فراس حج محمد| فلسطين
لا أقول صدفة، فأنا لا أحبّ موضوع الصدف، ولا أومن فيه، لكنّ شيئاً ما قادني إلى هذا الكتاب، وأنا أتصفّح أحد أعداد جريدة أخبار الأدب المصريّة (عدد الأحد، 26/10/2025)، ثمّة نصّ منشور على الصفحة الأخيرة لـ “نجوان درويش”، بعنوان “بطاقة هُوِيّة”، لوهلةٍ التبس عليّ الأمر فبطاقة هُوِيّة اسم قصيدة لمحمود درويش، وهي المشهورة بــ “سجّل أنا عربي”، هل ثمّة خطأ ما في اسم النصّ أو اسم الناصّ؟ لا يُعقل أن يقع المحرّرون بمثل ذلك.
أعرف نجوان بالاسم فقط؛ صحفيّاً، مسؤولاً عن “العربي الجديد” (سابقاً)، وكنت راسلت الصحيفة عن طريق إيميله، لكنّه لم يكن ليردّ على تلك الرسائل نهائيّاً، ولا لينشر شيئاً من تلك الموادّ التي أرسلها للموقع عن طريق هذا الإيميل، “لا شكّ في أنّ هذا الإيميل معطّل”، هكذا كنت أقول في نفسي، وإلّا لن يكون “نجوان” بهذا السوء حتّى يتجاهل عشرات الرسائل!
ومن الطريف أنّني لم أعرف أنّ الاسم لشخص مذكّر إلّا بعد فترة، فارتبط اسمه عندي بالمذيعة الجميلة في قناة الجزيرة “نجوان سمري”، وزميلة جامعيّة تحمل هذا الاسم أيضاً، جميلة جمالاً لافتاً، وخاصّة شعرها الأسود الطويل المسترسل على متنها المكتنز، أعرف ذلك منها أيّام الدراسة الجامعيّة الأولى قبل أكثـر من ثلاثين سنة، امرأة بيضاء، لحمها طريّ، كالحليب! هذه ليست أوّل مرّة يحدث هذا الالتباس الذكوري الأنثوي؛ فحدث مع أسماء أخرى، أذكر منها رجاء النقّاش ومنار مخُّول، ويا للمفارقات اللئيمة أنّ هذه الأسماء كلّها لأشخاص ذكور.
لم أكن أعلم أنّ نجوان شاعر، بحثت قليلاً، فعرفت كثيراً عنه، وعرفت أسماء كتبه، ومن بين تلك المجموعة شدّني ديوان “قصيدة فبركة“، بحثت عن نسخة إلكترونيّة من الديوان فلم أجد، وشدّني أيضاً هذا الكتاب “رسائل من سُرَّة الأرض“، ومن حسن الحظّ أنّه متوفّر بنسخة إلكترونيّة، وفيه وجدتُ “قصيدة فبركة“، فَرِحت بالكتاب من أجل عنوانه، وستدركون السبب في ثنايا هذه القصّة.
الكتاب صغير الحجم؛ إذ لا تتجاوز صفحاته التي على المرء أن يقرأها، التسعين صفحة. كتابٌ مكوّن من مجموعة موادّ نثريّة وشعريّة، مقالات، ورسائل، حول فلسطين، شارك في كتابتها نخبة من الكتّاب، فلسطينيّون وعرب، وثمّة موادّ مترجمة لكتّاب غيـر عرب، كتاب بهذا الحجم وبهذه الكيفيّة مناسب جدّاً للقراءة عن (اللابتوب) أو الهاتف النقّال.
أحبّ هذا النوع من الكتب لجملة من الأسباب، أوّلاً لصغر الحجم، فهي تشجّع المرء على القراءة، وخصوصاً بعد فتـرة رقود والابتعاد عن القراءة، بفعل العمل، والمرض، والانشغالات العائليّة، وحضور موسم الزيتون؛ فالزيتون طقوسه متعبة، وخاصّة لشخص مثلي، لكنّني لا أستطيع إلّا أن أشارك العائلة في هذا الموسم، لأنّني أراه- بصلةٍ غيـر مفهومة- يشبه طقوس رمضان، ربّما لطابعه العائلي والاجتماعي العامّ، ومشاركة الصغير والكبير فيه، وكذلك حضر الزيتون في كتاب “رسائل من سُرَّة الأرض“، لكنّني لا أظنّ أنّ التسمية نابعة من الزيتون السُّرّي أو “الصّرّي”. على أيّة حال سأؤجل موضوع التسمية إلى آخر هذه الكتابة. هذا النوع من الكتب إذاً مغرٍ بالقراءة في أجواء متعبة كهذه.
