دراسة في رواية “محطة المنصورة” للكاتب محمد محمد السنباطي «قلق الحياة وجموح الاغتراب»

جوان سلو
 
“فلتكن المنصورة محطتي الأخيرة”
بهذه الكلمات الاستهلالية العميقة بدأ الكاتب سطور روايته، وكأنه يريد أن يخبرنا بأن بطل روايته هو كالقطار الذي يسير على سكة الحياة، لتنتهي رحلته في محطة المنصورة، منهكاً من أرق الحياة، غارقاً في مستنقع معاناته، مثقلاً بهموم أبنائه الذين رحلوا بعيداً عنه، ولكن هذه المرة سيسير على السكة برشاقة الأمل والتفاؤل بحياة جديدة تنتظره على شرفة إحدى الأبنية المقابلة للمحطة. وهي شقة جديدة تطل على المحطة وترصد حركة المسافرين، وكأنها ترصد حركة الحياة التي ستنسحب منها في يوم قريب. حيث جاء عنوان الرواية (محطة المنصورة) كرمز مكاني يستطيع أي قارئ أن يعرفه على الخريطة إذا ما أراد أن يستدل على مكان حدوث الرواية وأين انتهت.
إذ يقول الكاتب العراقي جودت هوشيار: “الرواية الجيدة، والممتعة حقاً، تبدأ بجملة أو فقرة مشوقة، قد تكون مثيرة، أو مدهشة، أو مرحة، أو حزينة، ولكنها قادرة على أن تجذب انتباه القارئ وتحفيزه على مواصلة القراءة”.
صدرت عن دار ميزوبوتاميا للنشر والترجمة رواية بعنوان (محطة المنصورة) للكاتب المصري محمد محمد السنباطي وجاءت في مئة وثمان وستين صفحة من القطع المتوسط، بغلاف رمادي اللون يعكس الحياة الرمادية التي كان يعيشها بطل الرواية والتي انتهت به يستقر في مدينة المنصورة المصرية ليقضي خريف عمره الأخير على شرفة الشقة المطلة على المحطة.
“قلق الحياة”
الرواية تلامس الحياة الاجتماعية والاقتصادية في مصر على مدار سنوات عدة متتالية، وتتناول العلاقة المتشابكة للعائلة الواحدة التي تتقسم إلى أسر متعددة بعد أن يذهب الأبناء كل إلى عالمه وأسرته الجديدة، تاركين الأب الكبير الأستاذ وجدي كي يعيد ترتيب حياته الجديدة ويتعايش مع الذكريات والتحولات الإنسانية بمفرده، وخاصة بعد رحيل زوجته وأم أولاد. فكل الظروف التي ألمّت به جعلته يشعر بقلق إزاء الحياة التي كان يعيشها وكيف سيستمر بها. إضافة إلى التحديات اليومية في العمل، ومشاكل العلاقات الشخصية، والمسؤوليات اليومية التي تسببت له شعوراً بالتوتر والقلق. وكان يشعر بالقلق حيال ما يحمله المستقبل له من غموض وتحديات، سواء كان ذلك في مجال العمل أو العلاقات الشخصية، فكان شعوره بالقلق قد أثر على الصحة النفسية والعاطفية لبطل روايته، وإلى مشاكل في التركيز، النوم، والأداء العام والصحة. لذلك آثر السفر بعيداً عن أولاده باحثاً عن الأمان في منزل زوجته الجديدة التي احتوته بكل أفكاره هواجسه.
 
