رُفعت الجلسة

إبراهيم أمين مؤمن

 

 (1) حديثُ الميزانِ المقلوبِ

مِنْ نَعيمٍ يُزهِرُ الحياةَ إِلى عَذابٍ مُقيمٍ،

أَهكذا حَكَمْتِ؟

أمْ هيَ لُعبةُ الأقدارِ العَمياءِ؟

تُصارِعينَ في جَلسةٍ خاطِفَةٍ،

صَرخَةٌ تُمَزِّقُ نَسيجَ الأيّامِ،

وضَربَةٌ بِعَصاكِ الثَّقيلةِ،

تَهدِمُ حُلمًا قد وُلِدَ في رَحِمِ اللَّيلِ الطَّويلِ.

كَيْفَ تَقضينَ؟

أَم تَستقينَ دُستورَكِ مِن شَريعةِ إبليسَ؟

كَيْفَ تُحوّلينَ الكَمالَ نَقصًا،

وتَخلُقينَ القُبحَ مِنَ الجَمالِ؟

يا مَن أَحلَلتِ المَلَاكَ شيطانًا،

وسَكَبتِ كَمالَ الرّوحِ في كأسِ النُّقصانِ.

أَسلَمتِني إِلى أَحضانِ الهلاكِ،

حيثُ تُسكِنُ رُوحي بَينَ الشَّياطينِ.

أيُّ قَضاءٍ هذا؟

يُبَدِّلُ مَعاييرَ الحياةِ،

ويُقَلِّبُ كفّتَيِ الميزانِ.

تَبًّا لِذلِكَ الحُكمِ الجائرِ،

ولألفِ لَعنَةٍ تَصدَحُ في وَجهِ الظُّلمِ،

حتى يَنهارَ قَصرُ القَهرِ،

وتَعودَ الكفّةُ لِتَزِنَ الحَقيقةَ.

 

 

(2) حديثُ الفناءِ والعدمِ

ما كنتُ لِأحكُمَ بقلبِكِ،

لَكِنَّكِ أَنزَلْتِ صاعِقَةً أَشْعَلَتْ ظَلامَ رُوحي،

وَتَرَكْتِنِي عَالقًا في رَحِمِ ذِكراكِ،

حُبِّي لَكِ… لَيْسَ اختيارًا،

بَل هُوَ نَبضٌ يَنسَابُ في دَمي،

وَزَفْرَةُ رُوحٍ تُنادِي بِاسمِكِ في أَبَديَّةِ الصَّمتِ.

أنتِ…

جُزءٌ لا يَفنى مِنِّي،

الفَرَحُ يَتألَّقُ في وَهجِ قُربِكِ،

وَالأَلَمُ يَطولُ في مَسَافَاتِ الغِيابِ.

إِذا فَقَدتُكِ،

تَسقُطُ السَّماءُ على رُوحي،

وَإِذا امْتَلَكْتُكِ،

تَفيضُ الدُّنيا حَياةً في صَدري.

أنتِ النُّورُ الَّذِي يَغزِلُ فَجْرًا مِنْ ظَلامِ أَيَّامي،

وَأنتِ المَاءُ الَّذِي يَروي عَطشي الأبَديَّ،

حَتَّى حِينَ تَذوبُ الأحلامُ في نَهْرِ اللَّيلِ،

تَشْرُقِينَ في داخِلِي كَمَا لا يُشْرِقُ أَحَدٌ.

 

 

(3) حديثُ الدفاعِ

اِسمَعي دِفاعِي،

ما كُنتُ يَومًا صَخرًا أَصَمَّا،

بَل كانَ صَوْتِي يُسَبِّحُ بحُبِّكِ،

فَتَأَلَّقَ كِبْرِياؤُكِ كالقَمَرِ فَوْقَ أَمْواجِ البِحارِ.

تَأمَّلِي عَيْنَيَّ،

أَمَا رَأَيْتِ فِيهِمَا نُورًا شَقَّ طَرِيقَهُ عَبْرَ وِسَادَتِكِ المُعْتَمَةِ؟

وَحِينَ كانت يَدَايَ تَحْتَضِنُكِ،

أَلْقَيْتُ بكِ في حَضْنِ المَلائِكَةِ،

هَارِبًا بكِ مِن شِبَاكِ صَيَّادٍ لا يَرْحَمُ.

وَقَدَمَيَّ، لَطالَمَا حَمَلْتُكِ،

تَسَابَقَتْ بِكِ الرِّيَاحُ إِلَى جَنَّاتٍ لَمْ تَرَيْهَا عَيْنَاكِ قَطُّ،

جَنَّاتٍ تُزهِرُ بِأَلْوَانِ الأَمَلِ.

وَالآنَ،

هَلْ يَجُوزُ لِلفِرَاقِ أَنْ يَغْلِبَنَا؟

أَلَا نَلْتَقِي مَرَّةً أُخْرَى،

لِتُصَدِّقِي تَارِيخِي الْمَكْتُوبِ بِنَبْضِ قَلْبِي؟

وَلِتَأوِينِي فِي رَحِمِ رُوحِكِ، كَمَا كُنتُ أُوَلَّ مَرَّةٍ.

