حسن عبادي| حيفا
رافقت زوجتي سميرة إلى طبريّا للمشاركة بمؤتمر أدارته وترأسته تناول مواضيع تختصّ بالمسالك البوليّة، مؤتمر استمرّ ثلاثة أيّام وتمّ بنجاح باهر، ورافقني في مشواري كتاب “سِرُّ الجملةِ الاسميّة” للكاتب فراس حج محمد (في تأمّل تجربة الكتابة، تقنيّة الكتابةِ بالجملة الاسميّة، 222 صفحة، الصادر عن الرقميّة للنشر والتوزيع الإلكتروني، القدس، فلسطين. صدر له 35 كتاباً ومن آخرها: “في الوجه والمواجهة”، و”متلازمة ديسمبر”، و”في رحاب اللُّغة العربيّة”، وديوان “في أعالي المعركة”، و”تصدّع الجُدران”، و”مساحة شخصيّة”، و”الثرثرات المحبّبة”، و”فتنة الحاسة السادسة– تأمّلات حَولَ الصُّوَر”، وحرّر 17 كتاباً).
قرأت الكتاب مُطلّاً على البحيرة، وكان بجانبي رجل أعمال أمريكي (أريك/ من نيو يورك) يعزف على قيثارته موسيقى هادئة، وبعد حوالي ساعة سألني عمّا أقرأ، أخبرته فكرة الكتاب، وأخبرني بدوره أنّ والده يعزف القانون، ويراقب شعراء يلقون الشعر وهو يرافقهم على العزف. فكرة جميلة وأضافت للقراءة بعداً آخر.
يُعتبر الكتاب دراسة نقديّة أدبيّة تُركّز على “شعريّة الجملة الاسميّة” في اللُّغة العربيّة، مُحاولةً الكشف عن جماليّاتها وأهمّيّتها في النصوص الأدبيّة، سواء في الشعر أم في النثر.
يتألف الكتاب من قسمين، جمع فيهما فراس الدراسة النظريّة النقديّة مع التطبيق الإبداعي:
جاء القسم الأوّل تحت عنوان “الكتاب الصدى، مركزيّةُ حضور الاسم في الكتابة الشعريّة”، ويتناول فيه تأمّلات في اللُّغة والشعر، مركّزاً على الجملة الاسميّة، وبيان أهمّيّتها في اللُّغة العربيّة. بيّن لنا أنّ الاسم بداية اللُّغة الإنسانيّة وكينونة ووجود، وذو تأثير في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، وأخذني إلى علاقتنا اليوميّة في الداخل الفلسطيني مع الآخر، فكثيراً ما يتوجّهون لنا بأسماء نمطيّة، محمد و/ أو محمود و/ أو أحمد بمحاولة لتحريف الأسماء وتشويشها وحين لفتِ أنظارهم لذلك الأمر، فيكون الجواب التلقائي الاستعلائي: “شو بتفرق؟ كلّه نفس الشي”. هناك ضرورة وأهمّيّة للاسم الثلاثي والرباعي والخماسي والسداسي، كلٌّ باسمه ورسمه: هذا اسمي وفصلي وأعتزّ به، ويميّزني، لي جذور وجذور، لي شجرة عائلة ممتدّة وليس بلقيط.
عرّج فراس على أرقام الأسرى ومقابر الأرقام (مقابر سريّة أنشأها الكيان من أجل دفن جثث الضحايا ومنهم الأسرى، ويحتجز فيها المئات من الجثث والجثامين، مدافن دون شواهد وتثبّت فوق كلّ قبر لوحة معدنيّة تحمل رقماً بدلاً عن الاسم، ولكلّ رقم ملفّ سريّ يليق بصاحبه)، فلكلّ أسير اسم وحكاية يحاول السجّان تهميشها ومحو الاسم، محاولاً أن يجعل من كلّ أسير وشهيد مجرّد رقم، لا غير.
وكذلك الأمر محاولة المحتلّ الغاصب تحريف وتهجين أسماء الأمكنة والقرى المهجّرة، فيمارسون عليها قوّتهم وسيطرتهم، ومحاولة إعادة خلق تلك الأمكنة من جديد، وادّعاء أحقيّتهم التاريخية بها، فتغيير الأسماء يتسبّب بغربة الأشياء عن أهلها، فالصراع على الأسماء ليس صراعاً لغوياً فقط، بل هو صراع حياة ووجود وسيطرة وقوّة، تماماً مثل ظاهرة تحريف أسماء المأكولات الفلسطينيّة، تجييرها ومحاولة السطو عليها و”صهينتها”.
وكذلك قدرة الجملة الاسميّة على الاستغناء عن الفعل تماماً في بناء نصوص كاملة المعنى والفكرة، بينما لا تستطيع الجملة الفعليّة الاستغناء عن الاسم، وهذا يعني أنّ الاسم هو الركن الأساسي الأوّل والأخير في عمليّة التواصل البشري.
