فواز عبدي
حين وقعت بين يديّ المجموعة الشعرية “مؤامرة الحبر، جنازات قصائد مذبوحة”[1] للشاعر فرهاد دريعي، وأردت الكتابة عنها، استوقفني العنوان طويلاً، بدا لي كمصيدة، كمتاهة يصعب الخروج منها فترددت في الدخول، لكن مع الاستمرار في القراءة وجدت نفسي مشدوداً إلى القصيدة الأولى بما تحمله من غنى وتعدد في المستويات، فهي تكاد تكثف فلسفة المجموعة كلها، وكأن الشاعر يستخدمها مفتاحاً لفهم بنية العمل، لذلك اخترت أن تكون محور هذه القراءة.
لكن قبل الدخول في دراسة القصيدة يجب القول إن غنى الصور الشعرية وتكثيف الرموز، لا يخفي غياب علامات الترقيم في المجموعة، هذا الغياب مع عدم التعويض بتوزيع بصري مدروس للجمل، جعل بعض المواضع متشابكةً وأثقل على القارئ مهمة استعادة الإيقاع الداخلي. كان من الممكن للترقيم أو التوزيع المدروس أن يمنح النصوص لحظات تنفس ضرورية.
القصيدة تحمل عنوان “اغمره بالملح جرحك”. وتأتي بعد المقدمة مباشرة وتحتل الصفحات (9 – 16) وكأنها عتبة الدخول إلى باقي قصائد المجموعة. تكشف لنا أسلوب الشاعر وفلسفته الشعرية، وتقدم منذ البدء ثلاثية الألم والذكرى والمنفى بوصفها جوهر التجربة. فهي استعادة للحظة عشق في قامشلو، لحظة شديدة الحميمية، لكنها مطعمة بملح الفقد والمنفى، ماضٍ لن يشفى منه الشاعر إلا بمزيد من الملح.
وإذا ما دققنا في العنوان، نلاحظ أنه جاء بصيغة المخاطب المفرد : أنت. اغمره بالملح. هنا يتوقف القارئ قليلاً يفكر: ما الذي يجب غمره بالملح؟ (الملح، بوصفه مادة حافظة، يُستعمل لحماية الشيء من الفساد) لكن الصدمة تحدث حين نكتشف أن المطلوب غمره هو الجرح ذاته.
وهنا تنفتح دلالات الملح:
- في العرف العام: يوضع الملح على الجرح فيؤلمه أكثر.
- وفي الطب القديم والصوفي: الملح يطهّر الجرح كي يشفى.
وكأن الشاعر يريد أن يقول لنا ضمناً:
الشفاء لا يأتي إلا بمزيد من الألم، والذاكرة لا تُحفَظ إلا بالملح، والكتابة نفسها فعل مقاومة، فعل تطهير.
تبدأ القصيدة بقول الشاعر:
/ تماماً كقهوتها إذ تُدلَقُ /في جموح الأكرليك /دعها تتجلى في الاكتمال /لؤلؤة تموج بالضوء /على نحر بحر /أو كطيف قزحيّ /يشع من أفق بعيد/
هنا يبدو الشاعر ممتلئاً بالأمل، يغوص في عالم الخيال، فهو لا يقرأ الفنجان كما يفعل العرّافون، بل يقرأ القهوة بعد أن تُدلَق لتتحول إلى لوحة فنية توقظ أحلامه؛ فيخاطب نفسه بـ “دعها” ومع هذه الدعوة تكتمل اللوحة أمام آماله الواسعة الممتدة من طفولته إلى قوس قزح يزين سماء أحلامه. وفي قمة اندماجه بلوحته المكتملة يتذكر أنه غريب، حيث تعود به الذاكرة إلى أجمل أيامه، حين كان يقف بانتظارها وهو الفتى المراهق على تقاطع شارعين، هذا الفتى المرتبك برؤيتها رغم انتظاره لها، ذلك الفتى الذي يحفظ رائحة البابونج واليانسون التي تسبق خطواتها عادة.