“جموح الاغتراب”
يشير الكاتب في روايته إلى تجربة الاغتراب أو الانفصال التي عاشها البطل والتي كانت ملحوظة بشكل قوي وعميق في حياته. وهذا ما حدا بالبطل للانفصال عن أسرته وأولاده نتيجة انتقاله من مكان إلى آخر، سواء أكان ذلك انتقالاً جغرافياً أو اجتماعياً، وهو نتيجة لتغيير كبير في الحياة الشخصية أو المهنية.
تجربة الاغتراب رافقتها مشاعر متنوعة من الفقدان، الوحدة، وعدم الانتماء. وقد أحسها الأستاذ وجدي في اغترابه، لذلك احتاج إلى الشعور بالحرية عندما وجد في أوجاع الاغتراب فرصة للنمو الشخصي واكتساب فهم أعمق للذات وللعالم. فحينما يقرر الأب الزواج من جديد بعد وفاة زوجته، كي تؤنسه في وحدته، يخاصمه أولاده، ويجبروه على الطلاق منها، دون مراعاة احتياجاته إلى إنسانة تؤنسه وتعيش بجانبه وتلبي احتياجاته وطلباته اليومية.
يخاطب الراوي –الأستاذ وجدي- قارئاً افتراضياً يسرد حكاياته ويشكو له ظلم أبنائه، ويعترف ببعض نزواته الإنسانية البسيطة، وكأنه يعيد لنا سرد التاريخ القريب لتلك الشخصية، غير مبتعد عن التحليل النفسي أو التغلغل في أغوار النفس البشرية، من قلق الحياة وجموح الاغتراب والرصد الذكي لبعض الظواهر الاجتماعية.
إن محطة المنصورة هي المحطة الأخيرة للراوي –الأستاذ وجدي- التي سيعيش فيها خريف عمره، حيث الزوجة الثالثة، فقد كانت زوجته وأم أولاد (أم رأفت) هي الأولى، ثم الزوجة الثانية (مهجة) ثم زوجة المنصورة (سعاد) والتي سيرتاح إليها، ويسعد بها، لينطلق في سرد روايته ويومياته، والبحث في صندوق ذاكرته كي يستخرج لنا كل هذه المكنونات والقصص والحكايات والأوراق التي تشكل عالم الرواية.
بلغت تقسمات فصول الرواية إلى خمسة وثلاثين فصلاً بلا عناوين واضحة، جاء معظمها متوازناً من حيث عدد الصفحات، غير أنه ومع اقتراب النهاية بدأت بعض الفصول تطول، الأمر الذي يدل على رغبة الراوي في إنهاء روايته مرة واحدة، خاصة بعد أن شعرنا بارتعاد يده اليمنى المتزايد، وهي اليد التي يخط بها أحداث روايته، والتي كان يصنع بها تماثيل صغيرة في غاية الروعة والإتقان.
نبذة عن الكاتب
محمد محمد السنباطي
من مواليد شبراخيت محافظة البحيرة. مصر 1948
من أعماله:
شمس الطفولة طفولة الشمس. شعر للأطفال. الهيئة العامة لقصور الثقافة.
عشيقة عرابي. رواية. مؤسسة سندباد
خط النار ممتد. رواية. مركز الحضارة العربية
محطة المنصورة. رواية. مركز الحضارة العربية
بالموج أكتب. شعر. مركز الحضارة العربية
شظايا الجريمة. رواية. مؤسسة عماد قطري
أنهار الدم. رواية. مركز الحضارة العربية
ترجمة رواية الأب جوريو لبزاك. هيئة قصور الثقافة
ترجمة في البحث عن الزمن المفقود. دار الهلال
الإلياذة الإسلامية. دار غرب القاهرة
شرفة تطل على بيت قديم. رواية. دار غرب القاهرة
صباح بارد مغطى بالدموع. قصص. مركز الحضارة العربية
ألوان غير مألوفة. قصص. مركز الحضارة العربية
جبل وغابة. رواية. مركز الحضارة العربية
الرجل الذي انتعل الريح. رواية. مركز الحضارة العربية.

 

كاتب المقال في سطور
جوان سلو
تولد القامشلي. سوريا 1982
عمل مدرساً للغة العربية في مدارس مدينة القامشلي وريفها.
يكتب في المواقع والمجلات الإلكترونية المحلية والعربية.
من أعماله:
تكوشين. رواية. دار اسكرايب للنشر. مصر
صباح بلون الذكريات. دار المثقفون العرب. مصر
سيرة طريق. رواية. ببلومانيا للنشر. مصر
سحابة عطر. قصص قصيرة جدا. دار شلير. سوريا
الفراشات المحترقة. قصص قصيرة. دار ميزوبوتاميا للنشر. سوريا
حفنة من تراب شنكال. قصص قصيرة. دار نفرتيتي. مصر
استغاثات فجر قتيل. قصص قصيرة. دار نفرتيتي. مصر
تذكرة عودة إلى كوباني. رواية. دار شلير. سوريا
عنوان البريد الالكتروني: jwanslow287@gmail.com
رقم الهاتف والواتس  00963987037994

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…