة في الحياة؟
اللمس انغمار بالمؤثرات بمفهومها الفيزيائي لأي جسم نتناوله أو نتعرف عليه جلدياً، وما المسامات إلا تلك القوى الصامتة التي تترجم مؤثرات خارجية معينة، بطريقة معينة إلى داخلنا .
الشم خاصية حبّية، لأنه يحدد أسلوباً آخر من أساليب التعامل والتفاعل مع الخارج. إنه أنفنا هذا الذي يربطنا بالخارج عن طريق الروائح، ويا له من قوة، من ملَكة لحمية تجويفية ومرئية مثيرة وتثير الخيال إلى ما لا نهاية من الصور والتعابير. الشم بمؤثّره الأنفي يرينا ما لا نراه، ويصلنا بما ليس لنا به علم، ويستوقفنا حيث يكون ما يشغلنا. إن علاقاتنا في جانب حي منها ممهورة بالشم، ولهذا، نضفي على الأنف قيمة سحرية، ليس بوصفه جميلاً أم لا، وإنما لأنه أكثر من عضو لحمي في الوجه بحساسيته، كما في ربطه بالروح. وما نصوصنا التي نكتبها إلا هذه المآثر التي تُسمي بفضيلة شمية، ما الشم إلا هذا الفاعل الذي لا يُسمى لكنه نشط على مدار الساعة، وهو ناقل مؤثرات من جهتين: حباً .
بالطريقة هذه يمكن الحديث عن الذوق، وهو يمضي بنا إلى الداخل، إلى الغدد اللعابية، وهذه لا تخفي مأثرة التعبير الكيميائية عما يخصنا ليس من أطعمة بأصنافها ودرجات تأثيرها، وإنما من علاقات لا تخرج في وجه من وجوهها عن خاصية ذوقية” فلان مذوق، فلان له ذائقة..”، الذوق من جهته عامل حيوي بالغ الحضور والأثر في نسج أو تلوين علاقاتنا مع أنفسنا والآخرين بمفهوم حبّي.
وفي السمع، ما يوسّع حدود العلاقات الفعلية والمتخيلة، وما يكونه الحب من حضور مختلف، حيث يستحيل تحديد ذلك الثراء الذي يتعهد عضو السمع بتسميته، ومقابله عضو النظر: العين. لفاعلية العين ما يثير تاريخاً لا يحاط به من العلاقات، كما لو أن العين” تشم ” أو ” تلمس ” أو تذوق”، أو ” تسمع ” استناداً إلى المكانة اللافتة المعطاة لها، وفي العمى نفسه يظل الاسم شغالاً بالمعاني، في البصيرة، وفي مختلف حالات الحواس، لا إمكان لحديث عن علاقة، باعتبارها قُرباً إلا حباً .
مجرد تأكيد معرفي
لا أعني أن الحب هو الذي دشّن العالم، أن الله نفسه لا مجال للحديث عنه، بمفهومه العام، واختلاف تهجئة اسمه وكتابته بلغات مختلفة، وكقوة مطلقة، إلا انطلاقاً من هذا الحب، كونه انشغالاً بالآخر، وكونه توجهاً إلا الآخر، وكونه عطاء للآخر، دون أن يضع شرطاً، لأنه ينبوعيّ مقاماً وخاصية . ما أعنيه هو أن الحب ، وإن كان ينطوي على حساسية تذكّر بالمعتبَر نقيضاً له: الكره أو الكراهية، لكن ذلك لا يعدو أننا في أصل تكويننا في كل محاولاتنا ومذ وجِدنا نراهن على الحب، وإن لم نأخذ بذلك علماً، ونتحك بطاقة حبّية لعمران قيمنا وعلاقاتنا ومدننا وتجميل عالمنا، من خلال مفهوم تنوع الاهتمامات والموضوعات التي ننشغل بها في الفنون والآداب والعلوم .