يوثق الشاعر بذلك مشهداً بدائياً للحب في مدينة حية، قبل أن يوثق اسم أول وأقدم مكتبة في قامشلو؛ مكتبة مديواية كرمز للثقافة وتشكل الوعي الجمعي، هناك حيث يقف المراهق عاجزاً خجولاً:
أتذكر أيها الغريب/ إذ كنت تنتظرها/ …./أمام مكتبة مديواية/.
ويتحول العشق إلى ألم، حيث يتصاعد القلق ويتحول الشاعر من عاشق إلى رجل منفي فيسيطر عليه الحزن الذي لا يكتفي بالسكن في داخله، وإنما يتحول إلى أغنية كردية هاربة – وهي المعروفة بأنها تتشح بالحزن حتى في قمة الفرح:
/فأمسيتَ حزيناً/ كحكاية مخزّقَة وَجوم/ كأغنية كردية/ فرّت من جحيم الكيمياء إلى متن غيمة/ لتودع مأساتَها في جعبة السماء/.
ثم يتابع:
وأمسيتَ تتبع عينيها أيها الغريب…
هنا يتحول السلوك العاطفي إلى هوَس بصري، لم يعد الأمر إعجاباً، بل قبضة رؤية لا تنفلت.
يجعل الشاعر من العينين مركز الثقل الرمزي؛ فهما:
/نجمتان هاربتان من سديم/
أي أنهما ليستا ضوءاً عادياً، بل ضوءٌ لا زمن له.
وعندما يقول إنهما /تمهران صكّاً وثني الإمضاء/، فإن هذا الصك يعيدنا إلى عهود ما قبل الأديان: عهد بدائي صادق، غير ملوث بالبراغماتية.
الصك هنا قيد داخلي يشعل شموعاً لقدّاسٍ لا علاقة له بالحب الهادئ، بل بـ”السُّعار” –ذلك الهوس المحترق الذي يخلط اللذة بالخوف، والرغبة بالألم.
ثم تتشظى الصورة مثلما تتشظى المرآة:
/من شدقي مرآة نصف مكسورة/..
المرآة هنا لا تظهر الوجه كما هو، بل تظهر ما انكسر فيه.
هكذا يتجسد الغريب في الشاعر نفسه، وكأنه يرى نفسه من زاوية واحدة، ويغيب عنه النصف الآخر.. وهكذا ينسجم النص مع الحزن الذي بدأ يتكثف منذ وصفه بـ/أغنية كردية فرت من جحيم الكيمياء/ ليصل إلى /ندبة كافرة/، وهي صورة تشي بالتمرد، حيث الندبة أثر وجودي، لا جلديّ.
تأتي بعدها صورة /صرَّة الأسرار/، وهي صورة محلية انتقلت من زمن الجدة التي كانت تخبئ فيها أغلى مقتنياتها وتخبئ الصرة في مكان لا تطاله الأيدي، إلى زمن الحفيد المغترب الذي يخبئ فيها أسراره الكبيرة؛ من صمت ثقيل ومعاناة مضغوطة.. وربما يسلمها للريح التي لم تحمل أجنحة الطيور المهاجرة إلا إليها؛ تلك المرأة التي أصبحت بوصلة الرحيل والتي هي وجه الهجرة وسببها في آن.
وتتصاعد الذاكرة إلى ذروة حسية في قوله:
/إذ في لهفة ثغت/ حَبَتْ/ خلف دفّتي حديد…/
الثغاء هنا صوت المواليد الجدد، صوت الخراف المحبب لدى الطفل البريء الذي يخطو أولى خطواته إلى العالم.. لكن هذه الطفولة تقف خلف دفتي باب حديدي مثل أبواب البيوت القديمة في قامشلو حيث يسمع العاشق الخطوات قبل أن يرى الوجه.
ثم يتدفق المشهد إلى استعارة قاسية حين يتحول الحنين إلى حيوان مفترس يبتلع مجرى النهر/الحياة.. حين يقول:
/غدا النهر فيضاً يفترسه الحنين/ فالحنين الذي يفترض أن يسقي الذاكرة، يلتهم الحياة ويجعلها خارج السيطرة..