وثاني هذه الأسباب أنّ تعدّد الكتّاب في كتاب واحد يجعلني أكثر شجاعة لأرى كلّ من كتبوا، بحيث لا أمكث مع أحدهم سوى رحلة قراءة لا تمتدّ إلّا ربع ساعة على الأكثر، هنا الكتّاب يجدّدون نشاطي، أشعر بالإنجاز، فأجمع قدرتي لأرى الآخر والذي يليه، وهكذا حتّى أنتهي، ويتّصل بتنوّع الكتّاب سبب ثالث متّصل بتنوّع المادّة ما بين شعريّة ونثريّة، والنثريّة الموزّعة بين فنون متعدّدة، يوميّات، ورسائل، ومقالات، وشهادات، ومحاضرات، وتنوّع الأساليب والأمزجة الثقافيّة، هذا كلّه يكسر روتين القراءة التي تأخذ طابعاً واحداً كالرواية أو الكتاب البحثي.
وأمّا رابع هذه الأسباب فيعود إلى ما أعمل عليه من كتاب “الوقوع في اللهب- فصول من المحاكمات الجائرة“، وفيه مادّة تبحث في السّرّة من الجسم الأنثوي، وتتبّعت ورود هذه اللفظة في الشعر قديماً وحديثاً، وفي الرواية، ليأتي هذا الكتاب ليضيف بعداً آخر أكثر مجازيّة وشعريّة على لفظ السُّرَّة، ليغدو لها معنى يتجاوز معناها المعجمي العربي. ذكّرتني هذه التقنية من العنوان بعنوان كتاب “نهد الأرض” للفيلسوف الفلسطيني الصديق د. أحمد نسيم البرقاوي، فثمّة شبه كبير بين العنوانين في الصياغة “سرة الأرض/ نهد الأرض“، وفي نقل الدلالة من الحسّي المباشر إلى المعنى المجازي، واتّكاء الكاتبين على الجسد البشري في هذه الاستعارة، وبهذا تستطيع اللغة بقوانينها العبقريّة أن تثوّر الألفاظ، وتحقنها بالمعاني البلاغيّة، وخصّصت لهذا الكتاب “رسائل من سرة الأرض” فقرة في كتاب “الوقوع في اللهب- فصول من المحاكمات الجائرة“، تدور حول هذه النقلة الدلاليّة في ما يتّفق ومعناها المجتلب من اللغة الإنجليزيّة التي تعني “المركز” في ما تعنيه من المعاني، هذا المعنى المفقود في المعجم العربي للفظ “السّرّة”.
أمّا الأسباب الموضوعيّة- نسبة إلى الموضوع- التي جعلتني أقرأ الكتاب في جلسة واحدة أنّ فيه ذلك الحديث الشجيّ عن فلسطين وعذاباتها الإنسانيّة لأشخاص من غزّة، ومن القدس، ومن الشتات، ومن المتضامنين العرب وغير العرب، كل منهم كتب وجهاً من وجوه التعب الفلسطيني، من الهمّ الشخصي؛ حيث نجوان وصديقه الغزّيّ المريض بالسرطان، وحتى الهمّ السياسي العامّ المتمثّل في حديث كمال بُلّاطة عن الفنّ التشكيلي وعن القدس، وحديث نجوان عن أوسلو، المدينة والاتفاقية، وما بينهما من تضادّ مرَضي كبير. أعجبتي هذه المادّة، وخاصّة ما أشار إليه نجوان أنّ ثمّة ملاحق سرّيّة للاتّفاق تمّ التخلص منها، وقال: “إنّ تيري رود لارسن وزوجته أخفيا الملفّات الخاصّة بالاتّفاقية بعد انتهاء عمل تيري في وزارة الخارجيّة النرويجيّة، بطريقة تذكّر بـ “تضييع” ملفّات الصفقات المشبوهة“. كما أنّ نجوان تحدّث عن المثقّف المدجّن في “منظمة التحرير الفلسطينيّة” ثمّ في مؤسّسات أوسلو، متحدّثاً عن ذلك الدور المشبوه لهؤلاء المنتفعين الواقفين ضدّ كلّ شخص يعارض أوسلو أو ينتقد تلك الاتّفاقيّة المشؤومة، هذا النوع من المثقّفين، هم مثقّفو أوسلو؛ مروّجي الخراب النفسي لدى عامّة القراء، وأنتجو أدباً مخصيّاً بطبيعة الحال، وكثيراً ما تحدّثت عنهم في مقالاتي وكتبي، لا سيّما في كتاب “استعادة غسّان كنفاني“، وكتاب “بلاغة الصنعة الشعرية“، ولمزيد من بحثها ألّفت كتابين ما زالا مخطوطين، الأوّل “الواقع الثقافي في فلسطين“، والآخر “المثقّف في صورة نبي“.