 

 

(4) حديثُ الصَّاعِقَةِ

حِينَ رَفَعْتِ كَفَّكِ وَأَعْلَنْتِ القَرَارَ،

كانَ صَوْتُكِ كَسَيْفٍ يَشُقُّ الضَّبابَ،

فَتَصَدَّعَ كِيَانِي،

وَتَاهَتْ جُدْرَانُ قَلْبِي كَقَلْعَةٍ عَتِيقَةٍ،

تُحَطِّمُهَا مَوْجَةُ زَحْفٍ لا يَرْحَمُ.

غَادَرْتِني،

وَتَرَكْتِني وَاقِفًا عَلَى حَافَّةِ العَدَمِ،

حَيْثُ الصَّمْتُ يَحْتَضِنُ صَدَى خُطُواتِكِ،

يَضِيعُ فِي مُتَاهَةِ الزَّمَانِ.

كَأَنَّنِي وَرَقَةُ خَرِيفٍ،

اِقْتُلِعَتْ مِنْ غُصْنِهَا،

تَتَلَوَّى فِي الهَوَاءِ،

بَاحِثَةً عَنْ أَرْضٍ تَحْتَضِنُهَا أَوْ تَبْتَلِعُهَا.

لَمْ أَصْرُخْ،

فَصَوْتِي كَانَ مَكْبَّلًا بِقُيُودِ الحَيْرَةِ،

لَكِنَّ دَمِي فَاضَ فِي عُرُوقِي صَرَاخًا،

وَكُلُّ خَلِيَّةٍ فِيهِ شَهِقَتْ أَلَمًا.

رَأَيْتُ العَالَمَ يَنْطَفِئُ مِنْ حَوْلِي،

أَضْوَاؤُهُ تَتَلاشَى وَاحِدًا تِلْوَ الآخَرِ،

حَتَّى أَصْبَحَتْ عَيْنِي سَجِينَةَ ظَلاَمٍ أَبَدِيٍّ.

وَأَخِيرًا،

أَصْبَحْتُ قَفَصًا مِنَ العَذَابِ،

أَسِيرًا فِي مَحْكَمةِ الفَقْدِ،

حَيْثُ لا حُكْمَ إِلَّا الأَلَمُ،

وَلا قَاضِي إِلَّا الذِّكْرَيَاتِ.

 

(5) حديثُ اللَّعنةِ

اِنْشَقَّتِ السَّماءُ لِسَطْوَةِ حُكْمِكِ،

وَخَطَفَ بَرْقُها الأبْصارَ،

تَصَلَّبَتِ الصُّخورُ ذُعْرًا أمامَ قَسْوَتِكِ،

وَارْتَجَّتِ الأرضُ مِنْ وَطْأَةِ الألَمِ،

وَفَرَّ النُّورُ مُذْعُورًا، لِيَذُوبَ في أَحْضانِ العَدَمِ.

دَفَنْتِ العَدالَةَ تَحْتَ رُكامِ الغابِ،

وَأَعْلَنْتِ شَريعَةَ الوَحْشِ وَالدَّمِ،

وَتَظُنِّينَ أَنَّكِ أَصَبْتِ!

لَكِنَّ التّاريخَ سَيَحْكُمُ عَلَيْكِ، بِجَلْدِ السِّنينِ،

وَسَيَلْعَنُكِ في كُلِّ صَفْحَةٍ مِنْ صَفَحاتِهِ.

أَنا، سَأَكْتُبُ عَنْكِ،

وَسَأَظَلُّ أَكْتُبُ،

حَتّى لَوْ نَفِدَتْ أَحْبارُ الوُجودِ،

سَأَكْتُبُ بِدِمائي على جَبِينِ الأبَدِ،

وَأُجْعِلُ الثَّقَلَيْنِ يَشْهَدونَ خَطاياكِ،

كَمَا يَلْعَنونَ إبْلِيسَ،

في المَشْرِقَيْنِ،

وَفي المَغْرِبَيْنِ.

 

(6) حديثُ الفَجْرِ الجَديدِ

لا زِلْتُ أَخِيطُ العَزيمَةَ،

أَجْدِلُها خَيْطًا خَيْطًا،

أَنْسُجُ مِنْ صَبْرِها حِبالًا لا تَنْقَطِعُ،

تُحَلِّقُ بي بَعيدًا عَنْ أَشْواكِ الطَّريقِ وَأَفْخاخِ الظَّلامِ.

لَنْ أَسْتَسْلِمَ،

سَأَغْمُرُ جِراحي العَميقَةَ بِآياتٍ

تَشْفِي الألَمَ،

وَتُبَدِّدُ الظُّلْمَ،

وَتَطْرُدُ شَياطِينَ البُؤْسِ مِنْ رُوحي.

لَنْ أَسْتَسْلِمَ،

سَأَبْنِيَ سَماءً جَديدةً، لَيْسَتْ كَسُحُبِكِ المُظْلِمَةِ،

بَلْ كَسُحُبِ غَيْثٍ يَرْوي وُجوهَ المَوْتى بِابْتِسامَةٍ،

وَيُضِيءُ لَيْلي بِنُجومِ الأمَلِ السّاطِعَةِ.