يأتي بعد ذلك المشهد الأكثر نعومةً:
/غدا ريشة ترسم قطرة ندى فوق بتيلة ياسمين/
هنا يصبح الحنين فنّاً، والجسد (بتيلة الياسمين) ناعماً مستسلماً للريشة.. وياسمين الشاعر هنا هو ياسمين قامشلو، ياسمين الأمكنة الأولى، وليس الياسمين الدمشقي! ليعود إلى مواجهة نفسه مباشرة:
/أيها الغريب / أصابعك البلهاء ما عرفت الرهاب../
فالغريب هنا الشاعر نفسه؛ ذاته القديمة التي لم تعرف كيف تلتقط اللحظة.. وبقيت “بلهاء” رغم التوتر.
وتأتي الجملة الفارقة التي تظهر فلسفة الشاعر في الحب:
/فالحب قيد فاخر / والوحدة حرية موحشة /.
الحب قيد نعم، لكنه القيد الوحيد الذي يتقبله الإنسان برضاه.
والوحدة حرية، لكنها باردة، لا دفء فيها، حرية لا تحتمل.
يتصاعد اللوم الذاتي، فيتحول إلى خوف، ثم إلى فاجعة:
/ والفاجعة ما تنفك تلذع عينيك / وتدمغ صدغيك بحبر الاقتراع الأزرق /.
حبر الاقتراع الأزرق رمز للمشاركة السياسية، وكأن الشاعر يقول:
حتى الانتماء صار وجعاً
حتى حقوقك صارت ندبة.
ثم تأتي واحدة من أهم الأسئلة في القصيدة:
/ أمازلتَ تهفو لسرابٍ يتراقص فوق حَلَمَتَيْ قامشلو؟/
فقامشلو هنا ليست مكاناً فحسب، وإنما جسد أنثى، جسد ينهض ويشتهي ويتنفس، لكنه جسد بعيد، يتحول إلى سراب.
وتبلغ الأسئلة ذروتها حين يواجه الشاعر نفسه في لحظة سقوط:
/ ها قد هويتَ في جب الوجع، فمن سيفزع لك؟/
استعارة الجب تحيلنا إلى قصة يوسف، لكن الفرق أن الجب هنا هو جب الوجع، لا نجاة منها، لا قافلة تمر، ولا أخوة،
وتأتي النهاية عبر التناص الأسطوري:
/ كيف لعوليس أن يشق مَتْنَ الموج ليعود إلى إيثاكا؟/
في هذا المقطع يستدعي الشاعر عوليس/أوديسيوس، البطل الأسطوري الذي خاض رحلة طويلة مليئة بالمحن ليعود إلى إيثاكا. لكن الاستدعاء هنا إسقاط وجودي: فأوديسيوس هو الشاعر، وإيثاكا هي قامشلو.. والشاعر يعلم تماماً أن العودة أصبحت مستحيلة، رغم أنه /اعتاد أن يهرع / كلما بدا أعلى سارية تقبل من آخر الماء/.
/ثم تصل خاوية/ لشاطئ شترالزوند الباهت/ ترفع إصبعها الوسطى/
هكذا تختتم القصيدة بصورة قاسية ويقف الشاعر مكسوراً من تلك الإشارة المهينة التي تختصر السخط. تلك الإشارة التي تقول: إن البحر لا يستقبل والمدينة لا تعود كما كانت، والمنفى لا يمنحك دفئاً أيها الغريب.
الإشارة إعلان واضح وصريح: لقد انتهى كل شيء بالخيبة.
هكذا تنتهي القصيدة بصفعة، لا ببوابة عودة، لنفهم في النهاية الرسالة الكامنة في العنوان:
الجرح الذي تغمره بالملح.. لن يشفى. لكنه سيبقى حقيقيّاً.
[1] فرهاد دريعي، مؤامرة الحبر/جنازات قصائد مذبوحة. منشورات دار الزمان، ط1، دمشق 2025