وجاء القسم الثاني تحت عنوان “الكتاب الأصل، ديوان: “هي جملة اسميّة، كتابٌ لا فعلَ فيه” وهو ديوان شعر خالٍ من الأفعال، وقد ضم (101) مقطعاً شعريّاً، إضافة لـ “بادئة” و”خاتمة”، ومنها شعر التفعيلة، وقصيدة النثر، وكأنّي به يطبّق شعريّاً ما نظّر له في القسم الأوّل.
ظلم فراس الديوان حين أرفقه بكتابه البحثيّ، وكأنّه هامش، ومن وجهة نظري المتواضعة هو جدير بالصدارة والوجاهة؛ يعود فيه إلى كحوليّاته ومجونه الشبقيّ:
“هي امرأةٌ صباحيّة
قهوةٌ طازجة المذاق
ناعمة كضوءٍ، ناتئة، كُحوليّة
هي امرأة مسائيّة
مائيّة حجريّةٌ وورديّة
ذات حدٍّ باردٍ وخليّة شبقيّة
واقعيّةٌ مثل صبح
مثل سطرٍ… خياليّة”.
لفراس مع النهود حكاية شرحها يطول؛ حيث نشر قبل سنوات عديدة مقالة بعنوان “أجمل ما في المرأة ثدياها!” التي أرفقها بلوحة سيمون وبيرو (نِعمة رومانيّة Caritas Romana) (لوحة رُسمت في القرن السادس عشر، شاهدناها في متحف ريكز (Rijksmuseum) في أمستردام الهولنديّة؛ تحكي قصّة الفتاة بيرو تُرضع أبيها سيمون، لتنقذه من الموت، حيث حوكم بالإعدام جوعاً، وكانت تنتهز فرصة الزيارة لإرضاعه من أجل إنقاذه من الموت المحتّم… ونجحت)، سبّبت له المضايقات.
تناولت في حينه ديوانه الشعريّ “على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت”، ولفتت انتباهي خمريّته، حضور النبيذ والخمرة في الديوان، وتساءلت بيني وبيني عن العلاقة بين الدين والخمر وأشعاره، فوجدتها “خمراً عذريّاً”، خمريّات رمزيّة، مجازيّة، وكأنّي بها مناجاة الذات الفراسيّة والذات الإلهيّة، والتعبُّد، كأنّي به “الحبّ الإلهي”، إن جاز التعبير، وجدت الخمر عنده رمزاً لرغبته في الانتشاء والشعور بالسعادة، وتدلّ على رغبته في التمرّد والمشاكسة الفراسيّة، وقالها بعدئذٍ بصريح العبارة إنّه لم يذق طعم الكحول.
وحين تناولت في حينه كتابه “الثرثرات المحبّبة: رسائل” لفت انتباهي فحشه الجنسي الشبقيّ، وكتبت “أكاد أجزم بأنّ العلاقات الجنسيّة الإباحيّة مع مُراسِلاته عبر الرسائل ما هي إلّا “جنس عذريّ” إن صحّ التعيير، وكأنّي بأولئك النساء، يتقلّبن في فراشهنّ ينتظرن تلك القبلة و/ أو ذاك الجماع المتخيّل، مع زير النساء، فراس، عبر الكيبورد، وأراد الكاتب تمرير فلسفته عبر نهودهنّ وأجسادهنّ وعبر تلك القبلة المشتهاة يقصّر المسافات ويسهّل إيصال الفكرة.”
وظلّت النهود تلاحقه وها هي تحتفي به وتموقعه مع النهود الدرويشيّة والقبّانيّة؛
قال محمود درويش في قصيدة “درس من كاما سوطرا”:
“انتظرها
وقدّم لها الماء، قبل النبيذ، ولا
تتطلّع إلى توأمي حجل نائمين على صدرها”.
وقال نزار قباني في قصيدة “الرسم بالكلمات”:
“لم يبقَ نهدٌ… أسودٌ أو أبيضٌ
إلّا زرعتُ بأرضه راياتي…
فصّلتُ من جلد النساء عباءةً
وبنيتُ أهراماً من الحلماتِ”
نعم؛ نجحت نهود فراس بأن تتربّع على عرش الشعر العربي لتأخذ مكانتها التي تستحقّها (جاء ذكرها 42 مرّة في “الديوان”) ويقدّسها حين يقول:
“كلّ ما في الأرض نهدٌ نهدٌ نهدْ
وأنا وأنتم ربائب نهدْ
وأنت وحدك ربّة النّهد المقدّس
على هذه الأرض”.
ويقول:
“لكلّ امرأةٍ مذاقٌ خاصّ
لأنّ لكلّ امرأةٍ قلباً خصوصيّاً
وثغراً أنانيّاً
وتفّاحتين غريبتين عن شجر النساء”.