سَأَشُقُّ أَرْضًا لَيْسَتْ كَأَرْضِكِ،

فَأَرْضُكِ مَزَّقَتْها الزَّلازِلُ،

وَدُروبُها أَشْواكٌ تَمْتَصُّ الرِّقابَ،

لَكِنَّ أَرْضي… سَتَكونُ خَضْراءَ،

تُنْبِتُ أَحْلامًا ناضِجَةً،

تَمُدُّني بِالقُوَّةِ في كُلِّ خُطْوَةٍ.

لَنْ أَسْتَسْلِمَ،

سَأُبْصِرُ في العَتْمَةِ بِبَصيرَتي،

وَأَشُقُّ طَريقي بِنُورٍ لا يُطْفَأُ،

حَتّى أَكْتُبَ على وَجْهِ الحَياةِ حِكايةَ فَجْري الجَديدِ.

 

(7) حديثُ الوِلادَةِ

مِنْ أَعْماقِ السَّماءِ،

يَصْرُخُ الأمَلُ،

يُلَوِّحُ بِشُعْلَةِ النَّصْرِ،

تَتَوَهَّجُ في قَبْضَتِهِ.

تَشَقَّقَ صَدْرُ الغَمامِ،

وَأَطَلَّتِ الشَّمْسُ مُوَدِّعَةً عَتْمَةَ اللَّيْلِ البَهيمِ،

لِتَفيضَ شِفاهُها بِماءِ الحَياةِ،

يَنْثُرُ قَطَراتِهِ الأُولى على أَرْضٍ عَطْشَى،

يَسْقِي جُذوري الذّابِلَةَ بِالخُضْرَةِ وَالنَّماءِ.

تُصْغي أُذُني لِصَهيلِ الخُيولِ،

جِيادٌ تُعانِقُ أُفُقَ البُطولَةِ بِنَشْوَةِ الانْتِصارِ،

وَأَنا أَهْتِفُ: تَعالَ، أَيُّها الفارِسُ!

فَالتّاريخُ ما زالَ يَنْتَظِرُ خُطاكَ،

وَالمَعْرَكَةُ لَمْ تُطْوَ صَفَحاتُها بَعْدُ،

وَأَحْلامُنا الجَريحَةُ تُضِيءُ جِراحَها بِنُورِ الخُلودِ،

وَتَرْتَوي مِنْ دُموعِكَ أَمَلًا لا يَفْنى.

https://www.youtube.com/watch?v=0uRO11GYgMg

 

                          

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

 

إذا ما وقفتَ على إحدى ذرى جبال طوروس ونظرتَ إلى الأسفل حيث “بريا ماردين”، ستجد قرية صغيرة مرمية هناك كعش طائر القطا، تطل عليها الشمس أوان شروقها لتوقظها متسللة عبر الستائر السميكة المتدلية على نوافذها. إنها قرية كَسَر.

هناك، يعيش “آپـێ ره شو – Apê Reşo”، رجل خمسيني ذو شارب كث، لا يفرّق بين الثقة…

عصمت شاهين الدوسكي

كانت صدفة على هامش الطريق حين التقيته للمرة الأولى. نادى باسمي، رغم أنني لم أعرفه من قبل، كان عام 2017م. كنت قد رحلتُ من الموصل، بعد أن ابتلع الدمار بيتي وسيارتي وأرشيفي الأدبي، إلى دهوك، حيث وُلدتُ، لكنني شعرتُ فيها بالغربة رغم كثرة الأقارب من حولي. كنت…

فراس حج محمد| فلسطين

 

لماذا نحن لم نصرخ بوجه الطائرات؟

لماذا نحن لم نرجم بوارجهم بفوح البارجات؟

لماذا نحن لم نمسح عن الفتيان هذا اليومِ

شرّ الصاعقاتْ

لماذا نحن لم نتقن سوى اجترار الأحجياتْ؟

لماذا نحن ننتظر السؤال نصوغه بمجازه؟

والعجز كلّ العجز في هذا السباتْ

***

لماذا كلّ ما فينا فوات واندثار ومواتْ؟

لماذا يدخلون البيتْ

يأكلون من قصعاتنا

ويلبسون جلودنا

ويشربون دماءنا

ويبصقون في عوراتنا

ونحن هنالك قابعونْ

على…

سعيد يوسف

 

ها هم قادمون… في رتل مهيب. الجميع حضوراً ومتابعين، في حال من الترقب والذهول، والدهشة والخشوع والتوجّس والحذر. الصمت وحده سيد الموقف، لا أحد يستطيع استكناه المشاعر، وحدهم يستطيعون فهم انفسهم وربما لا…

في المقدمة إحدى ربّات السلام والحرية والجمال

في مشهدٍ رمزي مؤلم وتراجيدي محزن… قل ما شئت فلن تكون مخطئاً.

يتقدمون بخطى وئيدة متثاقلة… جاءوا…