لفتني جدّاً حديث بُلّاطة في إحدى شهادتيه الفنّيّتين عن المربّع والدائرة، وأعادني هذا إلى ما كتبه إبراهيم نصر الله في روايته الطريفة “مأساة كاتب القصّة” حول المربّع والدائرة، والعلاقة بينهما، لعلّ حديث بُلّاطة عن هذين الشكلين الهندسيّيْن يجعل الناقد يفهم بشكل أعمق الرواية ومسألة التربيع والتدوير فيها، ويلخّصها بُلّاطة بقوله: “لم يطل الوقت حتّـى تعلّمت أنّ المربّع والدائرة كانا، منذ أقدم العصور، مشحونين بالدلالات الرمزيّة والفلسفيّة في أغلب الأحيان، كان شكل المربّع بمحاوره الأربعة التي أشارت إلى الجهات الأربع للمكان هو الذي يرمز إلى دنيا الأرض، فيما كان شكل الدائرة يمثّل الكرة السماويّة. وكثيراً ما وصف دوران المربّع داخل الدائرة بكونه تربيع الدائرة. وفي ذلك يكون محيط المربّع متساوياً عمليّاً مع محيط الدائرة. وخلال الرسم الهندسي الذي التقى فيه المربّع بالدائرة، بدا محيط الشكل النهائي قادراً على التعبير عن أبعاد اللانهائي، وهكذا…“.
هذا الأمر في تجلّيه المعنوي العميق، يؤكّد مرّة أخرى أنّ الروائي إبراهيم نصر الله- وأيّ روائي آخر- هو “رسّام، بفنّه ماهر” على رأي ديانا حداد، ليحوز لقب “روائي شاطر”! وعليه فإنّ نصر الله يعرف تلك العلاقة الهندسيّة بين الشكلين الهندسيّيْن؛ المربّع والدائرة، فاستفاد ممّا فيهما من دلالات فلسفيّة لينقل المفهوم من الهندسة والفنّ التشكيلي إلى السرد الروائي، فلا يمكن أن يوظّفهما في رواية كهذه دون أن يكون مستنداً إلى معلومات علميّة مؤكّدة. ولكن…
هل يمكن أن يكون نصر الله قد اطّلع على شهادة كمال بُلّاطة قبل أن تنشر في هذا الكتاب، أو لعلّه قرأها فيه، عدا أنّ هذه الشهادة مطبوعة في الأصل في كتيّب عن معرض فنّي لبُلّاطة يحمل اسم “سُرَّة الأرض“؟ من المحتمل جدّاً؛ فكتاب نجوان من مواليد عام 2011، ورواية نصر الله ولدت بعد هذا الكتاب بعشر سنوات (2021)، وعلى أيّة حال فإنّ هذا إن حصل فليس عيباً أو منقصة، بل إنّه فعل ممدوح، وله دلالته المهمّة؛ فالكتابة تجرّ الكتابة، كما أنّ القراءة تجر قراءات غيرها، وهكذا كلّ فعل ثقافي؛ فإنّه مؤهّل في ذاته ليشكّل من ذاته انقسامات ثقافيّة، مكوّناً “سلاسل” ثقافيّة تتطور ذاتيّاً أو بفعل غيرها من الأعمال حسب قوانين التلاقح الفكري، فلا شيء يولد هكذا من العدم، وإلّا من أين ولد مفهوم التناصّ، والتلاصّ، ومفهوم الأدب المقارن، وغيرها من المفاهيم النقديّة التي تربط الأعمال الأدبيّة بعضها ببعض وتكشف عن العلاقات المختلفة بينها وبين كتّابها؟
والآن، هل يحقّ لي أن أسأل من أين جاء اسم الكتاب “رسائل من سُرَّة الأرض“؟ بعيداً عن تلك الرسالة المنشورة في الكتاب، فإنّ كلّ مادّة من موادّه هي رسالة نابعة من “سُرَّة الأرض” فلسطين، إن كانت “الأرض” ذات مدلول كونيٍّ عامّ؛ الكرة الأرضيّة، أو العالم. أو نابعة من القدس إن كانت “الأرض” ذات مفهوم خاصّ، لتعني فلسطين، وكأنّ فلسطين سُرَّة العالم، وسُرَّة السُّرَّة هي القدس، ولكنْ، هل تحتمل السُّرّة أن تتضمّن سرّة أخرى؟ نعم في هذه الحالة من العموم والخصوص، وفي الحالة اللغويّة من المجاز، ونقل الدلالة.
ومهما يكن من أمر، فلم يضع الوقت سدىً وأنا أقرأ، فالكتاب مهمّ، وجدير بالقراءة، وثمّة مفاجآت معرفيّة فيه، تغذّي عقل القارئ، إضافة إلى أنّها تعزّز فيه الاتّجاه المقاوم ضدّ الخراب والعدميّة والعبث و”ثقافة الاستسلام” الأوسلويّة، وفي هذا تغذية لإحساسه المرهف ضدّ ضياع فلسطين أو ما قد تبقّى منها على الأقلّ في الأدب، شعره ونثره، وفي الفنّ التشكيلي.