د. سرمد فوزي التايه
عندما تُبصر عنوان “فقراء الحُبّ” للكاتبة المقدسية رائدة سرندح، والصادرة عن دار فهرنهايت للنشر والتوزيع عام 2023، تُدرك أنَّ هناك أُناساً فقراء يفتقرون إلى الحد الأدنى من مُتطلبات الحُبّ كوسيلة من وسائل العيش الرغيد على وجه البسيطة، فتراهم يقتاتون ذلك الفتات على أملٍ منشود بأن يغنوا يوماً ما من ذلك المعين حتى يفيضوا بفضلهم على من لا فضل لهم ممن سواهم.
عنوان الرواية بحد ذاته ودون الغوص بفصولها وتفصيلاتها مُشوِّق الى درجة عالية. وعند الإبحار بين جنباتها تُدرك فعلاً أن بطلة الرواية “إيمان” كانت تُعاني فقر الحُبّ الحقيقي مع زوجها ووالد أبنائها، وعندما تعرَّفت على ” فريد”، أصبحت تتسول منه الحُبّ تسولاً وتوسلاً وابتذالاً حتى إذا ما وصلت للحد الذي شعرت به أنها بدأت تتعافى من لعنة فقر فكر الحُبّ والإهمال وعدم الاهتمام، لتجد نفسها أنها كانت تتجرع سراب الحُبّ لا الحُبّ ذاته؛ كون المُعطي والواهب هنا كان بالأصل يفتقر للحُبّ الحقيقي الصافي الزلال، وإنه كان بعلاقته هنا يبحث فقط عن منفسٍ ومُتنفّس يُعوِّض به ما يفتقد عليه يُرضي حاجاته وغرائزه ومُتطلباته، ما أدى إلى نشوء علاقةٍ غير ناضجةٍ وغير مُكتملة الأسس الصحيحة عمل على قض مضاجع البطلة الموجوعة أصلاً حتى صار يأتيها تداعيات تلك العلاقة المحفوفة بالمخاطر على شكل كوابيس ورؤى مُظلمةٍ مُوحشة.
إنَّ الذي استوقفني عند حدود هذه الرواية أنها قد تكون قصة حقيقية واقعية لا خيال فيها ولا جموح ولا “شطوح” فكري؛ إذ إنَّ الحياة كثيراً ما تزخر بالقصص الواقعية المُشابهة لمثل هذه القصة، وإلى حدٍ كبير؛ منها ما يستتر فيندثر ثم يموت بموت أصحابه، ومنها ما يطفو على السطح فينتثر وينتشر انتشار النار في الهشيم في أجواءٍ اجتماعيةٍ يتلذذ الكثير من الناس بها علكاً ولوكاً وأخذاً وردّاً.
لقد أرادت الكاتبة “سرندح” هنا أن تُوثِّق الأحداث ضمن مجريات هذه القصة ليس على شكل سطورٍ صماء فقط، وإنما على شكل مشاعر حقيقية كانت تنبض من بين جنبات تلك الأوراق التي التبست بها؛ فراحت تُسلِّط الضوء وتُبرز وتُظهر مظاهر ومشاعر الحُبّ، والعشق، والإهمال، والأنانية، والخداع، وحُبّ الذات، والكثير من المُتناقضات التي يراها الإنسان يوميا ويعاشر إحداها أو جميعها من على ضفاف أيامه.