سيقال أن الذي يعرَف به العالم، وإلى الآن، ما يخالف هذا المفهوم، في الحروب مثلاً. ذلك صحيح، إنما الذي يشغلنا ككاتب ينوّع في موضوعاته، من باب الاهتمام، ولأن الذي يكون الفاعل الرئيس في ذلك هو هذا الذي يدفع لأن أفكر في الخارج وهو في روحي ينبض بصيغ شتى، وأنا أتخيله بطرق مختلفة في الذي أسطّره، أو يتمثله غيري في الفن، في الكتابة المغايرة.
ليس من حب دون إشعار الآخر بأن الذي تقوم به يتجاوزك ويسمّيك فرداً وجمعاً. وفي الحب بين اثنين، يشعر أحدهما أنه موجود في لقيا الآخر، وأنه به موجود، إلى درجة التلاشي فيه ، وأن ذلك الكم الهائل من المشاعر والأحاسيس في أصل التعابير التي يجري تلفّظها وكتابتها، والشعور بأن هناك ما يفيض على كل لغة، أو تعجز أي لغة في نقل ولو لحظة إحساس واحدة من فنان، من شاعر، أو من مأهول بحب غيره، إنما يشكّ شاهد عيان بليغ، يستحيل الطعن في شهادته، على هذا الذي نسمّيه حباً هنا.
الحب هو أن تكون أنت وليس أنت، حين تشعر بقوة تشدك إلى ما يشغلك، وحين يشغلك ما يخرجك من ذاتك، وتكتشف كم أنت واسع، وأنت محدود، كم أنت عميق وأنت مأخوذ بسطح معلوم، كم أنت بعيد المدى، وأنت محدود، كم أنت رحب، وأنت ضيّق، وكم أنت هائل الثراء في مشاعرك وأحاسيسك وفي الذي تريده خارجاً، وأنت فقير مشدود إلى مكان معلوم بعنوانه، بناسه، وقيمه. الحب هنا كيفي، وفي الكيفية يكون الحب ذوقاً، فناً، أدباً، فلسفة، وفكراً. وما هذا المتصوف الذي ينشد اللامتناهي في خالقه باعتباره المطلق، إلا تأكيد يقين أنه الحب المطلق، وما حبه إلا الجواب الأبلغ على أنه كائن حب، وأن شعوراً ما بوجود كراهية من حوله وفي نفسه، كان منشّطاً له ليفيض خارجاً .
مجرد تسمية
ما الكتابة الإبداعية وهي تشكل تنويراً لعلاقات، وتأثيراً باعثاً على تنشيط الروح، إلا إشعاراً بالحب.
ما الإعجاب بشيء، بأمر، بوضع، بحالة، بموضوع، بكائن ما، إلا تعبيراً عن مؤثر حبّي معين .
أترانا قادرين على أن نهتم ببعضنا بعضاً لحظة تناسي الحب بتنوع أدواره؟ أترانا قادرين على نفي الحب هذا، مهما كان نوع تصريفه، وإعراب مقامه، بعيداً عن أخذ العلم به اسماً ومسمَّى ؟
أليس الذي يشعر أن قلبه مشغول بالآخر، أن كبده حرّى جرّاء الاهتمام بالآخر” لنتذكر عظمة دور الأم هنا ” إلا التأكيد الأهم على أن الذي يحب يخرج من ذاته حيث لا يعود مجرد ” أنا فرد ” إنما الانتساب إلى جمع معين، ولو في شخص واحد: حبيباً أو محبوباً، شخصاً أو مجتمعاً، أو عالماً، أو وطناً؟
في الحديث عن الأم، وفي العودة إلى خاصية الأمومة، أشدّد على أن أياً منا، وفي مجال الكتابة الإبداعية والفن إبداعاً والعطاء في العلوم المختلفة، تأخذ الأمومة داخل كل منا أوسع مدى لها وأعمق أثر. لأن احتضاناً للعالم، احتضاناً لمعاناة ذات خاصية مخاضية لا تتوقف، تتفعل هنا، لأن الأمومة عطاء دون كشف حساب، وحساب أبعد من كونه مجرد عدد، إنه كيفية تتعدى كل تأطير لها، ولو أن أياً منا جسّد في روحه، وهو يعمل، وهو يمارس الكتابة الفعلية والفن الفعلي، شطراً مما هو أمومي لكان العالم مختلفاً عما هو عليه، لأن الأمومة تخرج على كل مساومة، بحساب الروح الفادية هنا.
