سيرة تحكي قصة طفرة مجتمع

ابراهيم البليهي

رغم أن مجتمعات الشرق: سنغافورا وهونج كونج والصين وتايبيه وكوريا الجنوبية وفيتنام والنمور كلها قد تمكنت الآن من الافلات من قبضة التاريخ ودخلت في منافسة ناجحة مع الغرب إلا أن هذا الافلات جاء متأخِّرًا نسبيا …..

وتبقى الفلبين البلد الوحيد الذي يتميز أفراده بالكفايات المهنية بالانضباط والاتقان والطاعة لكن هذا المجتمع لم يوفَّق بقيادة سياسية تحشد طاقة المجتمع في اتجاه يحقق الازدهار لذلك بقيت الفلبين نشازًا بين مجتمعات الشرق الأقصى التي تتنافس على المزيد من الازدهار …..

وهنا لابد من التوقف أمام تجربة اليابان الاستثانية التي تميزت بانفتاحها السريع فاليان هو أول مجتمع شرقي يتمكن من الافلات من التحجر الذي تفرضه الأنساق الثقافية المتوارثة على كل المجتمعات فالكل محكومٌ بما تتطبَّع به الأجيال حيث ينساب التطبع الثقافي بشكل تلقائي حتمي من كل جيل سابق إلى كل جيل لاحق …..

لذلك فوجئ كل العالم بالانعتاق السريع والنمو الباهر الذي حققته اليابان …..

وقد يظن الكثيرون أن انعتاق اليابان من ثقافة الرفض للطارئ والتمسك الكلي بالموروث كان سهلا لكننا حين نقرأ قصة هذا الافلات نجد أنه لم يتحقق بسهولة وإنما دارت معارك ضارية بين أنصار الانفتاح وأنصار الانغلاق ……

ومع كثرة المراجع التي تحكي قصة إفلات اليابان من قبضة التحجر الثقافي إلا أن سيرة رائد التنوير اليابني فوكوزاوا يوكيتشي هي الأروع والأبلغ والأدق والأكثر تفصيلا في تجسيد قصة ذلك الافلات العسير ……

كان المجتمع الياباني يخضع لنظامٍ قَبَلي شديد التعقيد وكان الحكم العسكري هو النظام السائد وكان النسق الثقافي مهيمنًا إلى أقصى وأعقد درجات الهيمنة وكان الانفتاح على حضارة الغرب يوصم بالخيانة وبالكُفْر وبالمطاردة وكان دعاة التنوير يتعرضون للخطر الدائم وفجأة برز الامبراطور ميجي وقرر أن لا يبقى مجرد رمز وإنما يجب أن يحكم حُكْمًا فعليا فثار الحاكم العسكري وحاول منع الامبراطور من الممارسة الفعلية للحكم ولكن الامبراطور نجح في هزيمة النظام العسكري غير أن ذلك لم يكن كافيا لأن معظم الذين قاتلوا مع الامبراطور كانوا أيضا متعصبين للثقافة الموروثة ويعارضون بشكل قاطع الانفتاح على حضارة الغرب لكن الامبراطور ومعه المستنيرون صمموا على أن يبقوا أوفياء للنسق الثقافي الموروث لكنهم في نفس الوقت صمموا على أن يتعرفوا على كل مصادر قوة الغرب وأن يستخدموها بمنتهى الفاعلية ……

وهكذا تحقق الافلات السريع لليابان من قبضة التحجر فتمكنت من تحقيق الازدهار السريع دون أن تتخلى عن شخصيتها المتوارثة فمعطيات الحضارة المعاصرة ليست بديلا عن أي نسق وإنما هي نسق معرفي محض واستخدامٌ ذكي وفاعل لهذه المعرفة للتمكين والازدهار …………..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

كان مخيم ( برده ره ش ) يرقد بين جبلين صامتين كحارسين منسيّين: أحدهما من الشمال الشرقي، يختزن صدى الرياح الباردة، والآخر من الغرب، رمليّ جاف، كأنّه جدار يفصلنا عن الموصل، عن وطنٍ تركناه يتكسّر خلفنا… قطعةً تلو أخرى.

يقع المخيم على بُعد سبعين كيلومتراً من دهوك، وثلاثين من الموصل، غير أن المسافة الفعلية بيننا…

إدريس سالم

 

ليستِ اللغة مجرّد أداة للتواصل، اللغة عنصر أنطولوجي، ينهض بوظيفة تأسيسية في بناء الهُوية. فالهُوية، باعتبارها نسيجاً متعدّد الخيوط، لا تكتمل إلا بخيط اللغة، الذي يمنحها وحدتها الداخلية، إذ تمكّن الذات من الظهور في العالم، وتمنح الجماعة أفقاً للتاريخ والذاكرة. بهذا المعنى، تكون اللغة شرط لإمكان وجود الهُوية، فهي المسكن الذي تسكن فيه الذات…

مازن عرفة

منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، يتسارع الزمن في حياتنا بطريقة مذهلة لا نستطيع التقاطها، ومثله تغير أنماط الحياة الاجتماعية والإنسانية، والاكتشافات المتلاحقة في العلوم والتقنيات، فيما تغدو حيواتنا أكثر فأكثر لحظات عابرة في مسيرة «الوجود»، لا ندرك فيها لا البدايات ولا النهايات، بل والوجود نفسه يبدو كل يوم أكثر إلغازاً وإبهاماً، على الرغم من…

أصدرت منشورات رامينا في لندن كتاب “كنتُ صغيرة… عندما كبرت” للكاتبة السورية الأوكرانية كاترين يحيى، وهو عمل سيريّ يتجاوز حدود الاعتراف الشخصي ليغدو شهادة إنسانية على تقاطعات الطفولة والمنفى والهوية والحروب.

تكتب المؤلفة بصدقٍ شفيف عن حياتها وهي تتنقّل بين سوريا وأوكرانيا ومصر والإمارات، مستحضرةً محطات وتجارب شكلت ملامحها النفسية والوجودية، وموثقةً لرحلة جيل عاش القلق…