وعند الغوص بين ثنايا الرواية، نرى أنه ما ظهر في المقدمة صفحة (7) كان في قمّة الروعة من حيث قدرة الكاتبة على العزف بالكلمات خصوصاً ما كان منها في مُقدمة المُقدمة بالقول: الروح تُدمى من شدّة القهر، والنبض في مُقلتيه ينحصر، والعين ثكلى، والدمع ينهمر…
أما ما ورد في بطن المقدمة، فقد زاد من الروعة روعة عند القول: لكنه عقيم قُدّت أوصاله وأُجهشت مدامعه، أعرف أنك مثلي تنتظر، فأنا مثلك لكني لا أنتظر… وإنما أحتضر…
على الرغم من أنّ الحوار كان يغلب على أسلوب السرد الروائي للرواية- رغم تحفظي عليه؛ لأني أميل شخصياً للاعتدال في الحوار وأخذ الحظ منه دون زيادة أو انتقاص- إلا أنّ الخواطر التي كانت على هامش الرواية بدت أكثر من جميلة ومٌبهرة. فمثلاً ما شهدناه في صفحة (20) من القول: ربما فرحة، لا بأس أيتها الروح… تماشي مع مهزلة الحياة، فهناك مُشرّدون بيوتهم من طين وقلوبهم ملؤها الأنين… إلى آخر النص. وأيضاً صفحة (40): التظاهر باللا شيء هو هروب من كل شيء، ففي كل واحد منهما غُصَّة لا يعلم بها الآخر، روحهما مُتنافرة دائماً، لا شعور مُشترك بينهما، لكل منهما عالمه الخاص، ذلك هو الظلام الدامس… إلى آخر النص. وفي صفحة (56) وعلى لسان بطل القصة “فريد”: رأيتُ في عينيكِ بحراً هادئاً أبحرتُ فيه، فما نجوتُ من الغرق، ولا أدرى أألوم البحر، أم أمواجه، أم ألوم قلبي الذي تعب من الأرق… ما زال الشوق في عينيكِ يهُزُّني كشوق الشجر في الخريفإالى الورق. أما في صفحة (178)، فقد جاء في نهاية الفقرة: كان يقصد الابتعاد عنها حتى يحترق قلبه شوقاً إليها، ففي ذلك المنتصف لا يستطيع الابتعاد ولا الاقتراب. كذلك ما كان من كلام “إيمان” البطلة حين قالت في صفحة (181): لو فاض حُبي لك على أهل الأرض لعاشوا جميعهم عاشقين. وأيضاً في نهاية ذات الصفحة ورد: الحُبُّ نبضٌ لا يهدأ، وروحٌ تبقى تُحاور الاشتياق على أعتاب الانتظار، حتى تحترق. وهناك فقرة في صفحة (182) تقول: إذا طال اللقاء يوماً؛ يأتيك على غفلةٍ دون قيود أو ربما يأتيك مُتأنياً على مضض الأيام… يكوي الجوانح، ويمنع الكرى… لا يُستهان به حين يغزو سقم الأجساد ليجعلها رماداً من شدة المكوث في ذلك الطريق المسدود.
إنَّ الاقتباسات التي تم إدراجها في بداية النوافذ ضمن مُكونات الرواية إنما تم إدراجها من الروائية “سرندح” لإعطاء القارئ إيحاءات لما سيكون مُدَّخراً في بطون تلك النوافذ، وكأن الكاتبة كانت تُجيد التصوير بجهاز الموجات فوق الصوتية “ultra sound” لتُخبر القارئ عن كُنه الجنين الذي سيُولد من رحم تلك النافذة حين يتم الولوج إليها؛ فنراها تقتبس مرة من طه حسن، وأخرى من باولو كويلو، وأخرى من أحمد خالد توفيق، ومرة من غازي القصيبي، ومن أرسطو، ومحمد المنسي قنديل الذي قال في صفحة (174): “أحياناً عندما يكون الحُبّ بالغ القسوة؛ يقتل جزءاً من الروح فلا تشفى ولا تسلو، ولا تُعاود العشق”، وقد تطابق هذا الكلام وظهر جلياً مُتوافقاً مع ما جاءت به الكاتبة في صفحة (180) على لسان البطلة “إيمان” بالقول: لا أعلم هل أنجو من ذلك الاشتياق أم أحترق فيه يوماً ما.
من زاوية أخرى، فقد كانت النهاية أكثر مأساوية من البداية الكئيبة القاتمة الحزينة، وهذا ما كان متوقعاً في ذهن القارئ المُتبحر بناء على نبوءة وتوقع البطلة في صفحة (180)؛ فقد طال ذلك العاشق الأناني ومعشوقته المُفتقرة للحُبّ الكي والألم والاحتراق بلهيب النيران المُستعرة، والحديد المتآكل، وذلك بعد أن ولجوا طريق الحُبّ بطريقة غير شرعية ولا مضبوط فيها الرؤيا والآمال؛ فكانت طريقاً مُشوشةً، ضبابية وغير واضحة المعالم والمآلات كما الواقع الذي ظهر في صفحة (204) بالضبط والذي أدى في النهاية وآل بهما إلى ذلك المصير الحتمي المحتوم! ولكن ورغم اختلاف نوايا العاشقيْن وتطلعاتهما للحُب من زوايا مُتباينة مُتناقضة، إلا أنهما للأسف نالا ذات الجزاء وذات المصير.