وكأنّي به يقول؛ لكلّ امرأة نهداها، ونهداها علامة فارقة وشارة، وكلّ امرأة لها نهداها تُعرف بهما، لا يماثلهما نهدٌ آخر.
ويقول:
“نهداها الكبيران زوّادة لليعاسيب
…..
نهداها حاجزٌ أقوى من اعتلاء القائد الهضبة
وأصعب من خطّة الجنرال
وأقرب لاحتدام الشفتين في حُمرة الكَلِمَة
امرأة لها هذي الفخامة في النهدين
أمثولة للشعر في كلّ سطر حلمةْ”.
وتبقى “امرأة مثل آلهة على نهدين
مقتبسين من خلل الضياء
عطشى لدفء حليبها كلّ نهار
أوصالنا في وصلها دفق ضوء ودُوارْ”.
وأكاد أجزم أنّ علاقته بالنهود تماماً كما علاقته بالنبيذ والخمرة، والفحش الجنسي الشبقي، شمّ ولا تذوق!
كلمات لا بدّ منها؛
خلال قراءتي للقسم الأوّل للكتاب تساءلت بيني وبيني: “لماذا الكتاب”؟ وكأنّي بشخصٍ ما استفزّ فراس وقدراته المعرفيّة فقرّر الإجابة بكتاب بحثيّ معمّق ويقولها بصريح العبارة “وأنا أعدّ لهذا البحث” (ص 60)، فجاء الكتاب ليسلّط الضوء على جانب فنّي وشعري مُهمّ، محاولاً فتح آفاق جديدة في تحليل النصوص الأدبيّة وفهمها، فنجد شدّ عضلات محموداً، بعيداً كلّ البعد عن الابتذال، يشكّل مرجعيّة للدارسين والباحثين، وأصحاب الدراسات والمقالات المحكّمة، باعتماده على مئات المصادر، وذَكرها، آخذين بعين الاعتبار مصادره المتنوّعة، كما جاء في الهوامش؛ كتب ودواوين مطبوعة، وتويتر، والفيسبوك، والرسائل الجامعيّة، والمواقع الالكترونيّة، والمقابلات التلفزيونيّة، والتحقيقات الصحافيّة، والرؤيا المدرسيّة، واليوتيوب والويكيبيديا وغيرها، عدا الإشارة لكتبه العديدة واقتباسات منها، وعلى سبيل المثال، لا الحصر؛ “الحبّ أن…”، “من طقوس القهوة المرّة “،”رسائل إلى شهر زاد”، “لا شيء يعدل أن تكون حرّاً”، “على حافّة الشعر ثمّة عشق وثمّة موت”، “وشيء من سرد قليل”، “بلاغة الصنعة الشعريّة”.
لمحمود درويش حضور طاغٍ بين صفحات الكتاب، متلازمة درويشيّة تلاحق فراس والكثير من الباحثين. تناوله بقدسيّة تأليهيّة وتساءلت: هل بالغ كغيره في ذلك؟ هل حذا حذو صبحي حديدي وأمثاله؟ ولكنّه يقارعه الحجّة بالحجّة حين خصّص له فصلاً كاملاً تحت عنوان “محمود درويش والجملة الاسميّة” قائلاً: “تأخذني هذه المسألة إلى ملاحظة ما وقع في شعر درويش من توظيف للجملة الاسميّة عفواً دون انتباه درويش”. ويقول في مكان آخر باعتزاز بنفسه: “لا أشعر بالخوف من أن يقول ناقدٌ أو قارئ إنّني متأثّر بدرويش وأقلّده”، ويكمل قائلاً بكلّ تواضع: “أخطو أبعد ممّا خطا درويش في نصّه القصير إلى ديوان طويل ممتدّ، مفتوح على موضوعات متعدّدة”. (ص 74) (ستكون لي وقفة حول علاقة فراس بما كتبه درويش).
ويبقى الكاتب منحازاً للجملة الاسميّة ونصيراً لها.
لفت انتباهي ظاهرة فراسيّة مميّزة ومبارَكة؛ يذكر الأصدقاء في كتبه، فذكر أصدقائي، ومنهم على سبيل المثال، الكاتبة اللبنانيّة مادونا عسكر، وحسام زهدي شاهين، وراشد حسين، ورائد الحواري، وإبراهيم نصر الله، ومرزوق الحلبي، وأحمد رفيق عوض، ومحمود عيسى موسى، وعبد الغني سلامة، وغيرهم، وفي السنوات الأخيرة يفرحني أن ألتقي بأصدقائي بين دفّات الكتب، وأصوّر تلك اللقاءات وأبرقها لهم، وعقّب أحدهم “شعر جميل ورائع… هل هو لك؟ أم لمن؟ ضروري يا صديقي… وحقاً إنّها مفاجأة رائعة”.
عتبي عليك يا فراس؛ كيف غابت عنك خلال بحبشاتك المستديمة قصّة “البحث عن فاطمة”؟