هوذا الحب: أن تعطي ما ليس عندك، وهو عندك، ولا تعلم به، لأن الحب يفيض على كل مسمى.
في الحالة هذه، يمكن النظر بعيداً وقريباً، وبعيداً عن أي سجال، أو تسمية معينة، جهة الحب. وأنا أشير إلى الذين يمثّلون شعباً، أو وطناً، أو قضية إنسانية تتجاوز حدود القومية بمعناها الضيق، أو المجتمع المعلوم بحدود ثقافية محددة، أو شعب معين دون غيره، وإلى الذين يعبّرون في كتاباتهم المختلفة وفنونهم عما هو إنساني، وهو يصلون الليل بالنهار، وتكون حياتهم شاهدة على مثل هذا الانشغال اليومي والمديد، وكم كانت نهاية البعض منهم مأساوية، باعتبارهم شهداء الإنسانية عموماً، لا بد أن الحب الذي ينبع من حواسهم، مشاعرهم، هواجسهم، رؤاهم، خيالاتهم، خواطرهم، وصِلاتهم، حب من نوع مغاير لما هو جزئي، أو محدود، وبالطريقة هذه يكون الحديث عن المناضلين المضحين بأرواحهم في سبيل شعوبهم ، والكتاب والفنانين الذين لا يأبهون لأي تهديد، وهم يعرّون الظلم ومن يمثله، الطاغية ومن يكون وأين يكون، المستبد والمستغل والمراوِغ، أنّا وأينما كان بأساليب مختلفة، لأن حباً لما هو إنساني، أقصاه عن كونه الفرد، أو ” الأنا ” بوحدتها، ولم يعد يهمه موقعه كفرد في مجتمع، وإنما في هيئة مجتمع، عالم، أمم، كون بكامله، كما تعبّر عن ذلك آثاره أو أعماله في القول والفعل.
ذلك ما ينبغي النظر فيه، أو أخذ العلم به، والتأكيد عليه، دون ذلك لا حياة فعلية بعلاماتها الفارقة، تكون معلومة دقةً لهذا المجتمع أو ذاك، كأن ينبري أحدهم، ودون أي تفكير في نفسه، وهو يحاول النيل ممن سخر حياته في خدمة ما هو مجتمعي وإنساني، وبدافع الحب المحرَّر كثيراً مما هو نرجسي.
مجرد تعزيز
ليس الحب موضوعاً محتكراً مما هو إنساني. ليس الحب متوقفاً على الإنسان. ثمة خلل مريع هنا، حين يتحدث أي منا عن الحب، ولا يمثل أمام ناظريه إلا هذا الداب على ” اثنتين: رجليه ” ذلك يشكل إدانة فظيعة إلى مدى الجرم المرتكب هنا، ونزيف الحب وهدره بعيداً عما يكونه كونياً. الحب لا يتوقف على الإنسان، مجرد توقيف إنسانياً من منظور كونه ” عاقلاً، ناطقاً ” إساءة إلى حقيقته. لأن كل ما يعرَف به الكون معمول بالحب، حتى الجماد الذي ينظَر إليه بعيداً عما هو حسي، مشغول بدور معين. الجماد قيمة طبيعية محفوظة الحقوق، في أدواره. ومن خلال موقعه، ولأنه من خلاله نعيش ونتعلم، والحيوان له منظومته ” القيمية ” المتوارثة مذ كان، والمفارقة أن أحدنا لا يكف عن الإشارة إليه أحياناً، وهو مأخوذ بتلك العلاقات التي تقوم بين حيوان وآخر، ويقتدي به دون تسميته، وهذا تأكيد آخر على أن فهمنا للحب وما يكونه الحب هذا، وفي أي شيء، ناقص كثيراً، وهذا ينطبق على النبات عينه. إنه عطاء دون أي حساب بأكثر من معنى، والذين تأهلوا إلى مصاف القيم المثلى كونياً، من متصوفة وغيرهم ممن اكتشفوا في الطبيعة بتنوع كائناتها ما يرفع من شأنهم وينيرهم، كانت الطبيعة معلّمتهم المثالية، أمومة لهم.
دون أخذ هذا الجانب، ويا لوساعته وعمقه، يستحيل الحديث عن الحب، بمقدار ما يتأكد وهن الفكرة وضحالتها، لأن الحب حصيلة تفاعلات هندسية لا حسابية، ليس الكائن الحي في مجموعه، ولا ما هو مسمى خارجاً، إنما يتجاوز ذلك إلا ما ليس مكتشفاً بعد. الحب هو معايشة لمجهول يغذّي فينا ما يجعلنا أكثر ثراء روحياً، والروح تتعدى الإنساني فينا، وما المعلوم إلا المهماز لمناشدة الأبعد وأعمق فينا.
أن نحب هو ألا يكون أمامنا مثال محدد، يحتكر ما عداه، إنما قفزة إلى مجهول لئلا ننحبس في الذي نعرفه أو يكون معلوماً لدينا بحكم عُرْف أو تقليد، أو توجه معتقدي معين. الحب فاعل تطهير روحي هنا بالتأكيد، والإصغاء إلى الروح تقديراً، ضمان لهذا الحب الذي يصلنا باللامتناهي، فنتعزز كونياً…
مجرد شهادة
في المجتمعات الحية، يمكن أن يشار إلى الحب كثيراً، أن يُسمّى الحب في مواقعه ومراتبه، يمكن أن يجري الحديث عمن يفيضون حباً، ويعيشون حباً، ويموتون حباً، ويخلَّدون حباً بجدارة. هوذا الممكن النظر فيه والتوقف عنده، أي حيث لا تعود صورة الذات الضيقة قائمة لحساب الواسعة طبعاً .
وما المجتمع في مفهومه الحياتي إلا حصاد حبه فيما بين أفراده، ونوعية علاقاتهم مع بعضهم بعضاً. ما الحب إلا هذا الرصيد الائتماني الذي يمثّل جاز كشف لما هو في داخل المجتمع من قوى، هي جملة القيم المسماة، وكيف توجّه أفراد المجتمع هذا، وكيف يتباينون ويختلفون عن بعضهم بعضاً، ويقيمون ليعضهم بعضاً وزناً، وللحب إمضاءته، وله شهادته في الفصل والوصل بين هؤلاء.
في عصر التكنولوجيا متناهية الصغر” التنكترونيات ” ربما يُستخف الحديث عن الحب، سوى أن نظرة عابرة إلى ذلك تظهِر أن الحب موجود، مع اختلاف المعيار أو الدور، سوى أنه فاعل في كل شيء، ولكل بحسب عمله وجدّيته، وما لذلك من مأثرة قائمة ويكون لها تاريخ يمتد إلى الآتي.
هوذا تاريخ الحب، حين يحفظ أسماء الذين سبقونا بآلاف السنين سوى أن الحب الذي تمثّل فيما عرِفوا به، تجاوز بهم حدود مجتمعاتهم ولغاتهم وقومياتهم وعلاقاتهم الجانبية، وقرئوا بلغات أخرى.
في الحب وفي الحديث عن الحب، ثمة حاجة ماسة دائماً إليه، ودونه لا إمكان للحديث عن أي شيء. إنما ما هو مؤكَّد عليه هنا، أبعد من حدود اليومي في المأكل والمشرب والملبس، إذ يسمّي نلك القوى التي تغيّر في بنية المجتمع، وأن تمثيلها راهناً يستشرف الغد، كما يضيء ما كان.
وما مقالتي عن الحب، إلا مجرد مشاركة في قيمة ربما لا تعلوها قيمة أخرى، ومن خلال معناها ومبناها، هي التي ترتقي بأي منا، وتحفظ له صورة فعلية تمد بها إلى المستقبل.
أن نحب هو أن نكون على بيّنة وهي أننا دونه سنعيش دونياً، وبمقدار ما نحب نعرف أنفسنا خارجاً.
مجرد عنوان
دمتم بحب !